لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. تحول حاسم، آخر، سيحدث في حياة مولاي العربي الشابي، سنة 1941، بسانتيتيان، بعد عودته من باريس: إنه الزواج. وهنا القصة تستحق تفصيلا مطولا خاصا. قدريا وصلت الشابة الإسبانية الباسكية، التي ستصبح زوجته، إلى فرنسا، في ذات سنة وصوله (وصلت هي يوم 6 يونيو 1937. فيما ابتدأ هو عمله بمناجم الفحم الحجري في نونبر 1937). كان هو قادما من الجنوب، من الجزائر عبر مارسيليا، عبر سفينة تجارية، بينما جاءت هي أيضا من البحر عبر ميناء مدينة لاروشيل الفرنسية، عبر سفينة باسكية هربا من ويلات الحرب الأهلية الإسبانية. بالتالي، فإنه قدريا كما لو أنهما كانا مسافرين باتجاه بعضهما البعض، لأن لقاءهما وزواجهما وقصة حياتهما صارت مضربا للمثل عند كل الحركة الوطنية وحركة المقاومة. ولقب "مدام مولاي" الذي ستكتسبه تلك الشابة الباسكية لم يكن مجرد لقب مناسبات، بل كان عنوانا لإنتماء. إسمها "جوزيفينا أوليستيا- دوتيل"، من مواليد 20 شتنبر 1917، أي أنها تصغر مولاي العربي بأربع سنوات. كانت تعمل، حينها، مساعدة في محل تجاري صغير لسيدة فرنسية عجوز، صارمة، إسمها "مدام شوفاليي"، بمدينة سانتيتيان، منذ 1937. وقد كانت تلك الشابة المتعبة بسبب كثرة الأشغال، تراقب دوما من بعيد ذلك الشاب الأنيق الذي يرافق عمال مناجم الفحم الحجري، عائدين في المساء إلى مساكنهم، ويعبرون جوار المحل التجاري، بصخبهم، يعلوهم غبار الفحم الحجري الأسود. لكن ما شد انتباهها إليه، أنه كان الأنيق الوحيد، بينهم، بربطة عنق، ووجه حليق. فاعتقدت لشهور أنه موظف بإدارة المنجم، وأنه قد يكون كاتب حسابات أو مسؤولا عن العمال، وربما مهندسا. وظل السؤال يجول دوما في خاطرها: لكنه لم يعود دوما وحده مع العمال، وباقي المهندسين أو الموظفين لا يفعلون ذلك؟ ولم يسكن معهم أصلا في الجوار؟. كان مولاي العربي، في خجل، يبادلها نفس النظرات خلسة وفي استحياء. كانت، هي، تراه مختلفا أيضا، كما ستحكي لأبنائها سنوات بعد ذلك، في كونه لا يذهب مع باقي العمال إلى المقهى. ولم تكن تدري، حينها، أن ذلك الشاب المغربي الأمازيغي، إنما كان من القلائل من عمال المناجم، الذي لا يغادر مقر عمله قبل أن يستحم ويلبس بدلة نظيفة يأتي بها معه يوميا. وستعترف لابنتها زينة الشابي، سنوات بعد ذلك، أنه "كان أجملهم وأكثرهم كياسة وأناقة". ولقد استمر هذا الإعجاب المتبادل من بعيد، شهورا. لكن، من هي أولا "جوزيفينا أوليستيا دوتيل"؟. وأي قدر قادها إلى فرنسا أصلا؟. خاصة وأنها ليست ابنة عامل من عمال مناجم الفحم الحجري الإسبان، الكثيري العدد بسانتيتيان منذ بداية القرن 20. ولا تجمعها أية قرابة عائلية مع أي منهم في ذلك الجنوب الفرنسي. الحقيقة إن قصة حياة هذه السيدة ("مدام مولاي" كما يلقبها عبد الرحمان اليوسفي) تستحق كتابا مستقلا، لأنه تجربة حياة جد غنية ومثيرة ومشرفة، وقد كانت لها أدوار حاسمة ومؤثرة في تاريخ الحركة الوطنية سياسيا وأيضا في تاريخ حركة المقاومة المسلحة ضد الإستعمار الفرنسي، هي التي كانت لها أصلا مواقف مناهضة لديكتاتورية الجنرال الدموي فرانكو بإسبانيا. فهي تنحدر من عائلة ميسورة من إقليم الباسك الإسباني، حيث رأت النور سنة 1917، بمدينة "سان سيبايتيان"، غير البعيدة عن الحدود الفرنسية. وقد كانت هذه المدينة، منذ نهاية القرن 19 مدينة الأبناك بالشمال الإسباني بامتياز. بل إنها ستصبح ملجأ لمختلف الجنسيات الأروبية منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914. وأصبحت ملتقى للعديد من الشخصيات العالمية، ليس أقلها ليون تروتسكي، رفيق فلاديمير إليتش أوليانوف، الشهير ب "لينين"، وأحد قادة الثورة البولشفية في روسيا القيصرية سنة 1917. الذي سيفر من موسكو بعد وفاة رفيقه لينين، واختلافه مع منهجية من جاء بعده في الحكم، أي ستالين. بل إنه سيؤسس مذهبا سياسيا أكثر ديمقراطية ضمن الشيوعية العالمية، عرف ب "التروتسكية"، قبل أن يتم اغتياله من قبل المخابرات الروسية "الكا. جي. بي" سنة 1940 بالعاصمة المكسيكية، مكسيكو. مثلما كان من شخصيات سان سيباستيان الشهيرة، أيضا، الجاسوسة الهولندية الذائعة الصيت، ماثا هاري، وهي راقصة ستعدمها الحكومة الفرنسية بعد الحرب العالمية الأولى بتهمة التجسس لصالح الألمان ضد فرنسا. وكان من نجوم سان سيباستيان، أيضا، الموسيقار الفرنسي الشهير موريس رافيل.. وغيرهم، كثير من كبار رؤساء الأبناك الأروبية والعالمية، قبل 1936، تاريخ اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية. كانت عائلة "مدام مولاي" باسكية، باسم مركب هو "أوليستيا" من جهة الأب و "دوتيل" من جهة الأم. كان جدها من والدها جنرالا عسكريا حاز أوسمة رفيعة، بفضل انتصاراته في الحرب الأهلية الإسبانية الأولى بين 1833 و 1846. خاصة ضد "جماعة الكارليست" قرب مدينة بيلباو. وجماعة "الكارليست" هذه هي جماعة إسبانية محافظة جدا، كانت تطالب باحترام شكل معين لوراثة العرش، موروث عن قانون الملك فلليبي الخامس لسنة 1713، والذي لم يحترمه من وجهة نظرهم الملك فرديناند السابع سنة 1830، حين أوصى بالملك بعده لابنته "إيزابيلا". واعترافا من هذه الملكة بدور الجنرال "أوليستيا" في مواجهة تلك الجماعة، أصدرت قرارا يعفي كل سلالته من الخدمة العسكرية. بل إن هناك شخصية عسكرية أخرى، نجد لها أثرا، كما أكد لي مولاي يوسف الشابي، أصغر أبناء مولاي العربي، من جهة عائلة أجداده لأمه "جوزيفينا" (التي اعتنقت الديانة الإسلامية في ما بعد وأصبح اسمها عائشة). هو الضابط دوتيل، الذي شارك في حرب نابليون الأول بين 1808 و 1814، التي عرفت ضمن حروب نابليون ب "حرب إسبانيا" ضد الإحتلال الفرنسي لها والتي انتهت بطرد الملك الفرنسي جوزيف بونابارت سنة 1814 من مدريد، وصعود الملك الإسباني فرديناند السابع إلى العرش، بل واحتلال كل الجنوب الفرنسي من قبل الإسبان. لكن ميزة ذلك العسكري الفرنسي، دون باقي زملائه، هي أنه سيقرر البقاء في بلاد الباسك متخليا عن الجندية الفرنسية. ومن حفيدته "إميليا دوتيل" ستأتي "جوزيفينا" زوجة مولاي العربي. مثلما أن مهاجرا إيرلنديا آخر سيلقح عائلة "جوزيفينا" بدمه، إسمه "ديبلان"، حين سيتزوج من جدتها، هو الذي كان متخصصا في صناعة الأفرنة ببلاد الباسك. دون إغفال أن هناك بلدة ببلاد الباسك تحمل إسم "أوليستيا". حين ولدت "جوزيفينا" سنة 1917، كان والدها "فديريكو" يمتلك شركة للصباغة بمدينة سان سيباستيان. مثلما أنه كان رساما محترفا ومهندسا معماريا، بدليل أنه هو من هندس وبنى شخصيا منزل العائلة، وكانت مداخيله جد محترمة، مما جعله يعيش حياة دعة ورغد، مع عائلته. عائلته الصغيرة، المتكونة أساسا من زوجته "إميليا دوتيل" ومن بناته الثمانية (مانويلا، إميليا،بيغيثا، بيلار، جوزيفين، كارمن، أنطونيا وأليخاندرا). وكانت طفولة البنات سعيدة جدا، حيث إنهن درسن جميعهن في المعهد الفرنسي بسان سيباستيان، مما سهل على "جوزيفينا" بعد ذلك الإندماج بسرعة في المجتمع الفرنسي حين هاجرت إلى فرنسا، مضطرة بسبب الحرب، مع أمها وخمس من شقيقاتها، سنة 1937. كان كل شئ هنيا، واعدا بحياة منطلقة ناجحة، قبل أن تنزل، كنار جهنم، قنابل الحرب الأهلية الإسبانية على كل شئ في بلاد الباسك. فانقلبت حياة العائلة إلى جحيم.