حدد عبد الله العروي، المؤرخ والمفكر والروائي المغربي الأبرز، في كتابه الأخير "من ديوان السياسة"، مداخل للإصلاح الدستوري على أساس "تأويل ديمقراطي للدستور" بدل "التأويل السلفي". عبد الله العروي ذكر صاحب الإيديولوجيا العربية المعاصرة ببديهيات السياسة واقفا على مدى "الأمية" المتمثلة في"مجموع العوائق التي تمنع بلورة الوعي بالمواطنة عند الفرد. أضمن وسيلة لمجابهتها والتخفيف من تأثيرها على المستوى الوطني إقامة ديمقراطية محلية حقيقية، تسلب من الدولة المركزية أجهزة التخويف والتمويه". ويزيد موضحا "لنا مقاه ونواد، ثقافية ورياضية، لنا جمعيات ووداديات، لنا أحزاب ونقابات مهنية، تقوم كل واحدة في مجالها بما كانت تقوم به الزاوية. هذه أسماء تنظيمات جوفاء إذا لم ينعشها إفراد. وهؤلاء الأفراد، قادة وأتباع، كيف يفكرون، كيف يتصرفون، كيف يتخاطبون؟ إذا تربوا في أحضان زاوية، إذا كانت تربية الزاوية هي كل ثقافة الأم، مجسدة في كلامها وسلوكها ونصائحها، أما يعمل ذلك، في ظروف مواتية، على تحويل فرع الحزب أو النقابة أو الجمعية – لا في العاصمة، لا في المدينة المنفتحة على سائر الدنيا، بل في المدينة الصغيرة والقرية المنزوية – إلى زاوية، سيما إذا كان المقر هو المبنى القديم نفسه؟". يذكر العروي بالسياق الذي جاء فيه "الدستور الملكي المغربي" سنة 1961 فيقول "بعد انهيار نظام الحماية ظن الكثيرون أن الوقت حان لإعادة بناء الدولة المغربية على أسس منطقية واضحة. ولا بأس أن يكون اللباس على غير المقاس إذ جكيع الدساتير تصبو إلى الأمثل. اعترض البعض: لا حاجة لنا لأي اقتباس أو إبداع. الدستور بدعة وكل بدعة ضلالة. حقيقة الأمر أن هؤلاء كانوا يودون إسناد التدبير إلى من كان منبوذا في العهد السابق، أعني العلماء. لكن كيف يسير الشأن العام من ظل مبعدا عنه طيلة جيل؟ لم يحقق المعترضون أغراضهم لكنهم منعوا خصومهم من الوصول إلى مبتغاهم. فجاء الدستور الممنوح سنة 1961، لا هو إحياء لما كان ولا هو تحقيق لما حلم به الوطنيون، بل كان وصفا وفيا للوضع القائم بعد أن استعاد ملك المغرب كل السلط التي سلبتها منه معاهدة الحماية". ويضيف موضحا. "الحق أن الازدواجية هنا لها صبغة خاصة. الدستور الملكي المغربي مطابق لواقع، لكنه مكتوب بلغتين (كتب على حرفين). لا نعني بذلك العربية والفرنسية كما يتبادر إلى الذهن، بل نعني أنه يحتمل قراءتين: شرعية وديمقراطية. كل كلمة فيه (سيادة، سلطة، حكومة، قانون، انتخاب...) قد تؤل تؤيلين. يمكن لأي امرئ أن يعيد تحرير مواد الدستور بصيغة شرعية حتى لتظن أنه نظام خلافة، أو بصيغة ديمقراطية حتى لتظن أنه دستور دولة اسكندنافية. والأمر هكذا لا لأنه كان مقصودا أصلا، بل لأنه عبارة عن إرث مزدوج، تلقيح المخزن التقليدي بإدارة الحماية". أما اليوم يشرح العروي "يبدو واضحا أنه لم يكن في الإمكان تحقيق القطيعة التي تمناها الفقهاء السلفيون من جهة والوطنيون الإصلاحيون أو الثوريون من جهة ثانية. لو أدرك أحد الفريقين مبتغاه وحرر الدستور بمنطقه لكان عليه بعد ذلك، ليحصل في الواقع قدر من التجانس والتناغم، أن يقوم بقفزة إما إلى الأمام (ثورة اجتماعية وثقافية) وإما إلى الوراء (ثورة مضادة)، دون أن يضمن لنفسه حظوظ النجاح. للسبب نفسه، بعد أن مر على صدور الدستور الممنوح أكثر من نصف قرن، أصبحّ من الصعب جدا العودة إلى المنطلق واستئناف العملية الدستورية من الصفر. الأقرب إلى المستطاع السير على طريق التأويل، في أحد الاتجاهين السلفي أو الديمقراطي". ويحذر صاحب "مفهوم الحرية" و"مفهوم الدولة" من خطورة "التأويل السلفي للدستور" قائلا "التأويل السلفي يعتمد بالضبط سلوك السلف. لو كان صالحا جملة وتفصيلا، لكل زمان ومكان كما يقال، لما حاد عنه أحد ولما احتجنا إلى إحيائه بعد قرون من الفساد والانحطاط. هذه صعوبة مبدئية تواجه كل مشروع إحيائي. (...) يوجد اليوم مجتمع دولي، قضاء دولي، صحافة دولية، أردنا ذلك أم أبيناه. هناك اتفاقيات دولية توصي بأمور وتحذر من أخرى في مجال حقوق الجنس والفرد والأقليات. هناك مكافآت لمن يوافق وعقوبات على من يفارق، فيسمى مارقا. في هذه الحال لا خيار: إما التخلي عن النص أو التغافل عنه وإما الإنزواء والعزلة. العزلة مكلفة جدا على المدى الطويل وإن أمكن تحملها لفترة بسبب ادخار سابق كما هو حال البلاد النفطية. الأخطر في هذا التأويل أنه يختزل حياة البشر في الخضوع والانقياد. يحول العقيدة إلى سياسة كما يحول السياسة إلى عقيدة، ينتفي في هذه وتلك كل تطلع وطموح. يفعل المرء أشياء كثيرة صالحة مفيدة لكن منصاعا منقادا. يفعلها لا لذاتها، لمنافعها، بل إظهارا للطاعة والانقياد. ويقنع بالأمر. أي مستقبل لمجتمع هذه عقيدته، هذا سلوكه، وإن كان فاضلا متكافلا؟". إذا كان التأويل السلفي يستند "على المادة التي تقول: الدولة المغربية دولة إسلامية"، يقول العروي، فإن التأويل الديمقراطي ينطلق من "البند القائل: السيادة للشعب ثم يستنتج ويتابع الاستنتاج إلى حدوده القصوى". في نهاية التحليل يخلص العروي "إن كان التأويل السلفي مطوق بأوضاع الخارج، فالتأويل الديمقراطي مطوق بأوضاع الداخل العائدة في نهاية التحليل إلى ما أسميناه بتربية الأم". فيما يلي مقاطع من كتاب "من ديوان السياسة" حول تصور عبد الله العروي لهذا "التأويل الديمقراطي للدستور الممنوح": الديمقراطية المحلية. السيبة تنوعت وتجددت أهدافها ووسائلها، بل إنها مرشحة للانتشار، لدوافع داخلية قبل أن تسندها قوى خارجية. تتقوى تلقائيا بتوسع نطاق التربية النظامية في شكلها الحالي، المتضمنة أدلوجة معينة. هذا أمر نجربه يوميا. المطلوب في إطار التأويل الديمقراطي للدستور الملكي هو موقف جديد من السلطة المحلية، بمنظور مستقبلي. ما يبدو خطرا اليوم، في حال القطيعة والإهمال وربما المواجهة، قد يتحول إلى قوة مساندة للديمقراطية وللتنمية إن وجه التوجيه الصحيح. (...) التقطيع الحالي، 16 جهة، تختزل بسهولة إلى 10 إدارية محض (الريف، تافيلالت، الصحراء، الغرب، الحوز، الأطلس المتوسط، الأطلسي، سوس، الشرق – المحرر). (...) هناك مشكلات، واقعة أو متوقعة، تتعلق بحقوق جماعية، كثيرة ومتنوعة، من اللغة إلى توزيع الخيرات مرورا بالتعليم والتجهيز. تبدو اليوم مستعصية على الحل إذ تطرح على المستوى المركزي. بما أن هذا المستوى ليس متجانسا بالقدر الكافي (من هنا ظاهرة التعددية)، فالتوافق حولها صعب جدا. لذلك يتحاشى نقاشها البرلمان والحكومة وترفع إلى نظر الحكم الأعلى أي الملك. وهذا الأمر بالذات هو الذي يدفع إلى تأويل الدستور تأويلا يتجه نحو الاستئثار بالرأي، أي نحو دولة الواحد. (...) البرلمان المحلي، أساس البناء الديمقراطي، الخاضع لدستور خاص به. يفصل في كل المسائل العالقة، على رأسها مشكل اللهجة والانتماء، ثم التعليم والإدارة والأمن والتجهيز... ألخ. الشورى نحافظ على الغرفة الثانية (...) لكن نربط تكوين هذه الغرفة بالديمقراطية المحلية، التي أوكلنا إليها مهمة تحاوز التكتلات الطبيعية (العشائرية وغيرها)، فلم تعد إذن حاجة إلى التعرض لها على المستوى الوطني. أما الهيئات المهنية فشأنها شأن الغرفة الأولى باعتبار أنها تهتم أولا وأخيرا بالمصالح، فلماذا تمثل تمثيلا منفصلا؟ هدف هذه الهئيات التأثير على المشرع، ليكن التأثير مباشرا دون واسطة. تبقى هيئات أخرى ذات طابع غير مصلحي، عقائدي أو ثقافي. هذه هي التي يجب أن تكون عماد الغرفة الثانية. فائدتها الأساسية أنها تمثل ذلك التنوع العام البنيوي التي أقيمت على أساسه الديمقراطية المحلية. بما أن الدولة الملكية مكونة من ولايات ميزها المسار التاريخي ولم يمح ساتها الخاصة التطور اللاحق، تم أخيرا الاعتراف بخصوصيتها وفوض لها حق تسيير شؤونها، فالغرفة الثانية هي المرآة التي ينعكس فيها التفاعل بين واقع الاختلاف وضرورة الائتلاف. رمز الوحدة هو بالتعريف الملك. الغرفة الثانية هي مجلسه، الاستشاري والتنفيذي. يرأسه بنفسه أو يفوض ذلك لولي عهده حتى يتدرب هذا الأخير على شؤون الدولة. تمثل فيه الولايات بالتساوي إلى جانب هيئات غير مصلحية كعلماء الدين والخبراء في سائر الميادين وبعض كبار المسؤولين السابقين إلخ. والغرفة الثانية هي المجلس الملكي الاستشاري بامتياز يحل محل كل المجالس الفرعية المتكاثرة. وهي كذلك مجلس تنفيذي بما في يد الملك دستوريا من اختصاصات. كل ما سواه يلغى حكما. لم يعد مبرر لديوان خاص أو دار مخزن، إلخ. بتأسيسه تنتهي سياسة الظل التي هي سياسة السلطان. الملك حََكَم، منسق بين الدولة الوطنية والولايات المختلفة، فلا بد له من جهاز فعال. الغرفة الثانية هي ذلك الجهاز، دستوريا. مجلس النواب إذا اتسع أفق الناخب إلى حدود الوطن، تلك التي أقرها منذ قرون التطور التاريخي، تجاوزا للفوارق التي تجد من يعبر عنها على المستوى المحلي، لم يعد مبرر لأي تسامح مع الأمية بكل مظاهرها، لا عند الناخب ولا عند النائب، بل قد تعتبر خرقا لقانون المواطنة تجيب الزجر. اللاأمية تعني، كما أكدنا سابقا، الانسلاخ عن مؤثرات التربية الأولى، تربية الأم. في هذا الإطار تعالج المشكلات التي نشتكي منها عادة: المقاطعة والعزوف، الاتجار بالأصوات، تغيب النواب، قلة المبادرة، العي والعجمة، الخ. بعضها قد يختفي أو يخف حدة بمجرد تحقيق الديمقراطية المحلية، وبعضها يحل بإجراءات تبدو تعسفية في الظرف الحالي وتقبل في الظرف الجديد، منها إجبارية التصويت، منا التأهيل، منها الإقصاء وعدم التجديد، الخ. كل ذلك مندرج تحت شرط المواطنة عند الناخب والنائب. إذا ارتقى مجلس النواب إلى المستوى المنشود اختفت بالضرورة أسباب الريبة التي تحوم حوله في الدستور الملكي الحالي. يخشى منه التجاوز، التدخل في ما لا يعنيه أو ما لا يتقن. الحكومة. إذا وجد التنوع الاجتماعي تمثيلا له على مستواه، أي في النظاق المحلي، لم يعد عندها داع لتثنية وربما تثليث التمثيل، وهو الحاصل عندنا: المصالح الفئوية ممثلة على ثلاثة مستويات، بل أكثر إذا اعتبرنا المجالس الاستشارية المتزايدة. قد يكون الاقتراع باللائحة ضرورة مرحلية، لكن بعد حين لا بد من تجاوزه. وتدل تجربة غيرنا أن الأنسب، عند تحقيق ديمقراطية محلية نشطة وما يترتب عنها من نتائج إيجابية، هو الاقتراع الأحادي. به تتكون أغلبية برلمانية واضحة. فائدة اللائحة، الحفاظ على الوحدة، تغيب مع انتشار الثقافة الديمقراطية، إذ الوعي بضرورة الوحدة يتحقق في كل فرد، ناخبا كان أو مرشحا. إذا تكون البرلمان من أغلبية وأقلية، مهمة الأولى الحكم ومهمة الثانية المراقبة، هذه وتلك متفقتان على المبادئ والأهداف مختلفتان على سبل التنفيذ، صار من باب المسلم أن الحكومة جاهزة يكشف عن أعضائها إثر الإعلان عن نتائج الاقتراع. هي نخبة أفرزتها آليات دستورية ونالت اقتراحاتها ثقة الناخبين. في غياب هذه الشروط يتداخل المستويان، المحلي والوطني. فتحصل فجوة بين البرلمان والحكومة. مهما تكن الظواهر، البرلمان المجزأ تجزئة المجتمع لا يكون حكومة، بل يتقبلها فقط. تفرض عليه إذا أريد لها أن تحكم فعلا. الحسبة. المطلوب هو أن يقبل مبدئيا جميع المشاركين في النشاط السياسي أن يكونوا دائما تحت النظر، وأن كل تستر ينقلب حتما على مرتكبه. الحسبة بالمعنى المحدود مجسدة في أجهزة ومؤسسات، فهي مرادفة للقضاء بشتى فروعه. الحسبة بالمعنى الواسع هي مجموع الوسائل التي يلجأ إليها المجتمع، في تنظيمه السياسي، للاتهام نفسه، الاحتراس من نوازع النفس، من تأثير الطمع والطموح والخوف والثقة العمياء. من تلك الوسائل، في ظروف اليوم، لجان تقصي الحقائق (ملكية، برلمانية، حكومية، دولية)، الصحافة الحرة (الوطنية والدولية)، الجمعيات العاملة فوق التراب الوطني، أكانت بمبادرة أهلية أو بإيعاز خارجي، المحاكم الدولية... لنا جميعا مآخذ كثيرة على كل هذه الهيئات. ليست كلها نزيهة، مطلعة، منصفة، مؤهلة، إلخ. لكنها قائمة، نشيطة، مؤثرة. لم تنشأ وتتكاثر عبثا. مقاطعتها لا تغني، تجاهلها لا يفيد. الملك. للإمامة قداسة، لا شك في ذلك، قداسة تخص شخصا واحدا ووظيفا معينا. لا بأس أن تجل على ذلك مراسم محددة، من مظاهرها اللباس وتقبيل اليد. يرتدى اللباس وتقبل اليد عند القيام بالوظيف المذكور ، لا غي غيره (أي وظيفة الإمامة وليس وظيفة الإمارة – المحرر). وفي الأمر عودة إلى الأصول. (...) تفيد تجربة التاريخ أن ما يضاف إلى الإمام ينزع من الملك. الملك يحكم ببطانة لأن النخبة ضعيفة. والنخبة ضعيفة، في البرلمان وفي غيره من المؤسسات، لأن الجمهور لا يزال "أميا". إذا تغيرت هذه الأوضاع، أي تحققت شروط الديمقراطية، عادت النخبة نخبة حقا، قادرة على الحكم فعلا بتكليف من النواب، وتحت نظرهم. يظل الملك مرجعا ضروريا، لا كأمير بل كإمام، حتى وإن رفعت إليه مسألة خلافية مصلحية، لأن الرجوع إليه يتحتم عند الالتباس، وهذا يحدث في أمر ذي وجهين، مصلحي وغير مصلحي. عدا ذلك الملك مواطن. يتكلم، ينصح، يعمل، يستثمر، فيربح أو يخسر كباقي المواطنين. يفعل ذلك عبر وكلاء ومساعدين، في واضحة النهار، محاطا بكل احترام وتوقير. هل في هذا التطور مس بالهيبة اللازمة؟ من يطرح السؤال يتكلم بمنطق قديم. في المستوى الديمقراطي تتحول الهيبة إلى محبة. ميل الديمقراطية إلى المحبة، المفرطة أحيانا ولو لفترة، صفة معروفة. أو ليست الدول الأعرق في ديمقراطيتها ملكية النزعة رغم اختلاف معنقداتها؟ أولا تميل الجمهوريات الديمقراطية إلى أن تجعل من رؤسائها المنتخبين ملوكا موقتين؟". من ديوان السياسة – المركز الثقافي العربي – 2009 / عن موقع كود