تشهد الصحافة الفرنسية منذ بضع سنوات تراجعا مقلقا في مجال التوزيع والنشر، ينذر بأزمة خانقة لها من التداعيات ما يجعل البعض يتساءل اليوم حول ما إذا كانت الصحافة المكتوبة باتت شيئا من الماضي، ووسيلة إعلام من العصر المنطوي في المجتمعات المتطورة. ويرى الكثيرون في ظاهرة تراجع الإقبال على معظم كبريات الصحف اليومية والأسبوعية إنذارا حقيقيا لمعظم مجالس إدارة الصحف المدعوة اليوم إلى إعادة ترتيب بيتها عبر فتح نوافذ إضافية تجلب ليس فقط الدخل المادي للجريدة، بل أيضا القراء الذين اكتشفوا أن تصفح جرائد العالم عبر الأنترنيت أفضل وأسهل من شرائها. يحذر معظم المختصين في الإعلام المكتوب من أن يؤدي التقهقر في مجال المبيعات إلى ارتماء بعض الصحف في أحضان الدوائر الاقتصادية النافذة كمتنفس مالي ضروري ولو على حساب كبح حريات الصحافيين وخدمة أغراض غير ذات صلة بالرسالة الإعلامية التنويرية. فإذا ما استمر التراجع في عمليات النشر فإن الصحافة الفرنسية، وخاصة منها الصحافة المرجعية، قد تقع تدريجيا تحت سيطرة عدد من الأباطرة وكبار رجال الصناعة وتجار الأسلحة مثل بويغ وداسو ولاغاردير وبينو وأرنو وبولوري وبرتلسمان وغيرهم ممن يقيمون في ما بينهم، ولو ظاهريا أشكالا مختلفة من التحالفات بما يشكل خطرا على التعددية الإعلامية والمصداقية اللازمتين لمواجهة غزو الأنترنيت والوسائل التنافسية الأخرى. وخشية الإعلاميين من أن تزيغ الصحافة المكتوبة عن رسالتها التثقيفية وتغوص في الكتابة التسويقية جاءت على لسان الإعلامي الجامعي إنياسيو راموني بقوله في تحليل له نشرته مؤخرا صحيفة «لوموند» الفرنسية بأن العديد من الصحف قررت اللجوء إلى خيار آخر، ربما لم يكن في الحسبان قبل عشرين سنة ماضية، لكنه صار اليوم ممكنا، بل وعمليا. فالإجراء الذي اتخذته صحيفة «ليبيراسيون» الفرنسية، بتفضيلها منح إدارة رأسمالها إلى رجل الأعمال إدوارد دي روتشيلد، كان بمثابة الحل الأولي الذي رأت فيه الصحيفة تنفيسا ماليا على الأقل. ومنذ فترة ليست ببعيدة، توجهت مجموعة سوكبرس التي تصدر حوالي سبعين صحيفة منها «لو فيغارو» و«الاكسبريس»، وعشرات الصحف المحلية إلى أحد تجار الأسلحة، سيرج داسو، فيما أصبح أرنو لاغاردير، وهو أيضا تاجر أسلحة، يملك مؤسسة «هاشيت» الثقافية والإعلامية التي تضم أكثر من 47 مجلة. الصحف في تراجع ويستفاد من حصيلة نشرتها مؤخرا شركة توزيع الصحافة الفرنسية، أن معظم كبريات الصحف اليومية تشهد تراجعا ملموسا، يضاف إلى ما طرأ من تراجع في عام 2003، ومنها صحف «لو فيغارو» (4.4 في المائة) و«ليبيراسيون» (6.2 في المائة( و«لي زيكو» (6.4 في المائة( و«لوموند» (7.5 في المائة) و«لا تريبون» (2.3 في المائة). ويبدو من خلال لإحصاءات الدولية أن الظاهرة لا تقتصر على فرنسا، حيث يومية «انترناشيونال هيرالد تريبون» الأمريكية قد واجهت انخفاضا في مبيعاتها عام 2004 بنسبة 4.16 في المائة، وفي بريطانيا تراجعت مبيعات «ذي فاينانشيال تايمز» بنسبة 6.6 في المائة، وفي ألمانيا تراجع النشر خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسبة 7.7 في المائة، وفي الدانمارك بنسبة 9.5 في المائة وفي النمسا بنسبة 9.9 في المائة، وفي بلجيكا 6.9 في المائة، وحتى في اليابان حيث السكان هم من أكثر القراء في العالم، جاء التراجع بنسبة 2.2 في المائة. وفي الاتحاد الأوروبي انخفضت خلال السنوات الأخيرة مبيعات عدد من الصحف بمعدل مليون نسخة يوميا. نداء للقراء وإذا كانت بعض الصحف تحاول الاستنجاد، كما ذكرنا، ببعض الأباطرة للتنفيس ماليا عن أزمتها، فغدت بفعل ذلك أكثر فأكثر ملكا لمجموعات صناعية تسيطر على القوة الاقتصادية ومتواطئة مع السلطة السياسية، فإن هناك من الصحف من ترفض الاحتماء «بالمال الحرام»، حتى وإن أدى بها الأمر إلى الإفلاس أو الاستغاثة بجمهور القراء، كما هو شأن صحيفة «لومانيتي» (الإنسانية) ذات الميولات الشيوعية، التي جمعت مؤخرا مليون يورو من خلال نداء للقراء أطلقته على شكل تبرعات أو قروض ريثما تتمكن من بيع مقرها الواقع بسان دوني بالضاحية الباريسية، الذي استقرت قيمته حسب الوكالة العقارية المكلفة بعملية البيع في قيمة 15 مليون يورو. وتحتاج اليومية، التي تنشر ما يقل عن 51 ألف نسخة بطاقم يتكوم من 240 من المأجورين، إلى مليوني يورو بعد أن سجلت خسارة بمبلغ مليونين ونصف المليون يورو سنة 2007. هجمة الصحف المجانية ويحيلنا الوضع المتأزم للصحافة الفرنسية على الأسباب الذاتية والموضوعية الكامنة وراء هذا التراجع الذي لا يستثني سوى قلة قليلة من الصحف والمجلات المحسوبة على رجال الصناعة والمال والأعمال. ومن أهم تلك الأسباب الهجمة المدمرة للصحف المجانية. ففي فرنسا باتت مجلة «فان مينوت» تحتل المرتبة الأولى من حيث عدد القراء، لتصل إلى ما يزيد على مليوني قارئ يومياً، متقدمة بكثير على صحيفة «لوباريزيان» (1.7 مليون قارئ)، وصحيفة مجانية أخرى هي «مترو» التي يقرؤها يوميا 1.6 مليون شخص. ولا بأس هنا من شيء من التاريخ لنفهم أكثر كيف انتصبت هذه الصحف في قمة المشهد الإعلامي الفرنسي، واجتذب نسبة كبيرة من المعلنين الذين لا يميزون بين القارئ الذي يشتري الصحيفة عن ذاك الذي لا يدفع ثمنها. ففي 18 فبراير 2002، تأبط الفرنسيون أول جريدة مجانية (ميترو) يتصفحونها، دون مقابل.. مواضيع خفيفة وأخبار وطرائف مرفقة بإعلانات بسيطة لكنها أكثرا قربا من اهتماماتهم. إعلان عن أثاث منزل، أسفار مغرية إلى المغرب، وصفات غذائية جاهزة، وبين هذا وذاك إعلانات تجارية لا تخلو طبعا من استغلال جسد المرأة حتى لو كانت السلعة عن ماركة سيارات. إلى الاحتراف ويكذبهم اليوم ما يشهده الفضاء الإعلامي الفرنسي من انقلاب حقيقي مع تنامي توزيع الصحافة المجانية، وسعي صحف يومية كبيرة مثل لوفيغارو ولوموند إلى إصدار مثل هذا النوع من الصحف، تربط القارئ بالصحيفة الأم، وتثير رغبته في متابعة ما بدأ قراءته في الصحيفة المجانية. وبينما كانت في بداية نشأتها تقتصر على أخبار قصيرة أغلبها من النوع الطريف، مرفقة بنشرات إعلانية وخدمات تسويقية متنوعة، انتصبت اليوم كصحف عامة، بإدارة تحرير وصفحات في مختلف الأجناس المهنية، وتبويبات سياسية واقتصادية ومقالات تحليلية على قدر كبير من الاحترافية. وأفاد آخر استطلاع للرأي قام به معهد «إيفوب» بأن الصحيفتين المجانيتين «فان مينوت» (20 دقيقة) و»مترو» تحتلان المراتب الأولى في سلم الصحف والمجلات الأكثر قراءة. وحلت «فان مينوت» ثالثة بواقع 1.88 مليون قارئ، و»مترو» رابعة ب1.33 مليون، بعد كل من اليومية الرياضية ليكيب ب2.4 مليون قارئ، ثم لوموند ب1.98 مليون. ومن أجل مقاومة أشكال المنافسة القاتلة للصحف التقليدية، عمدت بعض الصحف الكبرى، إلى إرفاق طبعتها بهدية قيمة يوميا مثل الأقراص المدمجة (دي.في.دي) أو (سي.دي) أو كتاب أو موسوعة وغيرها من الإغراءات المحفزة. سبب ثاني لا يقل ضراوة عن الصحف المجانية، التطور الكبير الذي تشهده الصحافة الجهوية المستنبتة من صميم بيئة القارئ والقريبة إلى حد كبير من اهتماماته، حيث الأخبار الدولية والأحداث السياسية المختلفة لا تأخذ سوى قسط قليل من اهتماماتها على اعتبار أنها متوفرة إلى حد التخمة في القنوات التلفزية والفضائيات المختلفة. ومبيعات الصحف الجهوية في تزايد مستمر في كل مناطق فرنسا، حيث صحيفة «فرانس أويست» على سبيل المثال تبيع ضعف ما تبيعه جريدة مرجعية مثل جريدة «لوموند». سبب ثالث شكل هو الآخر ضربة موجعة للصحف التقليدية، ويتمثل في الانتشار الهائل للأنترنيت، حيث تؤكد الأرقام أنه خلال النصف الأول من عام 2004 فقط، افتتح ما يزيد على 4.7 ملايين موقع «ويب» جديد. ويبلغ عدد هذه المواقع حالياً 70 مليونا في العالم، كما أن هناك ما يزيد على 700 مليون شخص يستخدمها. وبدا التخلي عن قراءة الصحف وحتى عن مشاهدة التلفزيون لصالح جهاز الكمبيوتر، أمرا مألوفا في فرنسا بعد ظهور خط «أ.د.إيس.إيل» الذي غير المعطيات بكل المقاييس، حيث هناك في فرنسا ما يزيد على 5.5 ملايين منزل مشترك مع إمكانية الحصول بمعدلات كبيرة على الصحافة الموصولة على الأنترنيت (79 في المائة من الصحف في العالم باتت تملك مواقع نشر على الشبكة). هوس المعرفة ويجدر بنا، وقد أوردنا بعض الأسباب المؤثرة على نشر وتوزيع الصحافة، الإقرار بأن ظهور الصحافة المجانية والانتشار الهائل للأنترنيت كان لهما حقا تأثير قوي على فضاء القراءة التقليدية للصحافة المرجعية بفرنسا. غير أن هذا التأثير لم يكن بالمستوى الكارثي كما قد يتبادر إلى أذهاننا لأول وهلة، ذلك أن مجتمعا مسكونا بهوس المعرفة والاطلاع، لا يمكن أن يتخلى بجرة موضة معرفية جديدة عن عادة ابتلي بها منذ قرون، عادة تقليب الصفحات وسبر أغوارها، عادة الانتشاء بالخط التحريري لجريدته والتحاور بين سطورها وأعمدتها وتبويباتها المختلفة، مع من ألف أن يعقد معهم موعده الصباحي من صحفيين ومحررين ومشرفين على الجريدة الذين يحرصون كل يوم على ملامسة الواقع وتفكيك رموزه بما يتمشى مع تطلعاتهم. ومن هنا نفهم أن ستة ملايين من القراء الجدد للصحافة المجانية، والانتشار المهول للأنترنيت لم يكن له تأثير مهول على عدد القراء التقليديين البالغ عددهم 19 مليون قارئ، أي ما يقارب ثلث السكان ممن ابتلوا بالنهل من قنوات المعرفة والتثقيف التي تشكل الصحافة المكتوبة إحدى دعاماتها الأساسية. هذه الصحافة التي قال عنها فيديل كاسترو: «لا أخاف بوابة جهنم إذا فتحت بوجهي، ولكني أرتعش من قلم محرر صحيفة». انتعاش الصحافة مع ساركوزي ويمكن الإشارة من جهة أخرى إلى أن الصحافة المكتوبة انتعشت نسبيا مع تولي ساركوزي السلطة وحبه الظهور في غير ما مناسبة، فهي لا تمانع في التعرض لكل صغيرة وكبيرة في حياته، بل وتعطي الأولوية للأخبار المتعلقة بحياته الخاصة على حساب أحداث سياسية واجتماعية قد تكون أكثر أهمية بالنسبة إلى الفرنسيين، وفي ذلك استفادة كبيرة لها. وخير مثال على ذلك، أنه في أول سنة من وصوله إلى الإليزيه ارتفع معدل سحب الصحف والمجلات بزيادة تقدر ب110 ملايين نسخة إضافية مقارنة بالسنة التي سبقتها. عشرات المجلات تناولت في غلافها سنة 2007 موضوعاً متعلقاً مباشرة بساركوزي، وكثير منها حقّق بفضل ذلك أرباحاً خيالية. فمجلة «لكسبرس» حققت أعلى مبيعاتها منذ تأسيسها سنة 1953 على الإطلاق بفضل الحوار الذي أجرته مع زوجة الرئيس عارضة الأزياء السابقة كارلا بروني في عددها الذي صدر في 13 فبراير 2007 والذي وزع بأكثر من 600.000 نسخة. «ماريان» المجلة القريبة من اليسار باعت أكثر من 500.000 نسخة وسجلت إيراداتها ارتفاعاً وصل إلى %38.6 حين خصصت موضوع غلافها «للوجه الحقيقي لساركوزي، ما تخفيه أو ما لا تريد وسائل الإعلام الكشف عنه». ارتفاع الإيرادات بنسبة %8.1 هو ما سجلته مجلة لونوفيل أوبسرفتور» سنة 2007 بعد أن خصصت غلافها مرتين للزوجة السابقة للرئيس. والمعروف أن ساركوزي يقيم شبكة علاقاته صداقات قوية وكثيرة مع كبار مديري وملاك وسائل الإعلام الفرنسية من بينهم صديقه أرنو لغردر، رجل الأعمال المعروف بتربعه على مملكة حقيقية من وسائل الإعلام المختلفة: (باري ماتش، أوربا 1، لومند، جورنال دو ديمانش، هاشيت..)، وفنسان بولوغي الذي يملك أهم عناوين الصحافة المجانية في فرنسا، وأيضا سارج داسو، صاحب شركة صناعة الطائرات الذي يملك أيضا صحيفة لوفيغارو العريقة، وبرنار أرنو مالك جريدة «لتربون» الاقتصادية، بالإضافة إلى صداقات أخرى قوية تربطه بمسؤولي قنوات ورؤساء تحرير يعملون في القطاع الحكومي.