لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كانت العجوز الفرنسية "مدام شوفاليي" متجهمة دوما، صعبة المراس، متحكمة. بالتالي، ظلت علاقتها مع "مدام مولاي" الشابة حينها "جوزيفينا إليستيا دوتيل"، علاقة باردة جافة، خاصة وأنها قد أسكنتها في غرفة الخادمات، ووفرت لها المأكل، لكن في مقابل أجر زهيد جدا من بضع فرنكات. هكذا وجدت ابنة 19 ربيعا، التي كبرت في عائلة ميسورة الحال، في مدينتها الغنية "سان سيباستيان"، التي اعتادت المفارش والغرفة المستقلة الخاصة، والأكل مع العائلة حول مائدة رفيعة، تحت رحمة عمل أشبه بالسخرة لمدة 4 سنوات كاملة، من سنة 1937 حتى سنة 1941، تاريخ ارتباطها بالشاب المغربي الأمازيغي، مولاي العربي الشابي الشتوكي. بل إنها أصبحت ضحية أعمال يدوية شاقة، ليس أقلها النقل اليومي لأكياس ثقيلة للفحم الحجري وأكياس مماثلة للدقيق، وفي ظروف عمل متعبة تمتد على ساعات اليوم كله، من الصباح الباكر حتى الثامنة مساء، بلا انقطاع. مما كانت نتيجته تحول كامل في بنيتها الجسدية، مع أياد خشنة بسبب قساوة ظروف العمل. كانت تلك التجربة، بكل المحنة التي صاحبت أيام "مدام مولاي"، منذ غاردت مدينتها وأهلها بسبب الحرب الأهلية الإسبانية، قد شحذت شخصيتها، وجعلتها صارمة مع ذاتها ومع الحياة. خاصة وأنها أصبحت شبه مسؤولة عن والدتها وشقيقاتها الأصغر منها، الذين استقروا بمدينة ليون، البعيدة عن "سان تيتيان"، حيث تعمل هي بحوالي 62 كلمترا. وكانت تزورهما كلما سمحت لها العجوز الفرنسية بذلك، قبل أن يعودوا إلى إسبانيا سنة 1939، بعد انتهاء الحرب الأهلية هناك، بانتصار ساحق لقوات الجنرال فرانكو، ودخول شبه الجزيرة الإيبيرية زمن الديكتاتورية العسكرية، الذي امتد حتى سنة 1975. بينما بقيت "جوزيفينا" في عملها بفرنسا، ومن هناك تبعت لأمها وأخواتها بمساعداتها المالية القليلة، علما أن والدتها حين عادت إلى منزلهما، وجدته خربا، منهوبا، كل شئ فيه قد سرق أو تم إتلافه. وشهرا بعد ذلك، عاد فجأة رب العائلة فديريكو رفقة ابنته "إميليا"، بعد فراق دام أكثر من سنتين، انقطعت فيها أخبارهما عن الجميع، حيث اعتقدت "جوزيفينا" ووالدتها وباقي أخواتها أن والدهم قد قتل في الحرب مع شقيقتيها. والحال أن فديريكو، قد ظل بدوره، يبحث عن زوجته وبناته في فرنسا طيلة تلك المدة، دون أن يعثر لهم على أثر. الحرب وقحة في واقع الحال، لأنها سبب مآسي إنسانية بلا ضفاف. ستعود، سنوات قليلة بعد ذلك، شقيقتا "مدام مولاي"، "كارمن" و "أليخاندرا" إلى مدينة ليون الفرنسية حيث تزوجتا من مواطنين فرنسيين وستحصلان على الجنسية الفرنسية، واستقرتا هناك. بينما بقيت هي، بدون هوية وبدون جواز سفر إسباني حتى التقت مولاي العربي. وكما ستحكي عنها ابنتها البكر زينة الشابي الشتوكي وكذا أصغر أبنائها مولاي يوسف الشابي الشتوكي، فإن والدتهما "مدام مولاي" (جوزيفينا الباسكية، عائشة المغربية)، كانت سيدة شجاعة جدا، بمزاج قوي، قليلة الكلام، وانخرطت في الشأن المغربي بكل قواها، مبتعدة عن إسبانيا الفرانكاوية، وظلت رفيقة مخلصة وفية لوالدهما مولاي العربي، الذي كان "رجل حياتها" ومعنى وجودها بالكامل. وفي نبرات صوتهما، تستشعر كما لو أن ذلك قد خلق نوعا من "الغيرة الإيجابية" لديهما ولدى باقي أشقائهما، لأنه لاشئ كان يتقدم على مولاي العربي في حياتها ووجودها كله، بما فيه هم أبناؤها. فالدنيا هي مولاي العربي، نقطة ورجوع إلى السطر عند "مدام مولاي". كيف التقيا؟. ومن بادر لمفاتحة الآخر؟. هذه تفاصيل لم يتحدث عنها قط مولاي العربي لأبنائه، بسبب حيائه الكبير أمامهم، سوى مرة واحدة، سنة قبل وفاته، في ما يشبه لحظة للبوح الشفيف أمامهم. كان في حديثه ترجمان لشوقه الجارف إلى رفيقة حياته "جوزيفينا" التي كانت قد توفيت منذ سنوات، سنة 1985. سيحكي لهم، أنه أعجب بها من أول نظرة، إذ ما أن وقعت عيناه عليها، حتى قال في قرارة نفسه: "هذه الفتاة ستكون زوجتي"، خاصة وأنها كانت تبادله ذات النظرات، باستحياء كبير وفي صمت (كانت هي معجبة باختلاف شخصيته عن باقي زملائه من العمال المنجميين. كما قالت