عبد الله العروي مثقف فد جسور. ليس فقط ، لأنه مثقف جدير بصفة الموسوعية: مؤرخ وفيلسوف التاريخ وباحث وروائي.. بل لأنه « وفي لمنهج «..» يعي ضرورة القطيعة ويقدم عليها..». ولأن القطيعة من عمل التاريخ، أو من التاريخ العامل، فإنه لا يصح ولا يجوز مقارنة قيمته الثقافية بالقدماء من مفكرينا، أو من مفكري الحضارات الأخرى. لكن بالمقارنة بالحاضر، أستطيع القول، دون أن أخشى المبالغة، أنه بخطابه التاريخي المنطقي والواقعي ? وبعموم خطابه الفكري والأدبي ? المتكامل والشامل، يكاد يمثل ظاهرة ثقافية فريدة في حاضرنا الثقافي : فريدة برصانتها وصرامتها المعرفية.. بجرأتها النقدية الصّريحة.. بحسها التاريخي الثاقب.. بانطلاقها دوما وأبدا من معطيات التاريخ وعناصر الواقع قبل المفهمة والتأويل والحسم.. بتحررها من السلط الاجتماعية والأخلاقية والسياسية التي يمكن أن ترهن أو توجه أو تؤدلج اختياره المنهجي..وقبل كل هذا وبعده، بحرقتها العميقة الصّادقة بالهمّ الإصلاحي . ولأنها تعي جيدا (في حالتنا المغربية على الأقل)الشروط المجتمعية والسياسية والجغرافية والثقافية المعيقة للإصلاح ( المغرب جزيرة مطوقة، لا يمكن في نطاقها السماح للنفس بالمغامرة بعدم الاستقرار..كما يقول .. ) إن هذه الإنقطاعات تحديدا هي التي تؤمن الإستمرار يانيس ريتسوس إن ثقافة تربية الأم، إذن، هي التي تعرقل، عندنا، استواء الديمقراطية، كما تعرقل الوعي بالمواطنة ومستلزماتها(ص126). والحاصل أن دولتنا الوطنية الملكية ، هي هكذا، ضرورة، بسبب الأمية. إذ مع البداوة والفطرة الأمر، ومع المدنية السياسة. فلو كنا قد انسلخنا عن الفطرة، ولو كانت التربية النظامية المدنية قد قضت على تربية الأم، أي لو كان الفطام قد تم عندنا، لفهمنا المصلحة العامة تلقائيا، ولضبط العقل الغريزة فينا، أو على الأقل لعمل الاثنان فينا بنفس القوة، ولعشنا في محيط مدني لا داعي للتمييز فيه بين العشائري المحلي، والوطني المركزي. وبما أن الواقع غير هذا، كان من الضروري الحفاظ على الإمامة كحبل واصل بين المكشوف والمحجوب، المحلي والوطني، لولاها لما تم الانقياد إلى سلطة تتعالى على المحلي والعشائري . فما دامت الأمية(تربية الأم )متفشية، تظل الحاجة إلى الإمامة قائمة . فمتى تمحي عندنا الأمية بمعناها الكامل؟ متى ننفصل عن الأم؟ بل وما جدوى التأويل الديمقراطي للدستور الملكي في ظل طغيان ثقافة الأم؟ هناك بالمغرب مقومات للأمل في المنحى الديمقراطي..(الديمقراطية المحلية-المنافسة الدولية في إطار عولمة الإقتصاد- تخلص الأحزاب السياسية من أعطاب التبعية والمبايعة ? تنشيط المجتمع المدني) لكن الإخفاق وارد..والنجاح وارد.. 3 - الحالة المغربية: يشكل المغرب السياسي، والمغرب الدولة، في الماضي والحاضر، هاجسا مركزيا مؤرقا لعبد الله العروي في هذا الكتاب وفي غيره، وطبعا في شخصية هذا المواطن المغربي، كمفكر ومؤرخ مهموم وقلق على الحاضر والمستقبل السياسي لبلده. إن الحالة المغربية ليست استثناءا في تاريخ وحاضر السياسة. فنحن المغاربة، كغيرنا من الشعوب، لنا عقلية عامة، ذهنية سائدة، تقاليد وأعراف، تربية وسلوك نستمدها من التربية الأولى. وظيفة هذه التربية لا تتغير حسب الأوساط والهيئات والجهات. نحن المغاربة فينا تنوع وفوارق شتى، لكن ضمن سلطة سياسية واحدة . وهذه خاصية كل المجتمعات القريبة منا. مفهوم القبيلة، عندنا، يظل عاما، وهو في عموميته ينطبق علينا كما على غيرنا في الشرق والغرب معا. لهذا فهو لا ينفع السياسة في شيء. الأخيرة طموح ، بينما أفق القبيلة محدود. الزاوية، عندنا، لها وظائف عديدة حيثما بعد السلطان أو ضعف أو غاب. إنها مؤسسة اجتماعية إخوانية تسمو عن الفوارق، وتربية وجدانية تقوم على الانقياد والاعتقاد والخضوع والنية، لكي تضمن للفرد الهناء والقناعة والشفاء. ولما كان لنا اليوم أحزاب ونقابات وجمعيات ونواد تقوم بما