يخصص جيل كيبل كتابه «يوميات حرب الشرق» لرحلته التي قام بها إلى مصر وسوريا ولبنان وقطر ثم الإمارت العربية المتحدة، قصد التقاط شهادات واعترافات من الطلاب والأئمة والمناضلين الإسلاميين من أجل فهم حقيقي لما جرى يوم 11 شتنبر 2001، وإلى أين انتهت كارثة الجهاد الإسلامي التي بدأت بمهاجمة نيويورك وآلت إلى انسحاق الطالبان ومطاردة بن لادن والانحطاط السياسي للتيار الإسلامي. يتأمل كيبل كل شيء في المدن الإسلامية التي زارها منذ عشرين سنة وعاد إليها ليجدها تتخبط في عصر ظلام غير مسبوقة. وشيء واحد لا يفارق فكره: هذه المدن هي العش الذي ولدت وترعرعت فيه أفكار التطرف الإسلامي. هذه المدن هي المقدمة الأولى التي أنتجت 11 شتنبر. نقدم هنا ، وطيلة شهر رمضان، ترجمة كاملة لكتاب كيبل الشيق. إلى ميشيل ماريان رجل الفكر أرسل لي جاك فرنانديز حديثا ألبوم رسوماته عن لبنان التي ينشرها هذه الأيام. لقد اجتزنا هذه الطريق معا في السنة الماضية حتى وصلنا سهل البقاع. أعرف هذه البيوت التي رسمها بسرعة بقلم الرصاص أو بالصباغة بواسطة حقيبته الصغيرة المحتوية على الصباغة المائية، و التي تلازمه أثناء السفر، ليحمل شهادته من أجل المستقبل، في وميض خطه أو ريشته، فظاعة جراح لبنان، في الوقت الذي تكتشف فيه أمريكا في أبعد الأعماق، وللمرة الأولى، الألم الذي تسببه حرب حقيرة وبلا وجه. على الحدود اللبنانية السورية، تعرفت على البناية الصغيرة ذات السقف القرميدي الأحمر الأنيق حسب أسلوب الانتداب الفرنسي فيما بين الحربين، الذي يحتوي على مدخلين تعبر منهما السيارات، وباب آخر خاص بسيارات الأجرة. لم أمر من هذا الطريق على الجانب السوري منذ أربعة وعشرون سنة. عندما كنت طالبا ممنوحا بالمعهد الثقافي الفرنسي بدمشق، حيث كنت أنهك نفسي بدون نجاح يذكر في تعلم اللغة العربية تحت سلطة مدير بروتستانتي بسببه بقي ذلك التعلم في إطار الألم. كنت مع رفاقي في الألم نهرب إلى بيروت من المناخ الخانق لمدينة يتم فيها الإحساس بثقل الدكتاتورية حتى في العلاقات بين الأشخاص. في خراب المسكينة «ساحة القداس» ( رسميا «ساحة الشهداء». وهي، واحسرتاه، الكلمة المناسبة ) ، بين الأسواق ذات الأسقف المثقوبة بالقذائف، نجد كل ما نفتقده في قحط الاشتراكية السورية. وخصوصا الخبز. أظن أنها التجربة الملموسة الأولى التي لمس فيها بالإصبع الطالب اليساري الذي كنته غرابة الاقتصاد المرؤوس. «الخدمات» الكبرى، سيارات الأجرة الجماعية التي يحشر فيها ستة ركاب، سيارات من نوع الميرسيدس العتيقة التي لا يصيبها العطل، أو الشيفروليه الصفراء، التي تحمل من بيروت مؤونة الخبز «الشامي»، وعلب بسكويتة الخبر الشرقي المغلفة في لف من البلاستيك. في سوريا تبيع المخبزات المؤممة خبزا مدعما، صلبا وأحيانا يشكل خطرا على الأسنان والمعدة: كان الدقيق ممزوجا بمكونات يرى البعض انه الجبس، والبعض الأخر قال إنه الحجر المدقوق ، ماداموا لم يجدوا فيه الزجاج المسحوق أو قطعا من الحديد الصدئ. محطات سيارات الأجرة في دمشق المتوجهة إلى لبنان، تحولت إلى دكان واسع في الهواء يباع فيه بثمن زهيد الخبز المصنوع في بيروت بالدقيق الحقيقي. في الجمارك، يأخذ الجمركي العشور، وهو عبارة علبة من الخبز يأخذها من صندوق السيارة،كي يغمض العين عن هذا التهريب. وهذا أمر متوقع في هامش الربح. بالمقابل، إذا صادف وأوقفت جمارك الجو سيارة الأجرة، بعيدا على الطريق، تتم مصادرة الكمية دون مناقشة، عندها يغضب السائق ويلعن النظام، الحظ السيئ والركاب، فيسرع نحو دمشق، وقبره مفتوح، على المنعرجات و أعشاش الدجاج. الطريق الذي كان في الماضي ملتويا أصبح اليوم طريقا سيارا. في منحدرات الجبال التي تفصل لبنان،كتابة بيضاء بارزة باللغة العربية تعلن «حافظ الأسد هو قائدنا الكبير»، هجم عليها الصدأ والأعشاب الأطلاليات. بدأنا نتهجى بعض الحروف بصعوبة. لم أعد إلى سوريا منذ موت الأسد الأب وخلافة ابنه بشار له. لقد سخروا كثيرا على هذه الجمهورية، الاشتراكية بهذا الشكل أو ذاك، والتي أصبحت ملكية، سعد الدين إبراهيم في القاهرة، نحت اسما «جملكية»:إنه التروي السياسي العربي، القدر نفسه الذي يسطر لنجل الرئيس، عدي صدام حسين في العراق، وجمال مبارك في مصر. منذ أن أصبح جورج بوش الابن رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية، ظهر بشار بصفته خليفة...