لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كانت مناجم الفوسفاط بخريبكة، في أول العشرينات من القرن الماضي، وعدا مهنيا جديدا على كل السواعد المغربية القادرة على العمل. لأنها مجال عمل جديد عليهم، مختلف بما يمنحه من أسباب كسب دخل مالي قار. ويعتبر ذلك، من الناحية السوسيولوجية، واحدا من عناوين التحول في حياة المغاربة، كونهم بدؤوا يجربون معنى أن يكونوا عمالا أجراء في المناجم، بمنطق نظام المدينة الغربي الحديث. وذلك ما سيحدث أساسا في مجالين منجميين كبيرين هما الفحم الحجري (بمدينة جرادة)، ثم الفوسفاط (بمدينة خريبكة أساسا). المثير، أنه بالعودة إلى تاريخ هذه المناجم المغربية، الوازنة في إستخراج معادن جد مهمة في دورة الإقتصاد الصناعي بالعالم، حينها، مثل الفحم الحجري والفوسفاط (قبل اكتشاف البترول وتحوله إلى مصدر الطاقة الأول بالعالم) مما مكن فرنسا الإستعمارية أن تستغلهما، بشراهة، لربح مكاسب حاسمة لها في دورة الإنتاج المالية بالعالم. أقول، المثير، أنه بالعودة إلى ذلك التاريخ المغربي الخاص، سنكتشف أن جزء وازنا من اليد العاملة في كلا هذين القطاعين المنجميين، سواء في جرادة أو في خريبكة، قد جاء من سوس ومن الأطلسين الكبير والصغير. والسبب راجع لأمر، قليلا ما انتبه إليه (ما عدا الدراسة القيمة للمؤرخ المغربي ألبير جرمان عياش حول "الحركة النقابية بالمغرب 1919 ? 1942")، هو أن أبناء تلك المناطق السوسية والأطلسية الأمازيغية، قد كانت للكثيرين منهم خبرة ومعرفة ودراية بعمل المناجم. بسبب كون جبال الأطلس الكبير والصغير قد اشتهرت منذ العهد الموحدي والسعدي بمناجمها الخاصة بالنحاس والزنك والفضة، لعل أشهرها وأقدمها منجم "الزكندر" بمنطقة سيروا غير بعيد عن بلدة تازناخت، والذي ذكره حتى ابن خلدون في كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". لهذا السبب، ليس مستغربا أبدا أن نجد مولاي العربي الشابي الشتوكي، في سنة 1930، بعد أن وجد نفسه غير مرتاح مهنيا في مدينة مكناس التي هاجر إليها من مراكش في ذات السنة، يتجه رأسا صوب مناجم الفوسفاط بخريبكة. لأن السبب كامن في أن أقران له سوسيين كثر كانوا يتوجهون للعمل هناك، بكل ما كانت تعد به تلك المهنة الجديدة ل: "المنجمي" (MINEUR)، من إمكانيات الحصول على أجر قار، وفي ظروف عمل "منظمة" على مستوى ساعات العمل وأيام العطل. ما جعل الفتى مولاي العربي وهو بالكاد في 17 من عمره، وأخبار أهله وبلدته بعيدة عنه، يقرر ركوب مغامرة السفر إلى مدينة هضبة الفوسفاط: خريبكة. المدينةالجديدة، التي خرجت من العدم، لأنه إلى حدود 1919، لم تكن هناك مدينة إسمها "خريبكة"، بل إن الفوسفاط هو الذي خلق المدينة تلك في أرض فلاحية خلاء من بلاد "أولاد عبدون"، الممتدة بين مدينة أبي الجعد بزاويتها الشهيرة لمولاي بوعبيد الشرقي، وبلاد أمزاب ب "صلاحها" الكثر شمالا وغربا، ثم بلاد تادلة جنوبا وشرقا. لقد كانت خريبكة إذن، نوعا