يخصص جيل كيبل كتابه «يوميات حرب الشرق» لرحلته التي قام بها إلى مصر وسوريا ولبنان وقطر ثم الإمارت العربية المتحدة، قصد التقاط شهادات واعترافات من الطلاب والأئمة والمناضلين الإسلاميين من أجل فهم حقيقي لما جرى يوم 11 شتنبر 2001، وإلى أين انتهت كارثة الجهاد الإسلامي التي بدأت بمهاجمة نيويورك وآلت إلى انسحاق الطالبان ومطاردة بن لادن والانحطاط السياسي للتيار الإسلامي. يتأمل كيبل كل شيء في المدن الإسلامية التي زارها منذ عشرين سنة وعاد إليها ليجدها تتخبط في عصر ظلام غير مسبوقة. وشيء واحد لا يفارق فكره: هذه المدن هي العش الذي ولدت وترعرعت فيه أفكار التطرف الإسلامي. هذه المدن هي المقدمة الأولى التي أنتجت 11 شتنبر. نقدم هنا ، وطيلة شهر رمضان، ترجمة كاملة لكتاب كيبل الشيق. إلى ميشيل ماريان رجل الفكر كانا يستضيفان طالبان أو ثلاثة من الطلبة الممنوحين لتناول الغذاء معهم ، رفقة مثقفين من اليسار السوري، في بيتهم، الذي يقع وراء محطة «الحجاز»، حيث تنمو شجرة ليمون حامض في حديقة المطبخ. في البيت سجادات، خشب المشربية، حتى أنه في إحدى المرات وجدت امرأة جميلة تدعى شهرزاد بقيت آكلها بعيني في صمت ولم أرها منذ ذاك الحين. كنت أشعر بقلبي يخفق بشدة في تلك الأمسيات، ومتأثرا كثيرا بكوني استطعت اقتحام، على أطراف أصابعي، قاعة طعام تأثرت بها. لقد كانت أيضا ، يجب الاعتراف بذلك، فرصة لأكل اللحم، فمنحتنا البئيسة وتأتينا متأخرة جدا فكنا نقتات خصوصا على تلك البسكويتة الدمشقية الصغيرة التي على شكل نجمة مخفوقة بالزيت والصعتر ، تدعى « مناقيش». ذات يوم من ديسمبر 1977، عندما قبضنا منحتنا، ذهبنا الى بيروت، بدون علم المدير، رفقة «بيار - جان لويزار»، وهو اليوم مرجعنا المتخصص في العراق. تناولنا عشاءنا في مطعم حقيقي، قرب الجامعة الأمريكية، لم يكن هناك إلا القليل من الزبناء. الذين في الطاولة المجاورة، أنهوا عشاءهم، سرقوا المال من الصندوق ،سددوا في وجهنا الأسلحة، وسلبوا منا مالنا القليل. أتذكر المسدس المشهور أمام عيني، وبسبب الرعب رايته ضخما. أتذكر أيضا محاولاتنا إقناعهم بأننا من القلب مع الحزب « الإسلامي التقدمي» ( الذي نوجد في مجاله) قبل أن تخرسنا رصاصة. أتذكر أيضا ذلك اليوم من ربيع سنة 1985، عندما رافقت «ميشيل صورا» إلى المطار ليتوجه إلى بيروت. فاختطف كرهينة ،عند نزوله من الطائرة، من طرف جماعة إرهابية غير معروفة، وعرفت فيما بعد باسم «الجهاد الاسلامي»، فمات موتة فظيعة وهو في أسرهم، في عزلة عن رفاقه ، مخنوقا بنوبات السعال_ حسب رواية جان-بول كوفمان- وهو يصرخ « لن أموت هنا». فجاء تصريح « الجهاد» لوكالات الأخبار كالآتي:» نعلن إعدام الباحث الجاسوس المتخصص...». لن أنسى ذلك أبدا. فعدت إلى دمشق. الأحد 21 أكتوبر، الحي المسيحي في دمشق «القصاع» يحافظ على أناقته. استأجرنا فيه سنة 1977 بيتا فوق أحد السطوح، رفقة طالبين آخرين، «ليلي» و «بيرتراند»، الذي حصدته السيدا مثل العديد من الأصدقاء الغربيين. فيما يتعلق بالبيت، فقد كان مسكنا مؤقتا، جدرانه رهيفة ، مما دفعنا الى الانتقال منه بسرعة منذ أول موجة صقيع. في فصل الشتاء تكون دمشق باردة جدا، فكنا نستعمل موقد البنزين عتيق جدا يسمى «صوبيا»، يعمل بالقطرات. اشترينا الوقود من باعة متجولون يتنقلون بخزان فوق عربة يجرها حمار، يطلقون في الشوارع الباردة، منذ الفجر، صراخا ثاقبا على نوتتين، نمرح كثيرا في تقليده:»ما-زوت». كانوا يمزجون النفط بالماء لمضاعفة ربحهم: الموقد ينطفئ خلال عملية الاحتراق، ثم يبدأ المازوت في السيلان، يملأ الأرض شيئا فشيئا، فتفوح رائحته الكريهة. نستيقظ في الصباح ونحن مجمدون، بألم في الرأس بسبب بخار البنزين، نمسح الأرض، نتأخر عن دروسنا، فنلعن الباعة. اليوم في حي «القصاع»، ذهبت لزيارة «ميشيل كيلو»، المعارض الديمقراطي الذي سجن في نظام الحكم السابق، والذي دافع عنه «ميشيل صورا» في الصحف الدولية، وكان يخشى على حياته. لعب «ميشيل كيلو» دورا كبيرا في سنة 2001، حين خلق «منتديات الحوار» التي أزهرت في» ربيع دمشق». بدأ الناس يتكلمون، بعد عقود من التجلد والصمت. وعديدون هم الذين تمنوا لو أن الرئيس الشاب، الذي أطلق مجموعة من المقربين منه علامات تفاؤل، يقود البلاد نحو الانتقال الديمقراطي بإشراكه في الحكم ممثلون عن الطبقات الوسطى. سريعا بدأت تلك المنتديات تنتقد النظام السابق، وباروناته الأوصياء بدؤوا يذكرون بشار الأسد هو ابن من. فأغلقت المنتديات واحدة بعد أخرى.