لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كانت الأخبار تصل إلى العائلة، بعد شهور، أن ابنها "مولاي يحيا" استقر بعاصمة المال والأعمال (حينها) بالولايات المتحدةالأمريكية، نيويورك، وأنه امتهن بها حرفة الجزارة، التي واضح أن لا علاقة لها بما تعلمه من قبل في حقول قريته، لكن التي تعلم بعض أبجدياتها الأولى في أسابيع إقامته بالجنوب الفرنسي بسانتيتيان. بل إنه نجح تماما في تجارته الجديدة تلك، وبدأ يرسم طريق استقراره النهائية ببلاد العم سام الواعدة. خاصة وأن الذهنية الأمريكية اجتماعيا مختلفة نهائيا عن الذهنية الفرنسية الإستعمارية التي احتك بها في منطقته شتوكة آيت باها، وكذا في مارسيليا وسانتيتيان. وسبب ذلك الإختلاف أن المجتمع الأمريكي قد تشكل في الأصل كمجتمع هجرات من مختلف أصقاع العالم. وساعده لون بشرته الأمازيغية المغربية البيضاء، في أن لا يعاني تبعات الميز العنصري الذي ضحاياه السود ببلاد أبراهام لينكولن. يعني ذلك، كله، أن "مولاي يحيا بن مولاي عبد القادر الشتوكي" المغربي السوسي، قد اندمج بسلاسة وسهولة ضمن المجتمع النيويوركي الجديد. والخلاصة هي أن تجربة هجرة فرد من أفراد العائلة، التي لم تكن تصل عنها أية معلومة، كانت تشحذ في الفتى مولاي العربي فكرة الهجرة والسفر بقوة. خاصة وأنه كان يضيق ذرعا بصلابة شقيقه الأكبر محمد، الذي كانت مسؤوليته العائلية تلزمه بضبط وإشراك كل سواعد العائلة القادرة على العمل، ضمن فلاحة الأرض. (بدليل أنه حتى إبن شقيقه محمد هذا، مولاي أحمد بن محمد بن عبد القادر الشتوكي، سيغادر بدوره العائلة ويهاجر، ليلتحق بعمه مولاي العربي بفرنسا في الأربعينات من القرن 20، حيث اشتغل بمحل لتحديد وتصبين الملابس بسانتيتيان، قبل أن يستقر نهائيا بباريس). لكن، تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن أحيانا. إذ مع أول سنة 1929، ستغرق نيويورك وأبناكها الكبرى، وكل الإقتصاد الأمريكي، ثم الإقتصاد العالمي في أزمة مالية خانقة، عرفت ب "الأزمة العالمية لسنة 1929". فكان أن كسدت تجارة المهاجر المغربي الشاب، "مولاي يحيا الشتوكي" بنيويورك، وبعد مقاومة لشهور، اتضح أنها بدون فائدة، قرر العودة إلى فرنسا ومنها شد الرحال إلى قرية الأجداد سنة 1930، ليعود إلى حرث الأرض والإهتمام بكل شؤون الفلاحة، متخدا قرارا صارما أنه لن يغادر أبدا قريته، التي بقي مقيما بها حتى توفي بعد عمر مديد. وحين كانت ابنه شقيقه مولاي العربي، زينة الشابي، تثير معه موضوع مغامرة هجرته وسبب قراره ذاك، كان دوما يهرب إلى ترديد لازمة حانقة: "اللعنة على من يثق في نظام الغرب". واضح ان صدمته كانت كبيرة جدا في نيويورك، وأنه لم يتقبل قط، كيف أن آلية التضامن هناك غير متحققة، كما تعودها في ثقافته الأصلية. فمبدأ الفردانية المدينية الرأسمالية الإستهلاكية، كنظام حياة في مجتمع صناعي ضخم مثل المجتمع الأمريكي لم تكن لتتصالح مع فكرته عن ممارسة الحياة بشكل تعاوني وتضامني كما تربى عليه في مجتمعه وضمن عائلته الممتدة. وهي الثقافة السلوكية التي عاد إليها واندمج فيها مجددا، رافضا أبدا التفريط فيها. لقد كانت تجربته، في مكان ما، عنوانا لصدمة حضارية. تجربة "مولاي يحيا" في هجرته