كانت تقوم به الزاوية، ولما كان الأفراد في هذه الهيئات قد تربوا في أحضان زاوية، أي أن تربية الزاوية هي كل ثقافة الأم، فإن هذه الهيئات تتحول إلى زوايا. وهذا من الأعطاب الثقافية والتنظيمية والعلائقية المزمنة في هذه الهيئات العصرية. الأدهى من ذلك، أنه لما تعمق الملل والشك في الرهان على هذه الهيئات، لم يعد الأفراد إلى أنفسهم وأسرهم الضيقة، بل أنعشوا من جديد زوايا قائمة أو مستحدثة، فعادت الدعوة طافحة إلى أصوات الخضوع والانصياع والنية والتوسل والكرامة والرؤيا. العلماء والأشراف، وإن كانت لهم تجربتهم الخاصة، فإنها تندرج ضمن تجربة الزاوية، أو الديوان المخزني . أهل الحرف تابعون في معظمهم إلى الزوايا، حيث تغلب فيهم التربية ( على النية والولاء..) على التجربة (المعاناة اليومية..) النخبة الاجتماعية تتحكم فيها الطبيعة عبر التربية الأولية، حيث غلبة الاستمرارية. المخزن، عندنا، تنظيم مضاف إلى القبيلة والزاوية، يتلخص في جيش وديوان ( سيف وقلم ). لا خصوصية لنا في هذا. إلا أن ذهنيتنا المخزنية متميزة في تفوقها عن ما يماثلها في مجتمعات أخرى: الولاء تام عند مخزنيينا، وكذلك الخضوع والكتمان. هذه الذهنية لاتهم عندنا، فقط، رجال المخزن، إنها تنتشر آليا في سائر المجتمع، فتصير العلاقة المخزنية هي الغالبة على القبيلة والزاوية وحتى الأسرة. لهذا يبقى النظام عندنا ثابتا، وكذلك الذهنية العامة. وبالتالي، فالفرق بين مجتمع وآخر في العمق والمدى فقط، في ما هو للدولة وما لغيرها، ما للمؤسسة وما لخارجها. عندنا المدى شامل، العمق غير محدود. في السياسة عندنا يتحكم الطبع والإرث (تربية الأم )أكثر من التأمل والعقل. إن مكونات السياسة عندنا هي موانعها في نفس الوقت. ولما كان المدار أو الساحة العمومية عندنا منعدمة أو محدودة الوظيفة، ولما أضيف إلى هذا تطور تقنيات التواصل، ،فقد ازدادت عزلة الفرد، الذي عاد مرغما إلى حضن الطبيعة، إلى القبيلة والزاوية والأسرة، إلى روابط الأم. عن تطور الملكية المغربية، يشير ع الله العروي إلى أن الإخباريين يتحاشون استعمال لفظ ملك، لما ألتصق به في القرآن من طغيان وتكبر واستبداد. فيستعملون ألفاظ: إمام، أمير، خليفة، سلطان...فإسماعيل العلوي سلطان / قائد جيش قبل كل شيء، لفظ سلطان يشير إلى المهم في السياسة ،إلى القدرة على الأمر والنهي. النعوت الأخرى كأمير وإمام لها وظائف إضافية. سليمان إمام بالشرف والشرع ( لم تكن له حيلة أخرى). محمد الخامس ورث عرشا تحث وصاية أجنبية، لا تصرف له في أي من آليات ودواليب الدولة . لم يبق له غير كسب ? ولاء ? الشعب من فوق رأس الهيئات والتنظيمات التقليدية ( قبائل وزوايا وأعيان )، فأحيى مراسم ? البيعة ? أو العهد المقدس كما في كتابات الوطنيين. تحقق الاستقلال، وبقي الدستور مجرد وعد. جاء خلفه الحسن الثاني، فاستمع باستمرار ووفاء لنصيحة ما كيا فلي : اختر الهيبة على الحب لأنها أضمن لسلطانك ( ص 71 ). لقد ظل دائما وفيا لعقيدته في الحكم التي تقول: ليس هناك من قوة ( وليكن الدستور مثلا) قد تنقص من صلاحياته الشاملة الجامعة الواسعة، فهو سلطان وأمير وإمام وشريف وقاض..الخ، هو ملك المغرب بالمضمون الحرفي، هو ?الجسر بين المرئي واللامرئي ?، هو ?البركة?، فيه تتوحد الإرادات جميعها. لا يتنازل لأي كان عن مسؤؤليات الجيش والدين والعدل والأمن الداخلي والعلاقات الخارجية. إن نظرية الحسن الثاني في الحكم - والتي تقول، لا ملك حقا إلا في الملكية، وإلا فالأمر فوضى ? ليست استثناءا. إن لها مناصروها في الماضي والحاضر، وحتى في الجمهوريات العريقة. حكم الحسن الثاني، إذن، ينتمي إلى حكم الواحد في دولة القلة لأنه المؤتمن على دولة الجمهور( الشعب ) كما ألزمه إياها هذا الأخير بيعة ومبايعة. هذا التركيب يفيد، أيضا، أن الدولة في عهد الحسن الثاني كانت مزيجة: ملك ونخبة وشعب، أو سلطان وخاصة وعامة.