محمد عبد الرحمان برادة المدير العام لشركة سبريس ل التجديد": إنشاء مجلس أعلى للصحافة المكتوبة سيقطع الطريق على ما هو رديء تضطلع عملية التوزيع بدور مهم في تنشيط المجال الصحافي ببلادنا، وتعد مرحلة من الأهمية بمكان بالنسبة للصحف التي تتوخى توسيع قاعدة قرائها ودائرة انتشارها في الوطن كاملا. نسعى في هذا الحوار مع مدير شركة سابريس المختصة في التوزيع السيد محمد عبد الرحمان برادة إلى تسليط الضوء على كيفية عمل شركة التوزيع عامة، وإلى إظهار المشاكل التي يعاني منها المشهد الصحافي عموما، والحلول الأنسب التي تمكن من خلق صحافة وطنية قادرة على المنافسة. من المؤكد أن عملية التوزيع تعتبر مرحلة من مراحل العمل الصحافي عامة.. وفي بداية هذا الحوار، نود أن تعطونا فكرة عامة عن آلية التوزيع، وكيفية عملها الداخلي.. أولا لا يسعني إلا أن أشكر جريدة التجديد لكونها جاءت لتعزز الفضاء الإعلامي المغربي المكتوب، الذي هو في حاجة دائما للمنابر النظيفة والنوعية. ونحن في مؤسستنا نعتز بتوزيع التجديد، ونعتز بالعلاقات الطيبة التي تربطنا بالمسؤولين عنها، ونأمل أن تنجح هذه الجريدة في تحقيق أهدافها ومراميها، والتي يمكن القول إنها أهدافنا جميعا كفاعلين في المشهد الإعلامي عامة. أما عن ماهية التوزيع وكيفية عمله، فأستطيع أن أؤكد لك أن عملية التوزيع هي في حد ذاتها حلقة مهمة في العمل الصحافي، ولا يمكن لأي صحيفة مهما كانت قوتها أن تبلغ أهدافها، وتحقق النجاح الذي تهدف إليه، دون وجود موزع واع بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، يعلم أن المنتوج الذي يوزعه هو أولا رسالة يجب أن تصل للناس، قبل أن تكون بضاعة يمكن أن تخضع لقانون العرض والطلب. وأؤكد في هذا السياق أن إنشاء مؤسستنا عام 1977 كثمرة تظافر جهود بعض من ناشري صحف وطنية، جاء لتقوية هذه الحلقة في العمل الصحافي، وتكسير الاحتكار الذي كان يميز هذا المجال. وحتى تستطيع هذه المؤسسة تحقيق أهدافها، تعتمد في عملها بشكل مميز على الأدوات والتقنيات العصرية، التي تستعمل في هذا الميدان، حتى تستطيع تحقيق قدرة تنافسية على الساحة. وفي هذا الإطار نعتمد مثلا على الحاسوب في تحديد الكميات، وتحليل النتائج والإحصائيات، وفي مد الناشر بمختلف المعلومات التي تسمح له بمتابعة التطورات، حتى يكون بإمكانه اختيار الحلول الناجعة لتحقيق انتشار أكبر لمنتوجه. وبصفة عامة، يمكن القول إن عملية التوزيع هي عملية معقدة، لا يمكن اختزالها في حسابات وأرقام فقط، بل تتجاوز ذلك لأن تكون مسؤولية صحافية بالدرجة الأولى، تراعي مصلحة الجريدة، وتعبد الطريق أمام الرسالة التي تتضمنها كي تصل إلى القارئ في أحسن الظروف. اعتمادا على هذه العلاقة بين التوزيع وبين العمل الصحافي، أنتم كناشطين في هذا الحقل، كيف تقيمون حال الصحافة المغربية في الوقت الراهن، خاصة وأن الأرقام التي تصدر في هذا الاتجاه لا تبشر بخير؟ سأعتمد في الرد على هذا السؤال على الأرقام التي جاء بها تقرير التنمية البشرية، الذي صدر عن هيئة الأممالمتحدة قبل مدة في نسخته الثانية. هذا التقرير أكد أن نسبة مقروئية الجرائد اليومية تصل في البلدان التي توصف بالمتطورة إلى 250 صحيفة لكل ألف مواطن، في حين لا تتجاوز هذه النسبة 54 صحيفة لكل ألف مواطن في العالم العربي. أما بالنسبة للمغرب، فالحالة سيئة نوعا ما، إذ لا تتجاوز هذه النسبة 13 جريدة لكل ألف شخص! أي أننا نحن هنا في المغرب لسنا فقط بعيدين عن العالم المتطور، ولكن نحن متجاوَزون حتى من طرف أشقائنا العرب. لكن وحتى إن كانت هذه النسبة في حقيقة الأمر نسبة مخجلة، وتحمل الكثير من المعاني، فيجب أن نأخذها باحتياط كبير، ونحسن التعامل معها حتى لا نسقط في فخ الإحباط واليأس. وأنا أسرد هذه الأرقام ليس من باب التشفي، ولكن أريد أن أسلط الضوء على حقيقة مرة، يجب أن نتعامل معها، ونحدد آلية واضحة تشخص الأسباب التي تقف وراءها، والسبل الكفيلة بأن تمكننا يوما ما من تجاوزها. وهنا يجب على كل المهتمين والمتابعين للشأن الصحافي في بلادنا، من صحافيين، ومسؤولين وأحزاب ومنظمات وهيئات وجمعيات مجتمع مدني، أن ينخرطوا بقوة وفعالية في هذه الحملة، وأكيد أن النقاش سيخرج بنتائج واستراتيجيات عمل تدفع بنا إلى الأمام. لكن الصورة ليست بهاته القتامة، ولا بد من أن نعترف أن الصحافة الوطنية قد خطت خطوات مهمة خلال السنوات الماضية، وقد بدأنا نحن في مؤسستنا العمل مع 6 صحف يومية فقط، أما الآن فالعدد يتجاوز أربعا وعشرين صحيفة، وهذا في حد ذاته تطور ملموس من الواجب التنويه به. والتطور أيضا طال نسبة بيع الصحف، حيث نبيع الآن أكثر من 200 ألف نسخة في الوقت الذي كانت لا تتجاوز فيه هذه النسبة 50 ألفا فقط، وطبعا أنا أتحدث عن نسبة المبيعات التي تشرف عليها مؤسستنا فقط.. وإضافة إلى كل هذا فقد ظهرت منابر جديدة (ومنها التجديد)، تشمل اليومي والأسبوعي، وهي تنتمي إلى اتجاهات فكرية وسياسية متنوعة، وهذا في حد ذاته أيضا نقطة قوة نفتخر بها. وأنا أعتقد أن جو الانفتاح السياسي الذي أصبحنا نراه بوضوح في الوقت الراهن ساهم بقوة في تنشيط المجال الصحافي ببلادنا، وبإمكان الجميع أن يرصد التطور الذي أصبحت تتمتع به صحافتنا الوطنية، وبصفتي صحافيا وموزعا، أؤكد هذه الحقيقة، على الرغم من أن وتيرة هذا التطور بطيئة ومخجلة، لكن بإمكاننا تتتبع ملامحها العامة. إذن توضح الأرقام أن الصحافة الوطنية عموما تعاني من مشاكل خانقة.. لكن في المقابل كثير من الصحف تلقي باللائمة على عملية التوزيع في جانب من المشاكل التي تعاني منها.. كيف تعلقون على هذا الأمر؟ حتى تتضح الصورة أكثر بخصوص هذا السؤال، أفضل أن أعطي مثالا بالتلميذ الذي إذا حصل على علامات جيدة، فالكل يصفق له، والكل يعدد مناقبه وينوه بمثابرته حتى حصوله على ذلك المعدل الجيد، أو تلك الرتبة المهمة. أما إذا حصل التلميذ نفسه على علامات ضعيفة، فالجميع يصب جام غضبه على النظام التعليمي، وعلى أسس التربية في البلاد. وطبعا هذه وضعية متجاوزة، ومخالفة للمنطق وللعقل. وأنا أؤكد احتراما لمنطق الأشياء أن التوزيع هو فقط حلقة من حلقات العمل الصحافي.. والجريدة هي مضمونها وأسلوبها وطريقة عملها، وشكلها وحجمها وسعرها ثم توزيعها.. فالتوزيع هو فقط مرحلة من كل هذه المراحل، ولا يمكن لمرحلة من المراحل أن تؤثر على الباقي بالشكل الذي يتحدث عنه البعض. إضافة إلى هذا، فعملية التوزيع في آخر المطاف لا تعدو أن تكون عملية تقنية لا أقل ولا أكثر.. والمشكل الحقيقي يكمن في الطريقة التي يجب إقناع المواطن بها كي يشتري هذه الجريدة أو تلك، ولا أعتقد أن هناك من يقول إن هذه مهمة الموزع. وإلى جانب هذا، فنحن نعترف بأن الكمال لله، ولهذا نحن نسعى بشكل دائم لتطوير أدائنا، وقد بدأنا بتوزيع الجرائد في سبعمائة نقطة بيع، أما الآن فنقاط بيعنا تتجاوز 7000 نقطة، ونحن الآن نصل إلى مناطق وقرى نائية، رغم ضعف نسبة البيع. هذا إلى جانب كون كثير من الجرائد لا نستطيع توزيعها على جميع نقاط البيع بسبب أرقام سحبها المنخفضة.. أعتقد أن الحوار بين الأطراف الفاعلة في المشهد الصحافي أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى، حتى نتمكن من خلال المشاورات الجادة والهادفة أن نتجاوز مثل هذه المشاكل التي تعيق تطور صحافتنا، وتحد من قدرتها التنافسية في ظل وضع يشهد تنافسا رهيبا بين المنتوج الأجنبي الذي يتمتع بإمكانيات ضخمة تجعل من الصعب مجاراته، وبين منتوجنا الوطني الذي يعاني من عدة مشاكل.. وفي نظركم ما هي الحلول الكفيلة بوضع حد لهذه المشاكل: هل فقط الاتجاه نحو الصحافة المقاولة وخلق جهاز للتحقق من الانتشار كما تطرحون، أم هناك حلول أخرى؟ لا، أنا لا أدعو فقط لإنشاء جهاز للتحقق من الانتشار، بل أتمنى أن نرى يوما ما مجلسا أعلى للصحافة الوطنية المكتوبة، على غرار المجلس الأعلى للسمعي البصري.. وتكون لهذه المؤسسة عدة آليات للعمل، ومن ضمن هذه الآليات نجد جهازا للتحقق من الانتشار كما هو موجود في كثير من الدول.. والأمر مهم جدا من أجل تنظيم العمل الصحافي، ومن أجل تمتيع الصحافة بالشروط اللازمة لنجاحها. فمثلا حين تقدم طلبات لأجل إصدار صحف جديدة وهذا حق مضمون بنص القانون فمن الواجب وجود هيئة تشرف على القطاع تضمن توفر الشروط الأدبية والمادية والأخلاقية في من يريد إصدار منبر صحافي جديد. ونحن في المغرب حاليا نرى عددا لا يحصى من العناوين التي تغرق سوق الصحافة، ولكن كثيرا من الأسئلة تطرح حول مدى جديتها، ومدى مصداقيتها ومهنيتها... كما تطرح أسئلة أخرى عديدة حول درجة تأثيرها على الصحف الوطنية الهادفة التي تعكس وجها مضيئا ومشرفا للمشهد الصحافي الوطني. ولهذا فوجود أجهزة من جنس جهاز التحقق من الانتشار تضمن قوة إعلامنا وتساعد على تطويره وتنميته. ووجود هذه الأجهزة، وعلى رأسها هيأة عليا للصحافة المكتوبة، من شأنها حماية الصحافة الوطنية من المتطفلين، ومساعدة الصحف الجادة على تطوير مبيعاتها، وترسيخ قدمها في السوق الوطنية. وبخصوص مسألة الصحافة المقاولة؟ الصحافة المغربية كانت إلى وقت قريب صحافة حزبية بامتياز، تعبر عن اتجاهات سياسية معينة. وقد هيمن هذا النوع من الصحافة لفترة طويلة على المشهد الصحافي الوطني، بغض النظر عن بعض الاستثناءات التي كانت تظهر من حين لآخر. وإذا كان لهذا النوع من الصحافة ما يبرر وجوده في الماضي، فأعتقد أنه قد تغيرت المعطيات في الوقت الحاضر، وأصبحت الأمور أكثر ارتباطا بسوق المقروئية. وطبعا هذه السوق تحتاج إلى تعامل خاص، وتحتاج إلى دراسة موضوعية واعتماد على الأرقام والإحصائيات وتقنيات MARKETING... وإذا أضفنا إلى هذه المعطيات قضية المنافسة الشديدة التي تميز المشهد الصحافي الوطني عموما، فهذا يبرز أهمية الانتقال إلى الصحافة المقاولة، ويلزم المسؤولين عن الصحف بالبحث عن السبل الكفيلة بتسهيل هذا الانتقال، وتوفير شروطه. فقد أصبحت الصحيفة الآن ذات بنية عصرية، على مستوى الهيكل التنظيمي، كما أصبحت متقدمة في آليات عملها، وأصبح التخصص يحكم أداءها. وفي هذا السياق، تبحث المؤسسة الصحافية عن تحقيق موازنات مالية، وتهدف إلى البحث عن موارد، وتجد نفسها ملزمة بإنجاز دراسات جدوى، ودراسات تستقصي آراء سوق القراء... أي أنها انتقلت دون أن تدري إلى مقاولة صحافية. إنني أؤكد أن المقاولة الصحافية هي مستقبل الصحافة في بلادنا، ومن اللازم على كل المسؤولين عن هذا الميدان في المغرب التفكير مليا في الانتقال إلى هذا المشروع الطموح، حتى نساهم بقوة في تطوير مشهدنا الصحافي الوطني. وجود شركتين للتوزيع في المغرب: كيف يمكنهما معا المساهمة في تحقيق انتشار جيد للصحافة الوطنية؟ إن إنشاء سبريس قبل 27 سنة جاء كما تعلمون لتكسير الاحتكار وجاء بالمنافسة، التي هي وحدها الكفيلة بتشجيع الفاعلين وحث كل واحد على تحقيق أحسن النتائج. إن السياسة الاقتصادية ببلادنا تشجع المنافسة المشروعة وسوقنا مفتوحة للمزيد من الشركات طالما تبقى الكفاءة والجدية والإخلاص أبرز معايير التفوق. على ذكر المنافسة، سمح بطبع وتوزيع الصحف الأجنبية بالمغرب منذ ,1984 وأثار هذا وقتها زوبعة من الاحتجاجات، بسبب آثاره السلبية على الصحافة الوطنية. والآن يتحدث الكثيرون عن التأثير السيء لوجود الصحف الأجنبية بقوة في المغرب.. ما تعليقكم؟ من المهم الإشارة إلى أن المغرب هو من الأسواق المهمة للصحف الأجنبية على المستوى العربي.. ونحن نطالب بالانفتاح، ونحث عليه، وندعو إلى ترسيخ قيم الحرية، ولكن يجب أن نفهم أننا حين ندعو للانفتاح، لا ندعو إلى إغراق السوق الوطنية بالمنتوج الأجنبي... وقديما قال غاندي: أنا مع فتح الأبواب والنوافذ، ولكن يجب أن أتغطى حتى لا تصيبني نزلة برد.. وأنا بدوري أدعو إلى الانفتاح ولكن أدعو كذلك إلى تشجيع المنتوج الوطني، وتمكينه من جميع الآليات التي تساعده على أداء مهمته في أحسن الظروف... وهذا ما يجري في العالم أجمع. ففي مصر مثلا تباع الصحف المصرية أولا، ونسبة بيع الصحف الأجنبية تبقى محدودة ولا تشكل أي منافسة للصحافة المحلية، الوضع نفسه في فرنسا وفي كل بلاد العالم... أما نحن، فنسبة بيع الصحف الأجنبية عندنا مرتفعة جدا، وقد تفوق في بعض الأحيان معدل بيع الصحف المحلية... وهي دون شك وضعية صعبة يجب تجاوزها، وإيجاد الحلول الناجعة لها. تحدثتم عن قضية الدعم الذي يجب أن يخصص للصحافة الوطنية، فهل تتمتع هذه الصحافة حقا بالدعم اللازم، خاصة في ظل ما يقال عن تقاسم نسبة الدعم تلك مع بعض الصحف الأجنبية؟ فعلا تقدم الدولة دعما هاما يشمل كل الصحف، مثل إعفاء ورق الطباعة من الرسوم والضرائب الجمركية، وهنالك أنواع أخرى من الدعم تشمل المساهمة في تكاليف الشحن والنقل وغير ذلك.. لكن تجدر الإشارة إلى أن الدعم مهما بلغت قيمته، فهو لن يتجاوز نسبة معينة من قيمة التكاليف الباهضة التي يتحملها الناشر. وهنا أغتنم الفرصة لأؤكد أن فدرالية الناشرين المغاربة هي في اتصال مع الدوائر المعنية، بحيث يدور النقاش حاليا حول مشروع العقدة البرنامج )Contrat programme) الذي نعتقد أن من شأنه المساعدة في تجاوز الأساليب المتبعة في تقديم الدعم، وليصبح التشجيع موجها لمن يستحقه، وليس بكيفية لا تخدم مصلحة الصحافة. الصحافة الوطنية وقضية أخلاق المهنة أو ميثاق الشرف.. ماذا يعني لكم هذا؟ سبقت الإشارة إلى ضرورة إيجاد هيئة موازية للقوانين الموجودة، يكون من مهامها الإشراف على تطوير الصحافة، وذلك بإحداث مجموعة من الآليات، من بينها التأكد من الانتشار والأخلاقيات وميثاق الشرف، وكلها تصب في الاتجاه نفسه: أي تشجيع ما هو مناسب، وقطع الطريق على ما هو رديء. إن وجود مثل هذا الجهاز الذي يمكن أن يعمل بتكاثف مع جميع العاملين في القطاع الإعلامي المكتوب سوف يساعد على الخروج بصحافتنا إلى مستويات أفضل وأرقى. وماذا عن المستقبل... مما لاشك فيه أن البقاء للأصلح، وأن الجد والمثابرة هما السبيل الأوحد لكي تنجح أي صحيفة.. كما أن التعاون بين مختلف الناشطين في المشهد الصحافي من شأنه تحقيق الأفضل بالنسبة للصحافة الوطنية.. ومن هنا أنا متفائل بمستقبل الصحافة في بلادنا، وأنظر بعين الرضى إلى ما تحقق لحد الآن وبالطبع أتطلع إلى المزيد. حاوره: أحمد حموش