إلى فرنسا ثم إلى أمريكا، حفزت مولاي العربي للهجرة أكثر، ومغادرة قريته في ذات سنة الأزمة المالية العالمية 1929. وكانت والدته "فاطمة بنت علي" سنده في قرار الهجرة ذاك، كونها كانت تتفهم في مكان ما إلحاح أصغر أبنائها على الرحيل. بدليل أنها كانت الوحيدة في العائلة المطلعة على سر ذلك القرار، بل أكثر من ذلك أنها قد باعت بعضا من حليها دعما لصغيرها في رحلة هجرته تلك. كيف طاوعها قلب الأم، أن تطعم صغيرها، الذي بالكاد أكمل 16 عاما من عمره، لمجهول العالم؟. إن الجواب كامن في ثقتها التي بلا حدود فيه، وفي ملامح صلابة شخصيته، وأنها أيضا أرادت للطائر أن يحلق بجناحيه مستقلا عن عش العائلة، حتى تنضج الحياة في عينيه أكثر. واضح أنها كانت تعرف بفراسة الأم، أي فتى ولدت، وأي فتى أعطت للدنيا. ألم تخف عليه؟ ألم تقلق على طراوة عوده؟ ألم تبك وحيدة في ظلمة غرفتها؟. أكيد أن ذلك كله قد كان، لكن بعض القرارات في التربية تتطلب صرامة حتى ضد الذات، رهانا، من أجل مصلحة الأبناء. ذات صباح، مع أول خيوط الفجر، والقرية بالكاد تستفيق من خدر ليلة ربيعية، انسل مولاي العربي رفقة صديق له من أبناء قريته. قريته التي لم يغادرها قط من قبل، ولا كان يعرف حتى جغرافية منطقة شتوكة القريبة المحيطة بها. كانت والدته قد أعدت له فطورا بسيطا، وملأت له زوادة طريق بما خف من تمر وزبيب ولوز وجوز. لم تعانقه، بل اكتفت على عادة الأمهات الأمازيغيات، بأن قبل يدها، وكانت أدعيتها تسبقه وهو يغادر عتبة باب بيت العائلة. كانت الشمس لا تزال في خدرها لم تطل من وراء الحقول ومن وراء الجبال البعيدة، حين كان مولاي عبد القادر قد غادر محيط قريته "زاوية زميل" إلى جوار رفيق طريقه ورفيق مغامرته. التفت أكيد، آخر التفاتة ليرى معالم مباني بلدته الصغيرة، ويرمق بيت العائلة ووالدته الواقفة وحيدة تنظر إليه وهو يبتعد في المدى، حاضنة سر هجرته ورحيله. كانت الوجهة صوب الشمال، وتحديدا صوب مراكش. ومراكش بعيدة جدا أمام قدمي فتى في 16 من عمره ورفيقه الذي في نفس سنه وعمره. كان يرتدي جلبابا، ويحمل معه بضع ملابس صوفية خفيفة وصندلا جلديا من المصنوعات المحلية، كثيرا ما كان يحمله بين يديه، ويمشي حافيا لمسافات حتى لا تهلك أحجار الطريق الجبلية المنتصبة أمامه عبر مرتفعات أمسكروض، صندله الجلدي ذاك. أي طريق نهج أولئك الفتيان السوسيان الشتوكيان؟. لا خريطة مسبقة لرحلة المغامرة، فطرقها عندهم جميعها متشابهة، مادام السبيل كله اكتشاف ومادام المقصد محدد سلفا: مراكش؟ وكل الطرق بالنسبة لهم يجب أن تؤدي إلى مراكش. مراكش الحمراء التي وصلها مولاي العربي ورفيق طريقه ومغامرته، بعد رحلة مشي على الأقدام دامت 10 أيام كاملة. كانا فيها يتبعان طريق الماء، ويوجههما آذان المساجد من بعيد، عنوانا على أن تمة قرية ما في الجوار، فيها يتزودان بالماء وببعض أعطيات عابر السبيل، وإذا صادف أن قرب الليل من السدول، ينامان في غرفة الصلاة بأي مسجد بلغاه في العشي. ومع أول خيوط الفجر، يغاردان مجددا في رحلة مشي جديدة صوب الشمال. هامش: هذا البحث التاريخي، حول شخصية مولاي العربي الشتوكي، مندرج ضمن مشروعات أبحاث مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث.