لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. بعد أن استعاد مولاي العربي، قواه، وتمكن من المشي مجددا على قدميه بعد أسابيع طويلة من المعاناة بمستشفى مدينة خريبكة سنة 1933. قرر أن لا يعود أبدا إلى النزول إلى مناجم الفوسفاط، باحثا عن آفاق أخرى لكسب قوت يومه، فكان القرار هذه المرة هو مغادرة المغرب. من أنضج تلك الفكرة في ذهنه؟. لا أحد يملك الجواب. الأساسي حينها، أنه شاب في العشرين من عمره، استعاد عافيته، وتغيرت شخصيته كثيرا، وأنه بعد كل امتحان في طريق الحياة، يقرر ألا يعود أبدا إلى قريته وإلى حضن والدته وعائلته بالجنوب المغربي السوسي بشتوكة آيت باها. بل إنه يركب تحديا أكبر من سابقه، من أجل الوصول إلى صورة النجاح التي يريدها لنفسه. وكانت الوجهة هذه المرة هي الجزائر. من أقنعه بذلك، من نصحه بالسفر إليها، وبالضبط إلى منطقة "البليدة" غير بعيد عن الجزائر العاصمة؟. لا جواب حاسم مرة أخرى. الحقيقة، إن عددا من المعطيات التاريخية لسنوات الثلاثينات والأربعينات من القرن 20، تقدم لنا ملامح الجواب الفاصل حول سر اختيار مولاي العربي، الهجرة صوب الجزائر. ذلك أن حال المغرب في نهاية العشرينات وطيلة الثلاثينات، قد جعلت الأوضاع فيه جد متأزمة أمنيا واقتصاديا، بسبب مسلسل "حروب التهدئة" التي كانت تنفذها السلطات الإستعمارية الفرنسية في أغلب المناطق الجبلية بالمغرب. وهي المناطق الأمازيغية أساسا (سواء في الأطلس الكبير أو الأطلس الصغير أوالأطلس المتوسط)، إذ في هذه السنوات وقعت المعارك الكبرى ضد موحى وحمو الزياني في العشرينات، ثم المعارك ضد قبائل سوس وقبائل آيت باعمران سنة 1934، ثم المعارك ضد قبائل آيت عطا سنة 1936. يضاف إلى ذلك، اتساع نفوذ وغطرسة القواد الكبار بتلك المناطق الجبلية الشاسعة والكبيرة (أشهرهم الباشا التهامي لكلاوي، الذي كان يوصف ب "سلطان الجنوب"). مما كانت نتيجته حدوث نزيف هجرات للآلاف من أبناء تلك المناطق هربا من "كلفة" القياد ومن قوانين ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين، صوب الشمال. أساسا صوب الدارالبيضاء، لكن أيضا صوب مناجم الفوسفاط بخريبكة ومناجم الفحم الحجري بجرادة. وأيضا صوب الغرب الجزائري، خاصة منطقة وهران، التي كانت مجالا واعدا بإمكانيات العمل حينها. لهذا السبب، فإن دراسة معمقة لتاريخ الهجرة المغربية في العشرينات والثلاثينات، ستمكننا من اكتشاف معطى سوسيولوجي مهم، هو أن الهجرة المغربية صوب الغرب الجزائري في تلك السنوات كانت ريفية وسوسية بالأساس. وليس مستغربا أن المئات من العمال الفلاحيين ومن التجار الصغار بوهران ومغنية وتلمسان وحتى البليدة، هم مغاربة أمازيغ إما من الريف أو من سوس. وهذا أمر تواصل سوسيولوجيا وتاريخيا حتى أواسط السبعينات، وإلى اليوم هناك عائلات كثيرة العدد بالجزائر من أصول ريفية وسوسية. بالتالي، فإن اختيار مولاي العربي الهجرة سنة 1934 إلى الجزائر، إنما جاء ضمن هذا السياق الذي أطر حركة الهجرة المغربية صوب الجزائر بحثا عن فرص عمل أفضل. لماذا الجزائر؟. لأنها بعد 1930، أصبحت ورشا مفتوحا للتنمية من قبل فرنسا. ليس فقط لأن باريس احتفلت بالذكرى المئة لاحتلالها