لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. ولد مولاي العربي الشابي (الشتوكي)، سنة 1913، بمنطقة شتوكة آيت باها، على مسافة 32 كلمترا عن مدينة أكادير. أي، أنه ولد سنة واحدة بعد دخول المغرب زمن الحماية الفرنسية والإسبانية، وسنتين بعد أزمة أكادير الألمانية، صيف 1911، حيث تناوبت على الرسو قبالة المدينة سفينتان عسكريتان ألمانيتان (البارجة "بانتير" والطرادة "برلين")، اللتان هددتا بقصفها بحجة حماية رعاياها الألمان المهددين بسوس، بينما الحقيقة أنها كانت أداة ضغط على باريس لتتنازل عن جزء من مستعمراتها الإفريقية لصالح برلين، وهو ما تحقق لها في الكونغو. هذا يعني أن مولاي العربي، ولد بالتزامن مع لحظة بداية أزمة سياسية وأمنية غير مسبوقة بالمغرب. وأنه ابن لذلك الوقت المغربي الحامي، الذي فتح فيه جيل جديد من أبناء البلد أعينهم على تحديات حياتية وقيمية جديدة، كان للإستعمار الدور الحاسم فيها. وحين بدأ الطفل الصغير مولاي العربي، يدب في دنيا الحياة، ضمن عائلة والده مولاي عبد القادر (المنحدر من سلالة الشرفاء الأدارسة بفرع سوس)، كانت المنطقة حيث رأى النور فضاء لمواجهات عسكرية عنيفة بين المقاومة الشعبية المغربية وبين السلطات الإستعمارية ومن تحالف معها من كبار القواد بسوس ومراكش. مما يعني، قدريا، أن وعيه ووعي جزء كبير من جيله، بذلك الجنوب السوسي الساخن، قد تفتح على دروس تلك المقاومة التي تصاعدت في ما بين 1912 و 1927، بكل المنطقة المحيطة ببلدته. أكثر من ذلك، سيفتح الطفل مولاي العربي عينيه، باكرا، على أمرين حاسمين في حياته. الأول هو اليتم، حيث سيتوفى والده وهو بالكاد في الثامنة من عمره، وهي سن جد مبكرة لمواجهة صلافة أثر الموت، الذي اختطف سقف أمانه التربوي والرمزي، مما شحد فيه معنى للرجولة والإعتماد على الذات باكرا، خاصة وأنه كان آخر العنقود في عائلة تتكون من أربع إخوة ذكور (محمد، مولاي يحيا، مولاي أحمد، مولاي حسن)، وأخت وحيدة هي نفيسة. أخته التي سيختطفها الموت هي أيضا باكرا، وكانت الأقرب إلى قلبه، لأنها كانت رفيقة لعبه وشغبه في الطفولة البكر تلك، كونهما متقاربان في السن (بينهما تقريبا 4 سنوات). مما جعل طفولته ذات يتم مضاعف: يتم الأب من جهة، ومرارة فقدان شقيقته الأقرب إليه، لأن باقي إخوته الذكور يكبرونه بسنوات (شقيقه الأكبر منه مباشرة وهو مولاي حسن، يكبره ب 7 سنوات، بينما أكبر أشقائه محمد فهو يكبره على الأقل ب 15 سنة). ثاني الأمرين، الذي فتح عليه عينه كطفل، هو جمال الطبيعة الخلاب لمسقط رأسه، الغنية فلاحيا، والتي كانت مجال عمله البكر تحت رحمة مراقبة شقيقه الأكبر محمد، الذي كان معروفا، كما يؤكد اليوم ابن مولاي العربي، مولاي يوسف الشابي، بشدته وصلابته مع كل أفراد العائلة. وواضح أن صلابته مع الصغير مولاي العربي، حينها، لم تكن تستحضر أبدا سنه الغضة اليافعة. كانت القرية حيث ولد، قرية فلاحين بالأساس بمنطقة شتوكة آيت بها، بضواحي مدينة أكادير، وهي قرية "زاوية زميل"، التابعة لقيادة آيت عميرة بجماعة بيوكرى. وهي عمليا من منطقة شتوكة السفلية، السهلية الخصبة، التي لا تبعد عن أكادير سوى ب 32 كلمترا. وهي المنطقة التي شهدت خلال سنوات طفولته الأولى، مواجهات مسلحة عنيفة ضد التغلغل الفرنسي الإستعماري. ما جعل الصغير مولاي العربي، يتفتح وعيه أكيد باكرا على معنى مقاومة الإستعمار هذه، كما ظلت المنطقة وأهلها يتغنون بأمجادها الوطنية. فقد كانت سيرة مقاومة الهيبة ماء العينين وأشقائه من أبناء الشيخ العلامة ماء العينين الشنقيطي المغربي، مؤسس زاوية السمارة ودفين تزنيت، تسكن مخيال الجميع عنوانا للشرف والبطولة والجهاد، خاصة وأن الكثير من أفراد عائلته سواء من جهة الأب أو من جهة الأم كانوا مشاركين في تلك المقاومة بالدليل التاريخي الحاسم. لأنه بعد هزيمة الثائر الهيبة ماء العينين، بمعركة سيدي بوعثمان يوم 6 شتنبر 1912، أمام القوات الفرنسية بقيادة الكولونيل مونجان، واحتلال مراكش بدعم من الباشا المدني الكلاوي والقايد العيادي، عاد هذا الزعيم المغربي، الصاعد من الصحراء ومن سوس، إلى تارودانت مع ما تبقى من الثوار، ضمنهم 98 فارسا من شتوكة آيت باها، الذين مالبثوا أن التحقوا بصفوف قوات شقيقه الشيخ مربيه به الذي كان يتحكم في منطقة شتوكة وتزنيت وآيت باعمران. كانت ذاكرة المنطقة تتغنى، بتصفية المجاهدين السوسيين للقايد سعيد المجاطي وتابعه عبد السلام الجراري يوم 2 نونبر 1913، وكذا بمعركة ماسة، غير بعيد عن بلاد مولاي العربي بشتوكة، التي أفلت فيها القايد الأغبولي من يد القايد الناجم رجل ثقة الشيخ مربيه ربه، ثم معركة أكلوا والقضاء على الوحدة العسكرية الفرنسية وعلى أتباع القايد بن دحان سنة 1914. مما كانت نتيجته إرسال المقيم العام المارشال ليوطي للكولونيل "لاموت" مسنودا بقوات كبيرة على متن بارجة حربية، التي نزلت بأكادير يوم 24 يوليوز 1915. وهي القوات التي سيتحالف معها الخائن حيدا ميس، من خلال افتعاله معركة "ويجان" التي تلقى فيها هزيمة مذلة حيث بلغ عدد قتلاه 161 عنصرا. وتلتها معركة "بوزرك" التي قادها الشيخ "مربيه ربه" بنفسه وانتصر فيها، قبل أن تقع معركة "ويجان" الثانية يوم 15 يونيو 1916 والتي سجلت مقتل الملازم الفرنسي باربيي وعدد من جنوده. وهي المعركة التي اضطرت المقيم العام ليوطي أن يحل شخصيا بأكادير يوم 22 شتنبر 1916، قادما في سفينة حربية من الدارالبيضاء، والتقى بالخائن "حيدة ميس" لينسق معه خطة القضاء على مقاومة أهل سوس وآيت باعمران والصحراء بقيادة إخوة الشيخ الهيبة ماء العينين (الشيخ مربيه ربه، ثم الشيخ الولي، ثم الشيخ النعمة)، مما يؤكد تلاحم أهل الصحراء المغربية الدائم منذ قرون مع باقي إخوتهم في آيت باعمران وسوس ومراكش لمقاومة المحتل والإستعمار. فتوجه الشيخ النعمة من "ويجان" صوب منطقة "آيت الرخا"، قبل أن يتم لقاء مع مبعوثين ألمان في ما عرف ب "اجتماع آسكا" يوم 16 نونبر 1916، اللذين طلبا مقابلة الشيخ الهيبة حاملين هدايا وأسلحة إليه، وكان ترجمانهم ضابطا تركيا، لكنهم اجتمعوا فقط يوم 20 نونبر 1916 مع شقيقه مربيه ربه. لكن، أكبر المعارك التي كانت تسكن المخيال العام لأهل سوس وآيت باعمران، هي معركة "إكلفان" سنة 1917 (التي كتب عنها مطولا العلامة المختار السوسي)، التي وقعت ومولاي العربي طفل في الرابعة من عمره، وأكيد أن رائحة بارود فوز مقاومي أهل سوس فيها قد تنسمها من خلال حكي الأهل والعائلة. لأنه لم يكن فوزا عاديا، في تلك المعركة التي قادها الشيخ النعمة إبن الشيخ ماء العينين، وانتهت بمقتل 205 من عناصر القائد "حيدة ميس"، بل أكثر من ذلك قتل فيها أيضا 20 قائدا من قواده، وكانت جثة حيدة ميس في مقدمتهم. وتذكر الوثائق التاريخية من ضمنهم القايد أكوماز والقايد همو البعزاوي وسعيد بن الحسن ومسعود الخربة وولد الرامي.. وبعد هذا النصر البطولي قررت الإقامة العامة الفرنسية بالرباط، التدخل بقواتها العسكرية مباشرة في سوس بقيادة الكولونيل "لاموت"، بتحالف مع كبار قواد الشمال خاصة الباشا الكلاوي والقايد الكنتافي وبسلام المتوكي. هؤلاء الأخيرين الذين حين رأوا قوة التحالف بين رجال شتوكة وويجان ومجاط وآيت الرخا وإيغير ملولن وآيت لخصاص وآيت باعمران، تحت قيادة الشيخ مربيه ربه، دخلوا في تفاوض سلمي مع السوسيين لوقف المواجهات مقابل أن لا تحتل فرنسا غير أكادير، وأن لا تتجاوز أبدا إلى تزنيت التي بقيت متمنعة لأكثر من 17 سنة، حتى سنة 1934. + هامش: هذا البحث التاريخي، حول شخصية مولاي العربي الشتوكي، مندرج ضمن مشروعات أبحاث مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث.