ربما أصبح مستقبل الصحف غير مضمون، لكن مستقبل الصحافة أكيد... قصة المنافسة التي دارت بين قطبين استثماريين من العيار الثقيل حول امتلاك أو دخول رأس مال مجموعة «لوموند»، تؤكد هذه المقولة. لماذا يلقي رجال أعمال من العيار الوازن بأموالهم في مجموعة صحفية على حافة الإفلاس؟ هل هي الرغبة في النفوذ؟ أما الرغبة في الظهور؟ ربما، ولكنها رغبات بثمن باهظ. وربما العكس. هؤلاء المستثمرون اعتبروا أنه بالرغم من كل الصعوبات التي تعيشها، فإن مجموعة «لوموند» تستحق، حتى ماليا، ركوب هذه المجازفة. لماذا؟ ربما لأن منشورات هذه المجموعة تمثل عصارة عدة أجيال خلقت باجتهادها الجماعي مصنعا لإنتاج الخبر يحظى بالمصداقية، والفعالية وبالتالي فهؤلاء المستثمرون الجدد راهنوا على الصحافة، وهم على حق في هذا الاختيار. بالأغلبية قرر مجلس رقابة «لوموند» وضع مستقبل المجموعة بين أيدي مساهمين جدد. ويتعلق الأمر بثلاثة من رجال الأعمال قرروا التحالف في هذه العملية، وهم بيير بيرجي، الرئيس المؤسس لمجموعة «إيف سان لوران»، و غزافييه نيل، الرئيس المؤسس لمجموعة «فري»، ومايتو بيغاس، مسير بنك «لازار».. ثلاثة رجال أعمال مشهود لهم بالنجاح والخبرة، لكن بمسارات مختلفة يركبون سفينة «لوموند» لإنقادها من الغرق الذي يتهددها. الديون المترتبة على «لوموند» تقدر بأكثر من 100 مليون أورو، و قبيل 10 يوليوز الجاري، هناك دين مستحق يتعين تسديده يقدر ب 10 ملايين أورو. وقد تعهد الثلاثي، الذي وقع عليه الاختيار بدفع 10 ملايين أورو كسلفة، لتبدأ بعدها مفاوضات لمدة ثلاثة أشهر لإعادة الرسملة حدد لها تاريخ 30 شتنبر كأجل لتصل إلى نتيجة.. العرض الذي قدمه الثلاثي (بيرجي، نيل، بيغاس) ، حظي الجمعة الماضية بموافقة جمعيات العاملين ثم اجتاز عقبة مجلس الرقابة يوم الاثنين الماضي بالأغلبية البسيطة فقط (11 صوتا من أصل 20، والأصوات التسعة المساهمين الداخليين (شركات العاملين وشركة القراء) كانت محسومة مسبقا والباقي صوتان فقط لم يكونا موافقين. ويبدو أن كلود بيرديل مالك لونوفيل «أوبسرفاتور» الذي تحالف مع المجموعة الإعلامية الإسبانية بريزا (التي تملك %15,01 من رأسمال لوموند وشركة «اورانج» للإتصالات (تابعة لفرانس تليكوم) الذي تقدم بعرض منافس، تراجع في آخر لحظة، وأعلن في بداية اجتماع مجلس رقابة «لوموند» أنه يسحب عرضه، وأنه يعطي الصلاحية للتصويت لصالح منافسه، وكان صوت لويس شوايتزر حاسما. أما الأصوات التسعة الأخرى التي تمثل المساهمين الخارجيين فقد اختارت الإمتناع عن التصويت، وهي إشارة تعني أنها لا تعطي شيكا على بياض. المالكون الجدد أعلنوا في بيان عقب تصويت مجلس الرقابة، أنهم يعتبرون «لوموند» «ملكا مشتركا، وهذه القناعة هي محور مبادرتنا، ونلتزم بأن يتم هذا المشروع بكل استقلالية». ويتمثل عرض الثلاثي (بيرجي، بيل بيغاس) في ضخ 110 ملايين أورو بالتساوي بينهم في مجموعة «لوموند» والارتقاء إلى حصة % 64 من رأس المال. وأكدوا أنهم يعتبرون أنفسهم مساهمين، ولا ينوون تغيير قيادة «لوموند». وأكد الثلاثي أنه «أمام الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها مجموعة «لوموند» منذ عدة سنوات، لدينا القناعة بأن سياسة طموحة لتقوية العرض التحريري والاستثمار في النشاط الرقمي من شأنه أن يعزز مستقبل «لوموند»» . تعزيز العرض يتمثل على الخصوص في إغناء وتنويع العرض التحريري لعدد نهاية الأسبوع.. وبخصوص النشاط الرقمي فيتمثل في خلق انفتاح بين الجريدة الورقية والجريدة الإلكترونية اللتين تفتقدان حاليا للتناغم الضروري. أما بخصوص المطبعة التي تمثل ثقبا ماليا مهما، فإن الثلاثي الجديد ينوي «تعزيز مخطط إعادة الهيكلة للوصول الى كسب المزيد من الزبناء ...». ومن النقط الايجابية في عرض الشراء الذي تقدم به الثلاثي (بيرجي نيل وبيغاس)، والذي تم التركيز عليه طيلة الأسابيع الأخيرة هو ضمانات الاستقلالية. وتتمثل في «حقوق خاصة مصونة» حسب «جمعية المحررين» المساهم المرجعي. وقطب الاستقلالية الذي يضم العديد من المساهمين التاريخيين والذي يعتبر الضامن للقيم المؤسسة للجريدة. وهكذا سيتم الإبقاء على حق الفيتو الذي تتمتع به «جمعية المحررين» فيما يخص تعيين مدير الجريدة، إضافة إلى خلق مؤسسة برأسمال يفوق 15 مليون أورو، تعهد بيرجي من خلالها إعطاء قطب الاستقلالية وسائل الاحتفاظ بأقلية ضامنة (%34 من رأس المال) داخل شركة «لوموند». (الشركة المجهولة الجديدة) التي ستشرف على المجموعة. وفيما يخص العناوين الأخرى التي تصدرها «لوموند» يعتبر الثلاثي أنه يتعين ضخ المزيد من الأموال، وأنه عند بلوغ مستوى معين من النتائج، سيتم إعادة ضخ الربع من الأرباح في هذه الفروع بدل امتصاصها من طرف «لوموند»... ويبدو أن المساهمين الداخليين نجحوا في توحيد صفوفهم داخل قطب الاستقلالية، وتمكنوا من فرض قوتهم والتأثير على اختيار المشترين الجدد. وتنكب مختلف جمعيات الصحفيين حاليا، وبشكل جماعي، على إعداد ميثاق تحريري يكون صورة للعهد الجديد الذي دخلته الجريدة. وإذا كانت جريدة«لوموند» قد دخلت مرحلة جديدة من حياتها، فإن العديد من المتتبعين والمحللين يعتقدون أنها ليست المرة الأولى التي تعيد «لوموند» تشكيل رأسمالها، فهذه رابع مرة في حياتها تجد «لوموند» نفسها على حافة الإفلاس، والسبب حسب المتتبعين أن الجريدة لم تنجح في حل مشكل الحكامة. فطيلة 25 سنة الأولى من حياتها كان مؤسسها «هو بير بوف ميري» وخليفته «جاك فوفي» قائدين للصحيفة بشكل مطلق ولم يكونا منتخبين، ولم يكن الصحفيون يتدخلون في تسيير الجريدة. وبعد تأسيس «جمعية المحررين» سنة 1951 حصلت على نسبة تمكنها من التأثير في أي قرار، وهكذا تأسس داخل «لوموند» مستويان من التسيير: المالك وجمعية المحررين، وعمق المشكل داخل لوموند يكمن هنا: لم تكن هناك استراتيجية على المدى البعيد يتم إعدادها باتفاق بين الإدارة وجمعية المحررين. وكثيرا ما يثار الحديث عن استقلالية لوموند .. وهنا يجب التمييز بين استقلالية رأس المال واستقلالية التحرير. في عهد المؤسس «بوف ميري» لم يكن المشكل مطروحا فهو الذي كان يضمن استقلالية التحرير ويضطلع بمهام التسيير المالي. ومع الرسملة الجديدة، فإن المحررين لن يفقدوا استقلاليتهم، حيث تعهد المساهمون الجدد بخلق مؤسسة تضم المساهمين الداخليين يكون لها حق عرقلة أي قرار في شركة «لوموند» الجديدة. لكن استقلالية التحرير لا تتأتى من استقلالية رأس المال، وإلا لن تكون هناك جرائد مستقلة. وهذا يعني أنه لا في ألمانيا أو الولاياتالمتحدة أو اليابان أو بريطانيا ...لا وجود لجرائد مستقلة، لأن كل الصحف توجد بين أيدي شركات رأسمالية. وعندما كان «بوف ميري» يقول إنه «يتعين على «لوموند» أن تكون مستقلة عن الأحزاب السياسية وعن القوى المالية وعن الكنائس..»، فإنه كان يعني استقلالية التحرير. وهي مسألة جوهرية بالنسبة لهذه الجريدة، فهي رصيدها، وإذا ما سحبت منها، فإنها ستموت، لأن القراء سيبتعدون عنها ولو تم ضخ 150 مليون أورو. وقد رأينا كيف حاول ساركوزي التدخل في هذه القضية.. وهذا يؤكد أن مسألة الضغوط السياسية كانت دائما موحودة، ويكفي فقط مقاومتها كما فعل «إربك فوتورينو» مدير «لوموند» عندما كشف للعلن ما دار بينه وبين ساركوزي. ومعروف أن ميتران تدخل في شؤون«لوموند» ما بين 84 و85، ويبدو أن ساركوزي يفكر في استحقاق 2012، ويعتقد أن كسب موقع في وسائل الاعلام قادر على انتخاب رئيس والعكس صحيح. ويبدو أن الثلاثي بيرجي، نيل وبيغاس فهم أن الاستقلالية إحدى ركائز «لوموند». وعندما لايحترم هذه الركيزة، فإنه يضيع. لوموند في أرقام 288049 نسخة هو معدل مبيعات لوموند يوميا في فرنسا سنة 2009، أي بانخفاض %4,14 مقارنة بسنة 2008. يبلغ عدد المشتركين في الجريدة 130 ألف. تشغل المجموعة أزيد من 1000 أجير منهم 280 صحفيا في اليومية. سجلت المجموعة خسارة 25,2 مليون أورو سنة 2009. ديونها المستحقة تقدر ب 96 مليون أورو. تضم مجموعة«لوموند» الى جانب الجريدة اليومية قطبا رقميا (le monde.fr وle post.fr) الى جانب قطب مجلات (تيليراما، لا في، كوريي انترناسيونال و%50 من«لوموند دبلوماتيك». تأسست جريدة لوموند سنة 1944 من طرف هوبير بوف ميري، وشهدت تعاقب تسعة مدراء من ضمنهم جاك فوف ، اندري فونتين، جان ماري كولومباني والمدير الحالي إريك فوتورينو.