للجزائر عبر برامج ومشاريع تنموية واقتصادية مهيكلة، على مستوى البنية التحتية للبلد. بل، لأن الجزائر أصبحت الحديقة الخلفية لفرنسا بعد أزمة 1929، وأيضا بسبب المخاطر التي بدأت تطل برأسها على أروبا، المتمثلة في الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية. فأصبح الرأسمال الفرنسي ينقل جزء كبيرا من استثماراته صوب الجزائر، التي كانت الجغرافية المغاربية الأكثر استقرارا حينها مقارنة بحال المواجهات المسلحة في كامل التراب المغربي. ولهذا السبب كان إغراء الهجرة إليها كبيرا في صفوف الشبيبة المغربية الباحثة عن فرص عمل جديدة في الثلاثينات والأربعينات. ومولاي العربي كان واحدا منهم، الذي مؤكد أنه هاجر إليها عبر شبكة المهاجرين السوسيين، وتوجه رأسا باختيار مفكر فيه مسبقا، صوب "البليدة"، التي قصدها أكيد عبر القطار الجديد الرابط بين الدارالبيضاء والجزائر العاصمة، الذي دشن في نهاية العشرينات. كانت "البليدة"، التي تبعد عن الجزائر العاصمة ب 50 كلمترا، مدينة واعدة حينها بساكنة تصل إلى 36 ألف نسمة تبعا لإحصاء 1931. بالشكل الذي جعلها نوعا من رئة العاصمة التي تزودها بالخضر والفواكه والمياه وأيضا بعض الصناعات الغدائية مثل الحليب والتبغ. مثلما كانت منتزها لسكان العاصمة بفضل ثلج أعاليها بمنطقة "الشريعة" ومغاراتها التاريخية ب "مضايق الشفة" ومحمياتها الغابوية لشجر الأرز. وبسبب تساقطاتها المطرية والثلجية الكثيفة فإنها كانت تتعرض كثيرا للفيضانات، التي تتلف محاصيلها الزراعية وتتسبب في كوارث عدة، خاصة فيضان وادي "السيكو". مثلما أن تزايد استهلاك المياه، قد جعل في سنة 1930 مدينة البليدة مهددة بالعطش بسبب نضوب مياه عين "سيدي لكبير" التي ظلت من قبل تزودها بالمياه الصالحة للشرب (في عدد 1 نونبر 1930 من جريدة "تيل" نجد مقالة تدق ناقوس الخطر بالعطش هذا). فكان القرار هو إلحاحية بناء سد بالمنطقة يحميها من الفيضانات ويوفر مياه السقي ومياه الشرب للمدينة ولباقي منطقة سهل "متيجة" الذي يحيط بالمدينة. وهو المشروع المهيكل الذي شرع فيه في بداية الثلاثينات. هذا السد، هو الذي سيعمل به مولاي العربي حوالي سنة ونصف السنة (1934/ 1935)، قضى منها سنة كاملة وهو يعاني في صمت من ظاهرة صحية غريبة، لم يفهم سببها أبدا، ولم يفاتح فيها أحد طبيا حينها. وهي أنه ما أن تغرب الشمس حتى يصاب بالعمى الكامل، ولا يستعيد قدرته على الرؤية والنظر سوى مع طلوع الشمس. بمعنى أن مولاي العربي الشابي قد أصبح "أعشى" سنة كاملة (والأعشى هو من لا يرى في الليل). هل السبب راجع لآثار الأدوية التي كان يتناولها بعد الكسر الذي أصابه في حوضه بمناجم الفوسفاط بخريبكة سنة قبل ذلك؟. طبيا، صعب الجزم بذلك، حتى والتفسير العلمي أن من يصاب بالعمى بليل إنما السبب فيه نقص حاد في "الفيتامين أ." (V.A). والظاهر أن مولاي العربي كان حينها بسبب تبعات إصابته الخطيرة في مناجم الفوسفاط بخريبكة قد كان يعاني من نقص في هذا الفيتامين. الذي جعله يشبه الشاعر الجاهلي العربي الشهير "الأعشى" (عاش بين سنوات 570 و 629 ميلادية)، صاحب البيت الشعري الشهير: "كناطح صخرة يوما ليوهنها/ فلم يضرها، وأوهن قرنه الوعل".