لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. بعد ذلك اللقاء التعارفي، المثير، مع والد "جوزيفين" ومولاي العربي، حافيين بوسط بركة ماء على الحدود بين فرنسا وإسبانيا، قرر مولاي العربي أن يخبر والدته بدوره بقرار ارتباطه بتلك الشابة الإسبانية الباسكية. لكن كيف السبيل للعبور إلى المغرب، وأروبا كلها غارقة في الحرب العالمية الثانية، والمطارات مغلقة، والموانئ بالكاد تغادرها السفن، والبحر الأبيض المتوسط مسرح للعديد من هجمات الطيران من هنا وهناك، لقصف أي سفينة متحركة فيه، سواء عسكرية أو مدنية، لأن الغاية هي قطع أي سبيل للإمدادات من قبل هذا الطرف أو ذاك. لكن، رغم ذلك، سيركب مولاي العربي التحدي، وسيغامر بالسفر في آخر سنة 1940، من مارسيليا صوب الجزائر. كانت رحلة محفوفة جديا بكل المخاطر، لكن بطلنا ركب البحر وسافر. بعد وصوله إلى اليابسة، سيقطع مسافة برية طويلة جدا ومتعبة، قبل أن يصل أخيرا إلى قريته "زاوية زميل" بجماعة آيت عميرة، بدائرة بيوكرى بإقليم شتوكة آيت باها، على بعد 35 كلمترا عن مدينة أكادير. ها هو، إذن، قد عاد، أخيرا إلى أهله ووالدته، وأشقائه، بعد أن غاب عنهما 11 سنة كاملة، إذ منذ غادر في فجر يوم ربيعي قريته، سنة 1929، وهو في 16 من عمره مشيا على الأقدام صوب مراكش، لم يعد إلى حضن أمه وإلى تراب أجداده، سوى وقد بلغ 27 سنة. خرج فتى صغيرا، بالكاد بدأ الزغب ينبت على شاربه، وعاد شابا يافعا، أنيقا، ممشوق القوام. فكانت عودته حدثا في بلدته والمنطقة كلها، لأن واحدا من شرفاء زاوية "آزاريف" المناضلة والمقاومة، قد عاد أخيرا بعد طول غياب. حين اختلى أخيرا بوالدته فاطمة بنت علي، فاتحها في موضوع قراره الزواج من شابة جميلة. سألته والدته إن كانت مسلمة، فأخبرها أن لا، لكن ذلك لا يطرح مشكلا من الناحية الشرعية إسلاميا، قبل أن يقدم لها هدية عبارة عن قماش حريري جميل. تأملته والدته وقالت له بفطنة الأم: "هذا ليس من اختيارك ولدي. هذا من ذوق ومن اختيار امرأة". فأخبرها أن "جوزيفين" هي التي بعثته لها هدية، فسألته إن كانت تعلم أنه يبعث لها من حين لآخر مساعدات مالية من فرنسا، فأجابها أن نعم. فقالت له: "هذه فتاة طيبة إذن يا ولدي، وهي منا وإلينا"، ثم أخرجت ثديها الأيسر أمامه وقالت له بالحرف: " حيث رضعت يا ولدي، رضعت تلك الشابة". كان الأمر رسالة عن الرضى الكامل، مما أبهج مولاي العربي عاليا. وكان ذلك سرهما الخاص مرة ثانية، بعد السر الأول المتعلق بقرار هجرته من القرية قبل 11 عاما. وقبل أن يغادر، عائدا إلى فرنسا، ستحمله بهدية ليقدمها إلى "جوزيفين" عبارة عن قماش صوفي رفيع من نوع "البزيوي" المنسوج من الصوف الحر الشديد البياض. ولقد ظل ذلك القماش سببا للكثير من الغبطة عند جارات وصديقات "مدام مولاي" لسنوات، بسبب ندرة ذلك النوع من الصوف أولا، وبسبب أن الحصول على ألبسة مماثلة أمر جد نادر في زمن الحرب. تزوج مولاي العربي الشابي الشتوكي، و جوزيفين إليستيا دوتيل، يوم 15 مارس 1941، ببلدية سانتيتيان، المحتلة حينها من قبل الألمان. ولابد من الإشارة هنا، أن منطقة "الرون آلب" بعاصمتها الكبرى مدينة ليون ثم مدينتها الثانية سانتيتيان، قد احتلت من قبل الألمان بدون أية مقاومة، عكس ما وقع في باريس، بسبب قرار الجنرال بيتان، الحاكم الجديد لفرنسا، المتعامل مع النازية الهتليرية، الذي أمر عمدة المدينة وقادة الجيش بها بعدم المقاومة لأنه من العبث الدخول في مجزرة دموية مع القوات الألمانية وطيرانها المتفوق على الجميع حينها. لهذا السبب فقد دخلت القوات الألمانية إلى هاتين المدينتين، في آخر شهر يونيو من سنة 1940 دون إطلاق رصاصة واحدة. قبل أن تصبح ذات المنطقة، خاصة مدينة "ليون" عاصمة المقاومة البطولية الشهيرة لفرنسا الحرة. التي كان من أشهر أبطالها عائلة "أوبراك" (ريمون أوبراك وزوجته سيمون أوبراك)، اللذين سيرتبطان بعد ذلك بالمغرب، بعد أن عين السيد أوبراك بديوان عبد الرحيم بوعبيد كوزير للإقتصاد والمالية، بينما أصبحت زوجته أستاذة مادة التاريخ بلليسي مولاي يوسف بالرباط، وكانا صديقين حميمين للشهيد المهدي بنبركة. سيرزق مولاي العربي و جوزيفين، بستة أطفال: الأول محمد، سيموت رضيعا بسبب إصابته بالمينانجيث وبسبب قلة الرعاية الصحية بالمستشفيات بسبب الحرب، ثم زينة سنة 1942، وبعدها فاطم سنة 1944، تلاهما لحسن سنة 1945 (سيتوفى شابا بالمغرب عن عمر 24 سنة، بسبب حادثة سير قاتلة بين الدارالبيضاء وأكادير، سنة 1969). بعده عبدالقادر سنة 1950، وكان آخر الأبناء المزدادين بفرنسا، ثم آخر العنقود، يوسف، سنة 1954، الوحيد الذي ولد بالمغرب، بدرب السلطان ووالده معتقل بالسجن بسبب دوره في المقاومة المسلحة ضد الإستعمار الفرنسي. كان مولاي العربي، قد جمع قدرا من المال، بفضل ساعات عمله المضاعفة بمنجم الفحم الحجري بسانتيتيان، الذي مكنه من الحصول لشهور ما بين يونيو 1940 و ماي 1941، على أجر يفوق أجر مهندسي المنجم. وبفضل ذلك القسط من المال، مضاف إليه قسط آخر يسير من مدخرات زوجته، سيقرران فتح محل تجاري قرب محل السيدة الفرنسية العجوز "مدام شوفاليي" التي كانت تعمل عندها "مدام مولاي"، بالضبط بالعنوان 59 زنقة "تارانتيز"، في حي مكتظ بالسكان حيث الرواج التجاري مزدهر. أعادا صباغة محلهما الجديد بألوان فاتحة حية، نظرة، مما منح لمتجرهما رونقا مميزا،عززه شكل عرض السلع للبيع، المختلف تماما عن شكل محل السيدة الفرنسية العجوز، مما جعل الزبائن يتوافدون عليه بكثرة من أول يوم. في الخارج، كانت تعرض على مسطبة مائلة، جد منظمة مختلف أنواع الخضراوات والفواكه، وفي الداخل بشكل نصف مثلث كانت تعرض على الرفوف سلع المواد الغدائية المعلبة وزجاجات الزيت، وعلى واجهة المحل الأخرى، من وراء زجاج، رصفت مختلف أنواع الأجبان. وفي قلب المحل، قبالة الباب مباشرة، وضع الحاجز الذي به درج النقود، وخلفه باب يفضي إلى المطبخ. وفي الجهة المقابلة هناك باب ثانية تفضي على ذات الزقاق، يلج منها الزبناء مباشرة إلى ما يشبه مقهى صغيرة تابعة لتجارة مولاي العربي وجوزيفين الجديدة. كان ذلك المحل التجاري، ليس فقط بناية للتجارة، بل أيضا مقرا للسكنى الجديدة لمولاي العربي وزوجته جوزيفين. إذ في الأسفل المحل التجاري والمطبخ، وفي الأعلى غرفتا النوم وصالون وحمام. وأصبح لمولاي العربي مساعد في العمل، مقيم معه، هو مولاي علي، إبن بلدته وقريبه، القادم من سوس هو أيضا. بل إن مولاي علي سيصبح واحدا من أفراد العائلة، حيث بقي مرافقا لهم جميعا، حتى توفي في بيت مولاي العربي بالدارالبيضاء سنوات بعد ذلك. وفي ذاكرة الأبناء، لمولاي علي مكانة خاصة عالية جدا، لا توصف. نجحت تجارة مولاي العربي مما مكنه من تحقيق رقم أرباح محترم في شهور قليلة، بسبب جديته وصرامته في العمل، رفقة زوجته التي لا تقل عنه انضباطا وصرامة واحترافية. مما مكنهما من شراء سيارة من نوع "روزالي" باللونين البني الغامق والبني المفتوح (وهو لون لم تحبه أبدا ابنتهما زينة حينها. لكنه سيصبح هو اللون الرسمي لحافلات نقل المسافرين الخاصة بمولاي العربي بالمغرب في سنوات الإستقلال). شهورا بعد ذلك، سيوسعان من تجارتهما، حين فتحا محلا تجاريا آخر في نفس الزقاق " تارانتيز"، متخصصا في بيع السلع الجلدية المستقدمة أساسا من المغرب. والذي كانت تعرض على واجهته مختلف المصنوعات الجلدية المغربية، والتي لقيت رواجا كبيرا في كل مدينة سانتيتيان. واضح هنا الذكاء التجاري العالي لمولاي العربي وزوجته الإسبانية. لكن الأساسي في ذلك المحل التجاري الجديد، ليس فقط المساحة السفلى لبيع المصنوعات الجلدية تلك، بل الشقة التي كانت فوقه، والتي أصبحت هي أيضا في ملكيتهما، التي تتضمن غرفة واحدة وصالونا مغربيا كبيرا. وتلك الشقة ستصبح مكان تلاقي ومبيت كل أقطاب الحركة الوطنية المغربية بفرنسا من طلبة ومن تجار ومن قادة سياسيين في الأربعينات وبداية الخمسينات حين يحلون بمدينة "سانتيتيان" فالوجهة دوما هي بيت مولاي العربي، الذي أصبح لقبه الجديد بينهم هو: "مولاي العربي سانتيتيان".