ينتمي كمال عبد اللطيف، الى الجيل الثاني من المفكرين المغاربة، جيل الفلاسفة الجدد، بعد جيل الرواد، محمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري واحمد السطاتي.. الجيل الشاب الذي تألقت به شعبة الفلسفة بكلية الاداب والعلوم الانسانية بالرباط منذ طلائع السبعينات من القرن الفارط، وضخ نسوغ الحداثة والتنوير، في الفكر المغربي المعاصر. يتميز كمال ضمن رفاق جيله بغزارة الانتاج الفكري وتنوعه، حيث تربو مؤلفاته على ا لعشرين، ومايزال الجراب مترعا بالوعود كما يتميز بالحضور الدائب في المنابر الثقافية والمنتديات العربية. صائلا جائلا في حلباتها، لا يشق له غبار ولا يعروه ملل او كلل. لكن، أهم ما يتميز به كمال عبد اللطيف في نظري، وعطفا على ماسبق، هو هذا الانشغال الدائب الاصيل والجميل، بهموم الفكر العربي وهموم الامة العربية. انه من هذا المنظور كاتب وباحث عضوي بامتياز، وبالمعنى الغرامشي العميق للكلمة، ينغرس فكره ووجدانه عميقا في أتون القضايا والاسئلة العربية الساخنة الملتبسة، باستمرار عن فهم عميق لما يجري، باحثا باستمرار عن بارقة امل ورجاء في دياميس اليأس العربي والخراب العربي، شاعلا بذلك شمعة بدلا أن يلعن الظلام. ولست في موقع تخصصي يسمح لي بالحديث عن المشروع الفكري، الرحيب والخصيب لكمال عبد اللطيف، فانا معني اساسا بالدرس الادبي - النقدي، لا بالدرس الفلسفي الفكري. لكن النقد كما هو معلوم قاسم مشترك، او ميكانيزم مشترك، بين النقد الادبي والفلسفة. والنقد بالضبط، هو عصب فكر كمال وعصب مؤلفاته، نقد الفكر ونقد الواقع، نقد السلطة ونقد المعارضة.. يضاف الى ذلك، ان اعمال كمال قريبة من الادب، ان لم اقل انها واقعة فيه، لغة واسلوبا وحساسية. كما ان في عمق كمال، المفكر والباحث، يكمن الكاتب الاديب الذي يعشق الكلمة قبل ان يعقلنها. لذلك، اقرأ شخصيا ما يكتب واتابعه بانتظام، واجد فيه دسامة الفكر ومتعة الكتابة والنص. اعتبارا لما سبق، سيكون حديثي المتواضع والمقتضب عن كمال، بمثابة كلمة - شهادة، اقترب فيها من الرجل، واعبر من خلالها عن عميق تقديري لفكره وادبه، وألملم فيها بضع ملاحظات على مشروعه الفكري - النقدي، انطلاقا من من احد كتبه الاخيرة والدالة / في مواجهة اليأس العربي). ونرجع الى بدايات مشروع كمال عبد اللطيف الفكري، نرجع الى نقطة الانطلاق. نرجع الى اطروحته الجامعية المبكرة والمعروفة / سلامة موسى، واشكالية النهضة) الصادرة سنة 1982 اختيار سلامة موسى، موضوعا للبحث، لم يكن قط، اعتباطا ومصادفة. ان اختيار المرء، جزء من قناعته ومشربه وسيكولوجيته. وسلامة موسى كان رمزا للنهضة العربية الجديدة، في اشكاليتها المنقحة المزيدة.كان رمزا للمفكر التنويري - العقلاني المدافع عن قيم الحداثة والحرية والديمقراطية والمساواة... وهي القيم التي ستتوطن مشروع كمال عبد اللطيف الفكري في إقامة دائمة، وسينذر لها كل حرف يخطه وكل جهد يدخره. ستغدو شغله الشاغل. من سلامة موسى إذن، تبدأ رحلة كمال الفكرية، ورحلة الالف ميل تبدأ بخطوة. وأول الغيث قطر، ثم ينهمر، وكذلك كان، فقد انهمرت تباعا بعدئذ، اعمال ومؤلفات كمال، وبوتيرة منتظمة ومخلصة، لاتخلف وعدا ولا تنكث عهدا. وأغلب هذه الاعمال والمؤلفات، كان مسكونا بالهاجس العربي - القومي حتى النخاع. كان كمال يعزف في مؤلفاته باستمرار، على الشجن العربي، فكرا وواقعا، عزفا نقديا تاريخيا وجريئا. ويكفي التصفح الاولي لعناوين بعض كتبه كدليل على ذلك. وهذه جردة بهذه العناوين: - مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر. - العرب والحداثة السياسية. - التفكير في العلمانية، نحو إعادة بناء المجال السياسي في الفكر العربي.+- في الفلسفة العربية المعاصرة - اسئلة النهضة العربية. - اسئلة الحداثة في الفكر العربي. - العرب في مواجهة حرية الصور. - صورة المرأة في الفكر العربي. - في مواجهة اليأس العربي... يعقد كمال هذا القداس العربي في مؤلفاته، في وقت بلغ فيه السيل الزبى كما يقال، وأحدقت فيه الكوارث والفواجع بالعالم العربي من كل فج، وعم فيه الخراب واليأس، وتلك هي الميزة العظيمة لكمال عبد اللطيف. انه يثبت بالكلمة الحارة وبالملموس، ان المثقف في قلب العاصفة، ولا يدفن قلمه في الرمال. ذلك بعض ما عنيته بأنه كاتب وباحث عضوي، ثمة كلمات/ مفاتيح اساسية في مؤلفات كمال، تمثل الهواجس المحورية والملحة في هذه المؤلفات مثل: الحداثة - التحديث - العقل النقدي - العقلانية - التنوير - الاصلاح. وأرى ان نستمع قليلا الى كمال بخصوص هذه الكلمات / المفاتيح، فهو أبلغ قيلا وأكثر تمثيلا. يقول في إضاءة كتاب (في مواجهة اليأس العربي) / (لانخفي في هذا العمل انحيازنا لخيار الحداثة والتحديث السياسي، بل إننا نذهب في ذلك الى ما هو أبعد، فنحاول نقد صور المخاتلة والتردد والتراجع التي أصبحت تشكل اليوم سمات بارزة في خطاباتنا السياسية. لكن دفاعنا عن لزوم الانخراط في الاصلاح السياسي والاصلاح الثقافي لا يستسهل مطلب الاصلاح، قدر ما يعمل على محاولة تفكيك اسئلته، بطريقة في العمل لاتتردد في وضع يدها على مظاهر القطب والخلل) ص: 7 ويستطرد مضيفا ومضيئا/«.. يعني تمثل قيمة المشروع السياسي الحداثي في استناده اولا وقبل كل شيء الى مقدمات العقل النقدي، ذلك أننا نعتبر ان الدفاع عن الحداثة السياسية، يعني الاحتكام الى سلطة العقل والنقد. ولهذا السبب دافعنا وندافع عن أهمية الخيارات العقلانية والتنويرية في الفكر السياسي العربي المعاصر... »ص 8 وربما كان هاجس التنوير، هو المعزوفة الأكثر حضوراً وتصادياً في خطاب كمال، لأن التنوير كل لا يتجزأ، يشمل الأمة قاطبة/ من القمة الى القاع. يقول تحت عنوان: (الدفاع عن قيم التنوير) «تزداد معركة التنوير في فكرنا، العربي وفي واقعنا السياسي، بحكم تعقد مجال التيارات التي تنسب نفسها لحركة الاسلام السياسي، والإسلام الخلقي، وإسلام الزوايا، وإسلام الأنظمة السياسية السائدة في أغلب الأقطار العربية، ثم الإسلام المتشبع بأهمية الفكر النقدي والرؤية التاريخية، والإسلام الشعبي الطقوسي والمظهري، فنصبح أمام شبكة معقدة من التصورات والاختيارات والعقائد والممارسات... شبكة تحتاج إلى كثير من الفرز والضبط والترتيب لرسم ملامح التقارب والتباعد والاختلاط الحاصل في بنية هذه الشبكة المركبة. وهذه مسؤولية تيارات فكر التنوير في ثقافتنا المعاصر». ص 60 هكذا يغوص بنا كمال في حمأة الواقع العربي، بكل التباساته وارتكاساته، قارعاً أجراس التنوير، كمسؤولية لا معدى عنها. في كتابه الذي بين أيدينا (في مواجهة اليأس العربي)، يرسم كمال لوحة قاتمة للعالم العربي الراهن. يقول في صفحة 154: «أريد أن أعترف أمام كل هذا الذي يقع داخل مجتمعاتنا دون رقيب ولا حسيب، ودون قدرة على التخلص منه ومن تبعاته، أن اليأس وحده هو الدرب الممتد أمامنا برحابة وسخاء..»ص 154 لكن رغم كل هذه القتامة الزارعة لليأس، لا يغلق كوة الأمل والرجاء. يقول في الصفحة الأخيرة من الكتاب، كحسن ختام وآخر كلام. «ولابد من التوضيح هنا، أننا لا نتحدث عن يأس عدمي، بل نتحدث عن يأس تاريخي يمنحنا القدرة على التعبير عن كربنا، بالصورة التي تحول توتّرنا وانقباضنا أمام ما يجري، إلى مناسبة للمقاومة، ليس بأساليب المقاومة اللفظية، بل بأساليب التعقل التاريخي القادرة على ابتكار ما لم نجرّبه بعد، ونحن نحلم بإيجاد المخارج المناسبة لضائقتنا التاريخية المزمنة...» ص 156. ولا يمكن لكمال عبد اللطيف، المحب للحياة، والتواق إلى غد عربي أفضل، إلا أن يحلم، ويفتح الكوة على بارقة أمل. وما أضيق العيش، لولا فسحة الأمل.