مرارا لأبنائهما خاصة زينة. لأنه كان دوما أنيقا ببدلة وربطة عنق وصارما ووقورا). فقرر بعد مدة، أن يكتب إليها رسالة، يطلب منها فيها إمكانية اللقاء للحديث معها. فكان أن طلب من زميل له يتقن الفرنسية أن يكتب له تلك الرسالة وترجاه أن يحملها إليها في ذلك المتجر ويسلمها إياها. قبل صديقه المهمة، لكنه سيقوم بخطأ "استراتيجي" إذا جاز لنا التعبير، هو أنه بدلا من أن يسلم الرسالة إلى الشابة الباسكية، فقد سلمها للعجوز الفرنسية "مدام شوفاليي". توجه مولاي العربي في الصباح الموالي، صوب المتجر ليرى ردة فعل "جوزيفينا" وهل قبلت دعوته وطلبه، ففوجئ (كما حكى ذلك ضاحكا لأبنائه)، أن الشابة الباسكية غير مبالية نوعا ما، مهتمة بعملها. بينما انتبه أن العجوز الفرنسية متأنقة وترسل إليه ابتسامات زائدة عن الحد. غادر بسرعة محلها التجاري الصغير، وتوجه رأسا صوب صديقه وسأله إن كان قد سلم الرسالة البارحة إلى مقصدها، فأجابه أنه سلمها للسيدة العجوز. هنا كانت صدمة المفاجئة مضحكة، فطلب منه إعادة كتابة رسالة جديدة وحرص هذه المرة أن تصل إلى يد "جوزيفينا". فكان الجواب بالإيجاب. فكان اللقاء الأول سنة 1940. كانت فرنسا وأروبا غارقة في جهنم الحرب العالمية الثانية، وتحت أخبار القصف والقنابل، كان الحب ينسج بين مولاي العربي والشابة الإسبانية الباسكية. أصبح هو يكثر من زيارات المتجر حيث تعمل لمجرد رؤيتها دون الحديث معها أثناء فترات عملها، وتكررت لقاءتهما، حيث تقين الشاب الأمازيغي أنه هذه هي "امرأة حياته" وترسخ اليقين لدى "جوزيفينا" أنه "رجل حياتها". كان الخل يسكن إلى خله، والطيب للطيب رسول. كانت معجبة بخجله وبوقاره وصرامته مع ذاته أيضا، بينما كان هو معجبا بقوة شخصيتها، بجديتها مع ذاتها، بمقاومتها من أجل عائلتها، وبجمالها أيضا. وكانا كلما التقيا، يحكيان بإسهاب عن أصولهما وعن عائلاتهما وعن ثقافاتهما المختلفة. كانت "جوزيفين" قد اعتادت أن ترسل دوريا إلى عائلتها بمدينة "سان سيباستيان" الباسكية، مساعدات مرفوقة بعلبة "شكولاطة"، بغاية إدخال البهجة عليهم، تبعا لرأسمالها المحدود أصلا. وذات مرة اقترح مولاي العربي عليها، أن يساعدها بأن ينوب عنها في حمل ما كانت سترسله إلى عائلتها إلى مصلحة البريد بسانتيتيان، فقبلت. كانت غايته في الحقيقة، غير المعلنة، هي الحصول على عنوان عائلتها بإسبانيا. وشرع يبعث كل أسبوعين، دون أن يخبر بذلك أبدا "جوزيفين"، إلى عائلتها هدايا من الحلويات الفرنسية، ولم تكتشف هي ذلك، بفرح وغبطة، سوى بعد مدة. لم يكن أمر علاقتها مع شاب مسلم، أمازيغي، من الجنوب المغربي، تطرح أي إشكال بالنسبة لعائلتها. بل إنه ابنته زينة الشابي الشتوكي، ستؤكد أن والدها قد تم قبوله بسرعة ضمن عائلة والدتها الإسبانية، خاصة وأنها أخبرتهم بكامل التفاصيل عنه في رسائلها وأنها قررت أن تعرفهم به وكذا أن تعرف إحدى شقيقاتها به. لكن بسبب ظروف الحرب، كان من الصعب تحقق ذلك، ولم يكن ممكنا القيام بذلك سوى على الحدود الفرنسية الإسبانية. لأنهما لم يكونا يتوفران لا هي ولا هو، على جواز سفر يجيز لهما السفر ودخول إسبانيا، فوالدتها كانت "مهجرة" (أي ممنوعة من دخول وطنها). كان الحل، هو أن يلتقيا عند الحدود، وأن يرفع كل من مولاي العربي من سرواله حتى الركبتين وكذلك فعل والد "جوزيفينا" فديريكو، وأزالا حذاءيهما والتقيا في وسط بحيرة ماء غير عميقة على الحدود، هي تشعب صادر عن نهر "بيداساو". وأن ذلك نفسه لم يتحقق سوى بفضل تواطؤ دركي فرنسي تعاطف مع قصتهما، فسمح لهما بالتلاقي وتبادل بضع كلمات قليلة. فكان ذلك أول تعارف بين مولاي العربي وصهره المستقبلي، حفاة، بسراويل مرفوعة حتى الركبتين في وسط بركة مائية. كما تقول زينة الشابي بالحرف: "لقد مر التيار بسرعة بينهما، وحين عاد "أبويلو فديريكو" والد "جوزيفين" قال لعائلته: "قلتم إن ذلك الشاب منجمي. لا تمزحوا معي، إنه أكيد ابن عائلة نبيلة في بلده المغرب". + هامش: هذا البحث التاريخي، حول شخصية مولاي العربي الشتوكي، مندرج ضمن مشروعات أبحاث مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث.