لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. كان سؤال السياسة، قد أصبح خبزا يوميا في حياة الأسرة الجديدة، ب 59 زنقة "تارانتيز"، التي أسسها بعد زواج مدني، مولاي العربي الشابي وزوجته الإسبانية الباسكية "جوزيفين". من جهة لأن الزوجة، رفضت العودة مثل باقي أفراد عائلتها إلى إسبانيا، وكانت تجاهر بمعارضتها للديكتاتورية العسكرية للجنرال فرانكو، مما جعلها تصبح ممنوعة من جواز السفر ومحسوبة ضمن "المهجرين". ومن جهة ثانية، لأن الزوج مولاي العربي، أصبح منخرطا بوضوح ضمن فريق العمال المغاربة المهاجرين المنادين بحق المغرب والمغاربة في الإستقلال. وكانت مناسبة إحياء عيد العرش يوم 18 نونبر من كل سنة، فرصة مثالية للتعبير عن ذلك، ولشحد الهمم من أجل استقطاب مزيد من العمال المغاربة إلى صف القضية الوطنية. بالتالي، فإنه طيلة سنتي 1942 و 1943، تحولت مناسبة إحياء عيد العرش من قبل المنجميين المغاربة بسانتيتيان، وكان عددهم كبيرا (بمشاركة مؤكدة للعمال الجزائريين أيضا)، فرصة للتلاقي من أجل لحظة للإحتفالية، وأيضا للنقاش ومحاولة ابتكار آليات أشكال تعبيرية سياسية ونقابية لصالح القضية المغربية. خاصة وأن اللغة السياسية العالمية الجديدة، حينها، منذ إعلان معاهدة الحلف الأطلسي سنة 1941، بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية ورئيسها فرانكلين روزفلت، أصبحت تقول ب: "الدفاع عن الحرية وعن حق الشعوب في الإستقلال وتقرير مصيرها". ولأن مولاي العربي كان مستمعا مواضبا، في سرية، مثله مثل المئات من العمال المغاربيين، لإذاعة "البي بي سي" اللندنية (بسبب الإحتلال الألماني النازي لفرنسا)، فإنه كان متتبعا لأدق التفاصيل حول ما يجري بالعالم من تطورات وخطابات ومطالب. مثلما، أنه كان متتبعا لأخبار المغرب وحراكه السياسي، خاصة حدث "مؤتمر آنفا" التاريخي، الحاسم في تحول دفة المعارك بالحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء ضد النازية. وهو المؤتمر الذي شارك فيه في لقاء سري، كل من الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، والجنرال دوغول قائد قوات "فرنسا الحرة"، بفيلا كبيرة، بحي آنفا بمدينة الدارالبيضاء المغربية طيلة أيام 14 و 24 يناير 1943. وهو المؤتمر، الذي سيعرف لقاء تاريخيا، خلدته صورة معبرة سياسيا، جمعت بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني والملك الوطني محمد الخامس وابنه البكر مولاي الحسن (الذي لم يعين رسميا بعد وليا للعهد). حينها، ترسخ في الوعي الوطني للمغاربة، ونخبتهم أن قضية بلادهم قد دخلت منعطفا دوليا غير مسبوق، وأن الملك الوطني محمد الخامس قد ولد كزعيم لمشروع وطني مغربي من أجل الإستقلال. لأن أكبر معاني ذلك اللقاء (الذي لم يحضره الجنرال دوغول، بسبب ضغط مؤسسة المعمرين الفرنسيين القوية بالمغرب، وأيضا لأنه مدرك أن الحضور فيه اعتراف رسمي بسيادة الدولة المغربية من خلال رمزها، ملك المغرب. وهو لا يريد أن يسجن نفسه في أي موقف يلزمه بوعد منح استقلال للمغرب). أقول إن أكبر معاني ذلك اللقاء، إذن، هي أن العالم الحر الغربي، يعترف بالدولة المغربية، وبنظامها السياسي. من حينها ولد محمد الخامس البطل، في الوعي العام للمغاربة، نخبة ومجتمع، حتى قبل خطاب طنجة يوم 9 أبريل 1947، وحتى قبل رفض التوقيع على الظهائر وقرارات حكومة المقيم العام الجنرال جوان سنة 1951، وصولا إلى لحظة نفيه وعائلته الملكية كلها يوم 20 غشت 1953، من قبل المقيم العام الجنرال غيوم. بالتالي، فإن ما يستشف، مثلا، من بين سطور كلمات حكي كبرى بناته زينة الشابي، أنهم وهم أطفال صغار، كانوا منخرطين باكرا في سؤال الشأن الوطني المغربي، مما رسخ في ذهنهم أنهم "مختلفون عن باقي أقرانهم الفرنسيين في فصل الدراسة" وأنهم "مغاربة". والسبب ما كانوا يتتبعونه بشكل غير مباشر من نقاش واجتماعات وحركية عمالية ووطنية في بيتهم بسانتيتيان. فالأب ينظم ويشرف على لقاءات عمالية مغربية ومغاربية، بالتنسيق مع رفاق له محددين، والأم تقرأ الجرائد الفرنسية بصوت مرتفع حول أخبار القضية المغربية والمغاربية على عدد من العمال المغاربة والمغاربيين في مطبخ محلها التجاري، لأنهم لا يتقنون قراءة اللغة الفرنسية، بما كان يتبع ذلك من تعاليق ونقاشات. لكن، كيف ترسمت تلك المسؤولية السياسية في العائلة؟ وكيف تحول بيت مولاي العربي وزوجته جوزيفين (التي بدأت تكتسب لقب "مدام مولاي") بسانتيتيان إلى محطة حاسمة في ذلك النضال السياسي الوطني؟. إن الجواب الفصل في مواضيع مماثلة، تجده عند العدو والخصم، أكثر مما قد تجده مفصلا عند رفاق الطريق. في بعض وسائل إعلامه، أو في تقارير أجهزته السرية والأمنية. وهو ما نجده في بعض من تلك التقارير، التي رفعت عنها السرية اليوم، حيث تمة معلومات مدققة حول كيفية التحاق مولاي العربي بحزب الإستقلال سنة 1945 بفرنسا، وأن زميلا له منجميا مغربيا إسمه محمد بلمهدي، سكرتير الحزب لجهة سانتيتيان، هو الذي أشرف على عملية أدائه قسم الإلتحاق بالحزب، مع الإلتزام بأداء اشتراك شهري قيمته 100 فرنك فرنسي. بل إن القسم نفسه المدون يقول بالحرف (مترجما عن الفرنسية): "أنا مولاي العربي بن عبد القادر، أقسم أمام الله وأمام كتابه المقدس القرآن، أن لا أعمل أي شئ يضر بحزبي وأن أخدم قضيته بوفاء وأن أخدم أيضا قضية سلطاني وملكي بغاية نيل بلادي استقلالها". وأن التعليمات السياسية الحزبية، كانت تأتيهم من باريس ومن الرباط، عبر طالبين مغربيين إسمهما عبد الرحمن بن عبد العالي وإدريس فلاح. مثلما أن من كان يزودهم بالأخبار والمواقف، عبر إرساليات من خلال جريدة "العلم"، شاب وطني مغربي إسمه عبد الرحيم بوعبيد (ستتوطد علاقة مولاي العربي، بهذا الزعيم الوطني أكثر، منذ أواسط الأربعينات، واستمرت علاقتها لأكثر من 45 سنة). وأنه كانت تنظم اجتماعات شهرية تعقد سريا، بالمقهى 40 بمناجم شركة "فيرميني" بمنطقة "روش لاموليير" التابعة لبلدية سانتيتيان، وأن تلك الإجتماعات يترأسها دوما شخصان هما مولاي العربي بن عبد القادر ومغربي آخر إسمه الحلوي. الحقيقة أنه منذ لقاء "مؤتمر آنفا"، وصداه بين شبكة الحركة الوطنية للمهاجرين المغاربة بفرنسا، ثم صدى وثيقة 11 يناير 1944، المطالبة باستقلال المغرب بشكل واضح وصريح، لأول مرة منذ تنفيذ الحماية في 30 مارس 1912، وإعلان تأسيس وميلاد حزب الإستقلال، أصبح الوعي السياسي في بعده الوطني واضحا عند مولاي العربي وأصبح نقطة ارتكاز ضمن خلايا العمال المهاجرين المغاربة والجزائريين (لأنه ارتبط بالعديد من قادتهم بفرنسا بعد ذلك). وسيشاء قدره أن يجمعه بالصدفة مع شخصية فرنسية، سيكون لمعرفته بها أثر بعدي، 12 سنة بعد ذلك اللقاء، حين سيعتقل مولاي العربي بالمغرب، بسبب انتمائه لقيادة المقاومة المسلحة إلى جانب الشهيد محمد الزرقطوني والمرحوم محمد منصور وسعيد بونعيلات، ومطالبة المدعي العام بحكم الإعدام ضده، الذي سيخفف إلى المؤبد، بسبب تفاصيل لقائه مع تلك الشخصية الفرنسية سنة 1943. لقد وجد مولاي العربي في أحد أيام أول سنة 1943، نفسه أمام رجل يدخل محله التجاري في ساعة متأخرة من الليل، يرتدي معطفا طويلا، والحركة قد قلت في الخارج، بينما هو يهيئ ذاته رفقة زوجته للإغلاق. كان الرجل صامتا يتأمل بعين زائغة بعض المواد الغدائية المعروضة للبيع، قبل أن يقع فجأة على الأرض مغمى عليه. حمله مولاي العربي إلى الداخل بمطبخه، محاولا إسعافه لاستعادة وعيه. صب عليه قليل ماء وبعد محاولات عدة لإنهاضه، استعاد وعيه واستفاق قليلا، فأجلسه مولاي العربي وزوجته "جوزيفين" على كرسي وقدما له كأس ماء وقليلا من السكر، وانتظرا حتى استعاد وعيه كاملا واستعاد قواه وقدرته على الكلام. فكانت المفاجأة كبيرة. + هامش: هذا البحث التاريخي، حول شخصية مولاي العربي الشتوكي، مندرج ضمن مشروعات أبحاث مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث.