أو َتذكرُ يوم وصلتَ إلى فاس في السنة الستينية الأولى، قلبُك ينبض بطفولته فوق كفك، وعيناك من فرط الوحشة، بل الضيم،لا تكادان تبصران، فإن أبصرتا فظلال وأزقة معتمة. أماكن كأنها ديكور في الخيال،وأناسٌ إنما تتوهم أنك تراهم،وإن صرت تعيش بينهم، تشاركهم فضاء كاملا اسمه فاس، وبينما أنت تفهم ولا تفهم لِمَ حللت بهذه ال»فاس»، ما الذي يجعل طفلا في العاشرة يُلقى به بعيدا عن أمه وإخوته، كما أُلقيَ بيوسف في غيابة الجُبّ، ولا أمل له في أن يلتقطه بعض السَّيَّارة، والمعاني والأحاسيس هي في كمون، خارج الاستطاعة وأعلى من العقل والوجدان. حين نزلت من كار الغزاوي بباب «بوجلود»، في ذلك الزمن الفاني،لا تذكر الآن ما رأيت ولا ما سمعت، والوجوه كلها بيضاء، ودمعُ أمك في فجر ذلك اليوم ما زال بللُهُُُ على قميصك. لا يفهم ولا هو يطيق هذا النفي؛أو يُنفى الأطفال أيضا، مثلما يتيتمون وتثكلهم أمهاتهم؟!ولم تملك إلا أن تنقاد تتبع الفقيه إلى بيته في حي الدُّّوح. هذا الفقيه ينقطع معه الحس، والجدران تخر،وترتعد فرقا من رؤيته،لا يتكلم وإنما يأمر ليطاع،كما هم حكامنا على مر الزمان. مشيتَ في ظل خطوته، تجر حقيبتك الصغيرة،وفي الليل كتمتَ بكاءك،وامتلأ فمُكَ مِلحا من انهمار دمعك،وأنت في قلب الديجور،لا تفهم ما حدث لك،ورأسك مع أرجوحة النوم يدووور! في اليوم التالي،الأسبوع التالي، الشهر الموالي،طفق ذلك الطفل الذي كنتَََه يستيقظ فجرا ليصلي مع الفقيه، ويفطر إلى جانبه بتقشف،ويمضي إلى «مدرسة السعادة» بوادي الصوافين. من هنا سيتعلم المكان والدروب والفضاء الروائي والوصف،لا من سقط السرد الغث. يكفيه أن يصبح خارج الدار،ذات الباب الوطيء، لينحدر هابطا في عقيبة السبع، تنتهي عند وسعة على رأسها دكان بائع تبغ، بجواره طاحونة مائية، يمكن أن تكون نفسها التي في رواية «لمعلم علي» لأبي الرواية المغربية الأستاذ عبد الكريم غلاب، إذا درت شمالا ستمشي طولا حتى تصل إلى سويقة بن صافي،أما يمينا مثلي فستمر في الزقاق المعتم،وأنت تحوف تدريجيا،تلوي يسارا لتمر بدار الحجوي، وتهبط فتمر بدار المقري، وتعود تلوي يسارا دائما، إلى ما يتصل في الأنبوب الطويل الذي هو واد الصوافين،على امتداده سور طويل ما زلت متحيرا إلى الآن، ماذا يوجد خلفه، وكم من عجائب المخلوقات أسكنتَ فيه،في المنتصف تلج باب المدرسة بجسد ضئيل وقلب واجف، وبنظرات صمّاء من عينين تريان في الفراغ فقط. إننا نتذكر الوجوه، الأماكن، الحوادث، بعضها طبعا،فيما الإحساس ابن وقته ويفوت. لا يتسع لا الجسم ولا القلب لكل ما يمكن أن نحس به،ولا العمر، أيضا،وهذا ملائم للبشر وإلا سينفجر ويتدمّى جراحا،بل وفرحا كذلك. أي معاناة ومهارة يحتاجهما الروائي ليملأ الشخصية بشعور ما، بعد أن ينشئها. مع كل شخصية عليه أن يوجد إحساسها ويختبر قوته وتأثيره، وهو يدفع بها إلى ساحة الوجود واللعب،وينجح في مد تأثيره عشرات الصفحات، زمن القراءة وبعده، ومن يخفق في ذلك يكون ناقص خبرة ومعرفة بالكائن والفن،عليه أن يغادر هذا الميدان عاجلا، وينصرف لشأن آخر. لذا، حين نقول إن أنا،من جانب معين،هي آخر في كتابة السيرة الذاتية، نعني أن إحساسها مضى وتبدل،ولا يمكن استعادته إلا بذكراه،فهل الإحساس ذكرى؟ لذا، أيضا، وخلافا للمتساهلين، فليس أصعب من أن تكتب ذاتك، سيرة حياتك، بالطبع خارج الغنائيات والنزق اللفظي، وتبذير الكلام. ربما تيسَّر الأمر بالشعر،حين يقوم على التجريد، ويستغرق في المجاز، يموّه التفاصيل،بالحري غير معنيٍّ بها. أما النثر السردي فيحتاج إلى التعيين وحشد التفاصيل،وإذا كان الإحساس أو الشعور لا يُسمَّيان،وإلا فهُما تجريد،فلا مناص من توفير ما يعنيهما بالتسميات والإيحاءات المجاورة والموصوفة،باعتبار الرواية عالما ماديا وواقعيا،حتى وهي تنمو بنسق التخييل. هكذا أجدني في ورطة كلما سعيت إلى كتابة تستعيد ما فات لا يستعاد! أنشدُ وهماً محاربة الزوال، وترميم الفقدان،الأدب هو فن مطاردة الغياب ومحاولة كتابة الإحساس بالفقدان. لذا سأظل أعتبر»فن الطفولة»لعبد المجيد بن جلون أقوى وأضوأ النصوص السردية المؤسسة في أدبنا الحديث، لم يَعْلُ عليها أي نص سيرذاتي. ووجدتكَ،لا أذكر،جارَ طاولتي،أم فصلي،أم شريك الاستراحة. ننتهي من حصص الدرس فيأخذني هنيهة إلى الكلم الرفيق، وأخرى إلى الحوار الفاسي الرقيق، ومن مخرج المدرسة يمضي كل منا إلى وجهته. هو يعرف والفاسيون الآخرون يعرفون أين سيمضون،وما ينتظرهم ويتوقعون، أما أنا فينحني رأسي،أحتاط كي لا يسقط أرضا هو وجسدي، أخاف أن لا أقوى على جمعهما، ونَفَسي لاهثٌ بداخلي وقُدامي، عليّ أن أصعد طريقا كانت نازلة، وأن أتحامل على وخزات جوع في بطني،أهدِّئها إلى ما بعد الغروب،حين يعود الفقيه السيد، وتُنصب المائدة، وتصب لنا زوجته طعامها، ونصير نأكل ما تيسر كأن على رؤوسنا الطير! وجدتكَ وحدَك في مطلق فاس،قبل أن أكتشف الأسواق والصوامع والصبايا الملاح،وشقشقة الماء في نافورة القرويين،والعبور من»درب احني اندير»،والعيون الفتاكة من شبابيك الزّرْبطانة. وجدتُك تهب متطوعا تحمل عني بعض ما ينوء به قلبي الصغير من قهر غربتي، أنا البيضاوي، ووحشةِ الدار، فتفتحُ لي بابَ الدار، فإذا هي بستانٌ وأحضانٌ وأهلٌ وخوانٌ ممدودٌ ومزار. حَذوَك النَّعل بالنعل، أو نتقافز كالنحل والفراش إلى أن نصل إلى سكناكم في الحي الذي نسيت اسمه اليوم،وأذكره قرب باب الحمرا،ونحتاج أن نمر أولا بدار بن الشريف، لنصل إلى بيتكم الجديد، وكان نصفَ مكتمل البناء، ولكن أباك التكناوتي،حين رأيته للمرة الأولى وتميّزته،رحمه الله،كان كاملا، ذا أنَفَة ووقار،لباسُه عصريّ، وطربوشُه وطنيّ. كله كان يهون عندي،إلا أيام العطل. يهجم علَيَّ دفعةً واحدةً الفراغُ والحاجةُ والوحشةُ والضياع، وأتجلد حتى ليصير الدمع في عيني حصى أوَ يستحق طلب العلم أن ينفى طفل في العاشرة؟! لم أشتك لك، ولا سألت، وحدستُ أنها فطنتك الحاضرة دائما بقوة، مع نباهتك نفذتا إلى داخلي فأحسستَ بألمي، بوحدتي، وأنت كنتَ وحيدا بدورك، فأدخلتني إلى مملكتك السرية البيضاء، في الوقت الذي الملك لله وحده،وفي ظله كان لمحمد الخامس، بعد أن نتغذى يوم الجمعة الكسكس اللذيذ،مسقيا بالبصل والزبيب،نَطعمه على مَهَل بشبَعٍ وحَمْدٍ في دفء أبويْك وإخوتك،الذكور والإناث،ثم نصعد إلى الطابق العلوي، في غرفة معتمة قليلا،ما إن تدخلها إلا وتمد أصابعك الرقيقة الماهرة، يسبقك صوت تشويق، وإذ هي خلية دودة القز، والخيوط الناعمة حولنا وفوقنا بياض مشعشع كنور الله وأجنحة الملائكة. بعد ذلك صارت فاس أخرى. ظهر المكان، واتسع الزمان، وأشرق أمامي وجه الإنسان. نسيت نفسي، وغاض غيظي وتبدّد حزني. وجهُها هذه المرأة بروْنق جِنان أراه كلما دخلنا يفتح لي الطريق إلى العائلة،يحل محل وجه أمي، ولولا أن صاحبته امتلكت دوما قامة عالية، وتقاسيم رصينة لكنت ترتمي في حضنها،تمرغ وجهك في أعطافها وأنت تشم حليبا قديما وتقول بصوت ساخن، متهدج: أمييييييي! ويصبح يومُ الجمعة عيدَ ميلاد. شروقُ الشمس منتظر،وغروبها يومذاك دخول في الحزن وأفول،في انتظار الصلاة القادمة،لأننا كنا نصلي، ونحب الله ونخشاه، ولا نزال، وفي بيت التاكناوتي، وهذه السيدة الرؤوم بالذات أعترف أني تعلمت كيف يصدر الكلام وما هو الهمس والإيماء والخفَر وكيف تلد أنامل رقيقة الجمال بتطريز منديل أبيض، والرقةُ تولد من آه صغيرة، والحضارةُ من كعب غزال،، أما الحُب،،! في زمن آخر، صرنا في الدارالبيضاء،وعائلة التكناوتي، مثل أُسَرٍ فاسية كثيرة انتقلت إلى عاصمة المال، وفي درب بوشنتوف،خلف شارع السويس، صعدتُ إلى الطابق الرابع من عمارتكم، ففتحت لي البابُ أسماء، أنت تعرف كم أحبها الجريحة أسماء،واستقبلتني السيدة التي هي أمي الأخرى،كأمس، وهي تطوف بأرجاء البيت كالنحلة، المتفانية في عمل دؤوب، والحَدْبُ من عينيها أيُّ ذَوْب،تجد الوقت لكل شيء،إلا لها،وقتها بيتُها،ما يريده الحاضر الغائب زوجها، وبناتُها، وقبلهم كلهم عثمان، وعلي، وصاحب علي، أنا واحدٌ من أهل البيت. حين أتاني نعيُها، رعشتُ من الرأس إلى الأخمص. حضر عُمْرُ المغرب مع عمري، من تلك الستين، ورأيت الناس تبكي محمد بن يوسف وقتها، قد تيتمتْ صارت بلا يقين. رأيت وجه أبي صوته من رسائله إليّ تصلني فاس وهو يحثني على الدرس وطاعة الله والفقيه، وداخل كل رسالة مائتي ريال(!) نقيم بقسم منها مع علي وصحبه حفلا مبهجا عند بوعياد، وريالات في باب الساكمة للرواة،وشمعة لخاطر أمي في مولاي إدريس،وأخرى لأشتري حلوى لعاتق كتحمّقني في عقيبة الفيران..واليوم مع نعي أم عثمان أتذكر أني رفضت أن ألقي نظرة الوداع على وجه أمي، كي أظل محتفظا ببهائها دائما في قلبي وذاكرة عمري الغادي إلى الفناء، أقول إنني سأسترجعها،كذلك الشأن مع أمنا يا علي،هي لم تمت ما دامت في القلب والوجدان. كم مرة أردت أن أسأل طائر الحرمل رشيد المومني،الوالي الروحي لفاس،وحامي حمى أحلامها،ونُذْر أصيل شعرائها:»أخاي رشيد،أنا رفيقك من واد الصوافين،أنا مول الخاتم، ومن صحبة اتحِمضات العشابين،هل لك أن تدلني على باب الحمرا،وكيف أصل إلى بيت علي،ثم بعد ذلك نعرج على سبع لويات،هناك حيث اختطفتني سبع جنيات،ومن يومها وروحي، كما تعلم، مُعلقة بالسبع سماوات..»كم مرة أردت،لكني،مثل المتنبي،أظل أكتِّم حبا قد برى جسدي، متلذذا باستحلاب الغياب،ومطاردة هذا الفقدان لسبكه في سبحة الحنين المتصل،كي أُُبقي على إنسانيتي،ورعش طفولتي،ولتحريك بئر الأيام الآسن،فأهبط في القرار،أقول عندي مَعين لا ينضب هو نسغ نصي، عندي فاس، ومن بلا فاسه لا أصل له ولا «ساس» ! باريس في 24 05 2010