من "الإلدورادو الجديد" لليد العاملة المغربية الوليدة. وليس اعتباطا أن أول البدايات الجنينية للعمل النقابي العمالي قد ولد بها وبجرادة سنة 1920. ويستطيع المرء الجزم، أن الوعي السياسي لمولاي العربي الشابي الشتوكي، في معناه المؤطر والمنظم، قد ولد هناك، باكرا، في مناجم الفوسفاط بخريبكة. هو الذي كان يحمل معه أصلا من منطقته بالجنوب السوسي بشتوكة، أثر تربية وطنية مقاومة منذ انخراط أعمامه (من زاوية الشرفاء الأدارسة بآزاريف) وأخواله (خاصة خاله الفقيه المقاوم الوطني، مستشار الشيخ مربيه ربه والشيخ النعمة، العلامة سيد الحاج الحبيب مؤسس زاوية ومدرسة تنالت)، في مقاومة التغلغل الإستعماري الفرنسي بسوس وآيت باعمران ما بين 1912 و 1934. لقد غيرت، إذن، مناجم الفوسفاط وعي مولاي العربي بالكامل، لأنه بدأ يتفتح وعيه الشاب (بين سن 17 و 20 سنة، لأنه قضى ثلاث سنوات بخريبكة بين 1930 و 1933)، على مبادئ الحركات النقابية العمالية الفرنسية، كما كانت تبلورها تنظيمات الحركة النقابية لجمعية المنجميين الفرنسية. وهي التنظيمات التي كانت تجر وراءها تاريخا نضاليا عماليا، وتأطيريا على المستوى النقابي، ممتدا على أكثر من قرن من الزمان بمناجم الفحم بفرنسا. وكانت الأفكار الغالبة حينها هي أفكار الزعيم الفرنسي اليساري جون جوريس، وكذا أفكار التنظيمات الشيوعية الفرنسية، خاصة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918، وبعد الأزمة العالمية لسنة 1929. دون إغفال أثر ثورة بن عبد الكريم الخطابي ومعركة أنوال الشهيرة بالشمال على جيله، والتي قضي عليها، بسبب استعمال الغازات السامة لأول مرة في تاريخ البشرية سنة 1926. ورغم أن الشاب مولاي العربي، الذي بدأت شخصيته تنضج على مستوى التواصل الإجتماعي، من خلال تمكنه من الدارجة المغربية وبداية تمكنه من استيعاب التواصل باللغة الفرنسية (هذا عنصر ذكاء مميز في شخصيته، أنه يتمكن بسرعة من استيعاب اللسان الأجنبي عنده بالسماع فقط ويتمثله باحترافية عالية). ورغم أنه لم ينخرط بعد في تلك الأنوية النقابية بمناجم الفوسفاط، فإنه قد تنسم معانيها ورائحة مطالبها وأدرك معنى أهميتها في النضال السلمي (الإضراب كمثال) من أجل الحصول على الحقوق العمالية. وسيكون لذلك أثره الواضح عليه بعد ذلك، حين سيهاجر إلى فرنسا، وينخرط بقوة في تأسيس تنظيمات حزب الإستقلال بالجنوب الفرنسي بالتنسيق مع عبد الرحيم بوعبيد. الحقيقة إن قصة مولاي العربي الشابي الشتوكي مع خريبكة ومناجم الفوسفاط، تلزمنا بالتوقف قليلا عندها بتفصيل، ليس فقط لأنها غيرت من نمط حياته، وشكلت نقطة قطيعة مع شكل حياته السابقة، بسبب أنها غيرت من وعيه لذاته وللعالم وبالتالي من شخصيته. بل لأنها ستؤطر حياته بكاملها، بسبب أن وفاته سنة 1998 ستكون بسبب مخلفات العمل في المناجم على جهازه التنفسي. لأنه كما يقول ابنه مولاي يوسف الشابي: "لقد ظهر عليه المرض بعد 50 سنة من مغادرته العمل بالمناجم".