لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. سيقضي مولاي العربي الشابي (الشتوكي)، سنواته الستة عشر الأولى في قريته، قبل أن يهاجرها في رحلة مغامرة حياة طويلة. وفي سنواته الأولى، تلك، تعلم أبجديات تمثل اللغة العربية من خلال حفظ القرآن وبعض المتون الفقهية، في مسجد قريته، هو المنحدر أصلا من عائلة شرفاء أدارسة، العلم عندها واجب. لكن وفاة والده وهو بالكاد يكمل سنته الثامنة، ستجعله ينخرط في مساعدة أشقائه الذين يكبرونه سنا في مهام الفلاحة بحقولهم الصغيرة الخصبة. كانت المهام متعبة جدا، تتطلب تعاونا بين كل الأذرع القادرة على حمل أدوات الحرث والغرس والسقي والجني والحصاد، داخل العائلة. من هنا كانت تلك الصرامة التي عرفت عن أكبر أشقائه محمد، الذي أصبح في مقام رب العائلة، بعد رحيل مؤسسها مولاي عبد القادر (الشابي الشتوكي) إلى جوار ربه. أصبح سؤال الحال والمصير، يطرح بقوة على العقل الصغير للطفل مولاي العربي، في سنوات يتمه الباكرة تلك. ولعل أكبرها ذلك السؤال الذي يرد في ذهن أي فتى من سنه وفي مثل ظروفه: هل قدري أن أبقى هنا، أعاني قسوة الأعمال الشاقة للفلاحة؟. وكان هذا السؤال وغيره، التي جالت في ذهنه، حين يؤوب إلى نفسه في ليالي الشتاء الباردة أو ليالي الصيف القائضة، كما استنتجت من طريقة حكي ابنته البكر زينة الشابي الشتوكي وابنه الأصغر مولاي يوسف الشابي الشتوكي.. كان ذلك السؤال، أول العلامة على التمرد الذي سيشكل شخصيته في كامل حياته. أي أن أول تمرد خاضه هذا المقاوم المغربي الكبير، قد كان ضد ذلك الواقع الصلف الصعب لأسباب الحياة في قريته الصغيرة، وضد سلطة شقيقه الأكبر الصارمة. ولأن شخصية المرء، يصنعها دوما شكل الأحداث المحيطة بوجوده، فإن شخصية مولاي العربي، ستصنعها قصته العائلية الأولى في قريته الصغيرة، التي بالكاد كانت تضم 30 عائلة ممتدة. وستصنعها أيضا قصة الشكل الجديد الذي بدأ يتشكل به المغرب في تلك السنوات الحامية لما بعد فرض الحماية الفرنسية والإسبانية عليه بعد 30 مارس 1912. وشاء قدره الطفل حينها، هو الذي ولد سنة 1913، وغادر قريته سنة 1929، أن تكون منطقته (سوس، وضمنها شتوكة آيت بها)، فضاء لرسم خريطة شكل بناء ذلك المغرب الجديد بعد الحماية. ولقد كبر طفلا وفتى وهو يرى كيف أن ذلك التشكل كان يتم بقوة النار والبارود، وبالمقاومة الشعبية لأهل سوس وآيت باعمران والصحراء، للتغلغل الإستعماري الفرنسي. لهذا السبب، مهم هنا، الإشارة إلى السياسة التي خصها الإستعمار الفرنسي لاحتلال كامل المغرب، وأساسا خطة أول مقيم عام بالمغرب الماريشال هوبيرت ليوطي، وأين أدرجت منطقة سوس وشتوكة، بلاد مولاي العربي، في ذلك. باختصار شديد، فإن خطة ليوطي الكبرى، كانت الزحف على الأراضي المغربية من واجهتين: برية وبحرية. وهي الخطة التي ابتدأت حتى قبل فرض الحماية سنة 1912، من خلال قصف واحتلال آنفا (الدارالبيضاء) سنة 1907، واحتلال وجدة سنة 1908، والزحف عبر سهل الغرب، بمحاذاة نهر سبو، صوب فاس سنة 1911. وفي هذه المناطق الجغرافية، تم إنزال أكبر القوات والعتاد العسكري الفرنسي، في ما يشبه تمددا لدائرتين: واحدة نازلة عبر البر من الشرق (من وجدة والجزائر المحتلة حينها)، والثانية صاعدة من المحيط الأطلسي من الغرب (الدارالبيضاء أساسا). وكانت الغاية هي الوصول بسرعة إلى مدينتين تاريخيتن وازنتين هما فاس ومراكش، وأيضا وضع اليد بسرعة على تازة وممرها الإستراتيجي بين شرق المغرب وغربه. وهي العمليات العسكرية الكبرى، التي استعملت فيها كل أنواع الأسلحة سواء البرية أو الجوية أو البحرية، ونجحت بعد سنتين فقط من المواجهات العنيفة مع مقاومة المغاربة لهم في كل شبر يتقدمون نحوه، في أن تلحم وتربط بين الدائرتين. تلك الزاحفة من الشرق وتلك الصاعدة من الغرب، بقيادة كل من الضابطين العسكريين "غورو" و "بومغارتن". ولقد تحقق ذلك يوم 17 ماي 1914، مع دخول الماريشال اليوطي مزهوا بنصره الكبير (كما يصف ذلك في مذكراته التي سبق ونشرت فصولا مطولة منها من قبل)، إلى قلب تازة من بابها الشرقي عبر سور "البستيون" السعدي العتيق. لقد كتب اليوطي يفتخر في مذكراته، أنه يومها حقق حلم باريس في توحيد ما وصفه "كل الشمال الإفريقي الفرنسي". لأنه منذ يوم 17 ماي 1914، أصبحت الطريق سالكة، للإستعمار الفرنسي وقواته ومعمريه ورأسماله ورجال أعماله، من الصويرة حتى تونس العاصمة، مرورا بالجزائر العاصمة. وأصبحت خريطة الإحتلال الفرنسي للمغرب سنة 1917، محصورة بين الشياظمة وعبدة والحوز وجزء من تادلة جنوبا وكل المغرب الشرقي وحدود عرباوة مع المنطقة المحتلة من قبل الإسبان شمالا. هنا كان التحكم الفرنسي مباشرا بقوة الحديد والنار. أما باقي الأراضي المغربية، خاصة في أعالي الأطلسين الكبير والصغير وسوس وجنوب تافيلالت وآيت عطا وطاطا وباقي الصحراء، فقد خصصت له خطة سياسية أخرى مغايرة، تأسست على التحالف والتنسيق مع القواد الكبار بتلك المناطق (أشهرهم التهامي الكلاوي والكنتافي والمتوكي)، ضمن ما سمي "حروب التهدئة بالمغرب"، التي امتدت عمليا من سنة 1913، حتى سنة 1936. لقد قسم الماريشال ليوطي وخبراؤه العسكريون المغرب حينها إلى منطقتين كبيرتين، واحدة مدنية يرأس جهاتها مراقبون مدنيون، والأخرى عسكرية ويرأس جهاتها ما أطلق عليه "ضباط الشؤون الأهلية". ولقد كلفت عمليات "حروب التهدئة"، حتى سنة 1934، الجيش الفرنسي 8628 قتيلا، ضمنهم 622 ضابطا ساميا، وأكثر من 21 ألف جريح ومعطوب. يضاف إليهم 12 ألف قتيل من قوات الكوم المغربية والسينغالية المتواطئة مع الإستعمار الفرنسي. بينما سقط من المقاومين المغاربة، في مختلف مناطق البلاد خلال تلك الفترة ما يقارب 90 ألف شهيد. وتكفي هنا العودة إلى كتابات شارل أندري جوليان حول المغرب في مواجهة الإمبرياليات، وكذا الكتابات الرصينة للمؤرخ الفرنسي دانيال ريفي، الذي أكد في كتابه القيم عن "تاريخ المغرب" أن "حرب الثلاثين سنة تلك (يقصد بين 1907 و 1936) قد خلفت على أقل تقدير في صفوف المغاربة، حوالي 200 ألف قتيل، خاصة إذا أضفنا إليها النزيف الذي طال قبائل الريفيين سنة 1925" (بعد استعمال الغازات السامة لأول في حرب بالعالم من قبل فرنسا وإسبانيا، ضد ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي). + هامش: هذا البحث التاريخي، حول شخصية مولاي العربي الشتوكي، مندرج ضمن مشروعات أبحاث مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث.