اخترت نهارا تتشكل في سمائه سحب بيض صافية تتبادل مواقعها ببطء وتسرح في السماء كرتيلات تمسخ وتتلاشى. امتلأت جبتي بالرحيل, ما في الجبة أحد. لا أتلفت شمالا ولا يمينا. لا يمكن أن أنتبه لكل شيء وللأشخاص من حولي المزدحمة أبدانهم عند مدخل السويقة, قلت لصديقتي ليزا : - لماذا لا تكتبين أو نتعاهد لنكتب معا إذ تتجلى لي ولك علامات الكتابة, مادمت تمتلكين صنعة أجدادك الحرفية. هزت كتفيها العجولين وردت : - أنا لست في وضعية شهرزاد لأكتب, ولا حتى أشبه شقيقتها دنيازاد كي أعين أختي على الحكي. كما أن الذين يكتبون شهرياريون يفعلون ما يحلو لهم بنسائهم, لا تهمهم الحكاية بقدر ما يهمهم الانجاب. أنا لا أعتقد أن شهريار الملك قد أنصت فعلا لشهرزاد. شهرزاد لم تغير قوما حتى يغيروا ما بأنفسهم, فقط قامت بدور التسلية على القراء. ليزا فتاة سمراء, ممشوقة القد, ترتدي جلبابا أخضر مطرزا, عيناها خضروان, ذات ابتسامة متواضعة, أنفها أطول من أنفي, مبسمها داكن, طوقها الذهبي لا يزين عنقها هذا اليوم. صديقتي هذه لا تزور المغرب إلا صيفا. نبست الفتاة: - وحده دوستويفسكي شهرزادي, أجبر حراسه على الاستماع لقصص رواياته لينجو من الاعدام في سجن صقيع مستدفئا بنار الكلمة, لما لم يكن يكتب كان يتخبط في نوبات صرع مسترسلة وعنيفة. بعض أصدقائه أعدموا لأنهم لم يعرفوا طريقا لأسرار الحكي بعد أن ثاروا ضد التزار نيقولا الأول, أو لم تكن بحوزتهم آلات موسيقية لتمجيد سجانيهم بألحان بطولة. أنا لا أحب أن أقرأ كثيرا. جدة ليزا كانت ضد مهنة الكتابة والصحافة ونصحت أخاها سامي بالابتعاد عن فلسطينياته بكلية الحقوق بالدار البيضاء وعن اتحاد طلبة المغرب رغم مكره وكيد أفكاره, نصحته أن يكرس حياته لصالح نجومية السينما واحتراف التمثيل لدى شركات أجنبية, فلذلك خير له وللأجمعين وله أجر ميمون. خرجنا من مقهى باليما, دخلنا باب الأحد ثم غصنا في السويقة فضعنا في زحام المتسوقين وعطر السياح الأوروبيين والمشارقة. نواقيس الكرابة تقرع في هدوء. الفواكه الجافة مغرية أكثر, التمر الأبيض والأسود, شرائط الشريحة ملتوية ومعلقة كالزمن. ابتعت لها بلغة رباطية من عند الحاج امحمد السملالي بعد أن دخلنا زقاقا مظلما, ثم افترقنا إلى الأبد دون أن نبلغ قصبة الوداية. لما سافرت ليزا إلى إيطاليا وهي مراهقة بعد خطوبتها من أسرة أحد المهاجرين, خاطبها ألفونسو تاجر مدينة باليرمو بفرنسية ركيكة: - لقد خدعت النسوة نيرون, وهو لم يحرق روما سوى في كتاباته. قاد شعبه في أمان, أما البقية فهي من خيال المؤرخين والمؤرخات. لهذا فليزا منذ رجوعها من إيطاليا, بدأت تفكر أن يحرق شخص ما مدينة من أجلها, كان رضوان ابن الخباز سي سعيد هو من أحرق قيسارية سوق الكلب لأجل كلامها هذا ليتذوق طعم شفتيها وسكرته ويلمس نهديها بيديه الشوكيتين. رضخت لأمره لأنها كانت تحب أفعال المجانين وتعالجعها. تقول لي ليزا قبل أن نفترق: - جالسا أمام مكتبه, يلبس الكاتب قناع شهريار, يضعه جيدا في وجهه, يقتل في كل نص فتاة عذراء ليكمل قصته. لا أخشى بطش الكتاب. لا أقرأ لأكتب, أشذب شجرة قصة قديمة. رجعت إلى سلا عن طريق زورق ذي مجداف واحد بعد أن قبلت صديقتي ليزا. بدأت تشبه بالتدريج شهرزاد وهي تبدتعد, كل خطوة أخف من الخطوة التي سبقتها. انقضت حكاياتها. نظرت إلى القصبة ثم إلى البحر. لعبت يدي قليلا بالرقراق تقلب في مائه كما تشاء, تستبرد بعذوبته المالحة, الماء بارد بعض الشيء بعيد عن بخار الشمس. تجولت في المدينة القديمة لوحدي دون أن أعبر على طريق العمالة حيث خلفها منزل شاعر ومناضل قديم أتمشى معه أحيانا. أنا أيضا كنت أهرب من الكتابة بفن الكاليغرافيا والمشاركة في احتفالات الحلقة بسوق الصالحين والتنصت لرواتها والتنقل كنحلة ضامئة بين حلقة وأخرى رافضا أن أدلي بسنتيماتي لبا صالح مستعذبا جاذبية بائع جبان كولوبان سي امحمد وطريقته في الجري نحو اليتامى منا ثم النفخ على مزمار مهترئ لإيقاض ما نحمله في جيوبنا, ثم هدايا الفنانين البرتغاليين المجيدين لدارجتنا وعربيتنا الفصحى من أجل أن نتنصر وندين للعذراء بحياتنا. "بوجندوب هاك جبان كولوبان, ما مشيتيش للسكويلة هذ النهار, إيوا هاك ذوق الحلوة", أشتري قطعتين من جبان كولوبان, ألتهم الكبرى وأضع الصغرى في جيب متسول أعمى. أراوغ سي امحمد وأمنحه أربعين سنتيما. بائع الكرانتيكا غائب عن طاولته الصفيحية يحرسها الجن. كان بإمكاني أن أكتب منذ أن تعلمت تركيب الكلمات بلعب على شكل مكعبات بلاستيكية مصنعة في ماكاو, وقصة ختاني الثاني بالمستشفى بعد فشل ختاني البلدي بسبب ضربة حجر أتت على خشب النافذة جاءت من أمام المنزل, وعين شريرة تسللت إلى عضوي التناسلي, إلا أني لم أتلقى أي أمر بذلك. بدأت أفكر جديا في الكتابة مباشرة بعد قراءتي لرواية سوناتا في كروتزر لتولستوي. نعم لقد سبق لي أن تعرضت ما من مرة إلى الخيانة كما أني لم أبد أي إعجاب تجاه بعض الفتيات اللائي وجدنني وسيما وطيبا وأخريات لم يطالبن بي كما يجب واللائي لم يكن لديهن أي مشروع يمكننا أن ننفذه معا, كما لم أستطع المطالبة بأخريات بسبب أسلوبهن وكبريائهن المبرر وطريقتهن في العيش. كلهن يعرفنني جيدا, جئت إلى حيهم كرحالة صغير ذي النظرة الغجرية باحثا عن غجر آخرين, عثرت فعلا عليهم وأسسنا لغجريتنا بالخصام والحفلات. كنت كثير الهروب من المدرسة ومنزل جدتي, لا كفرد من قبيلتهم بل كشخص مستقل عن أفكار المجتمع. مشروعي في الكتابة ابتدأ إثر التفكير في مشروع لحياتي يجنبني التباسات الجنون أو جرائم ضد السلطة. لا أنظر إلى الكتابة كمأزق أو فشل في ممارسة مهنة أخرى بل كتضحية ومغامرة خرقاء أحيانا. الكتابة لغز مخيف فحتى هرقل اختفى في مغارته كي لا يكتب بعد أن فرق بين جغرافيتين. النضج في الأشياء كذلك, التي لا تحتاج إلى كاتب لتعبر عن كينونتها فتكتب نفسها بنفسها يوميا, تحتج أو تحتفل أو تهادن الناس, أما معظم الكتاب فلا يلزمهم نضج لأنه قاتل. رحلت ما من مرة مع الغجر كما تقضي عاداتهم, حاملا قيثارتي على كتفي, وعدت إلى حيّي القديم, القديم الأول لا الثاني أو الثالث. ............................ نفيس مسناوي