الشعراء أنواع، فيهم من هو كالمسك كلما حككته ازداد عطرا وعبقا، وفيهم من هو كالوردة فواح لكن سرعان ما يذوي عبقه، وفيهم من لا تطاق رائحته. محمد غرافي من الطينة الأولى، ينتمي إلى فصيلة المسك، تزداد قصائده جمالا وبهاء كلما ازددنا منها اقترابا. وهذا ما يؤكده ديوانه الصادر سنة 2002 عن العنقاء، الموسوم ب "حرائق العشق". يعتبر الشاعر والناقد المغربي محمد غرافي (أستاذ الأدب العربي والسيميائيات ورئيس شعبة اللغة العربية بجامعة تولوز بفرنسا)، من أجمل الأصوات الشعرية المغربية، بدأ النشر منذ أواسط الثمانينات في منابر مغربية وعربية عدة، لكنه لم يصدر ديوانه الأول إلا سنة 2002. قصائد هذا الديوان سافرت بي إلى الماضي البعيد لتحملني على تذكر اللقاء الأول الذي جمعني بالشاعر. كان ذلك في بداية سنة 1988 وكنت حينها أبلغ من العمر 16 ربيعا، لم أشب عن الطوق بعد، نشرت للتو أولى قصصي بالجرائد والمجلات. عرفني به الشاعر عيسى لقاح، وكانوا يكونون شلة تضم بالإضافة إليهما القاص الحسن بنمونة والروائي مصطفى شعبان. كنت أصغرهم وأقلهم تجربة، لذا استفدت كثيرا من هذه الصحبة الطيبة والغنية، على مستوى المقروء والإبداع والأخلاق. كنا نجلس بمقهى النسيم أو بالنادي الثقافي لملوية السفلى، وكنا نتجاذب الحديث في الأدب والفن والسياسة، ويقرأ بعضنا لبعض جديد إبداعه. أذكر أن نصوص مجموعتي القصصية " هذا القادم.." هي ثمرة تلك المرحلة وكذلك الأمر بالنسبة لبعض نصوص ديوان "حرائق العشق" الذي نحن بصدد تقديمه. من هناك ابتدأ الشعر، كلام موزون مقفى، وآخر مرسل ذو إيقاع جميل، وثالث يرقص كما الماء حين تحط على صفحته يرقة أو فراشة زاهية الألوان وترتفع، ليرفعنا معه هذا الكلام إلى ملكوت الخيال، والعاطفة، والإيقاع، والحلم بغد أفضل ومستقبل زاهر، بالرغم من أن بعض قصائده تأتي حارقة (أنظر العنوان: حرائق العشق)، قاسية، ومدمرة.. لكن دمارا جميلا، ومن أجل بناء أجمل، وأمتن، وأبقى. إنه الإحساس الأولي الذي ينتابك وأنت تتصفح قصائد هذا الديوان الذي جاء موزعا على 116 صفحة من القطع المتوسط. بدأت ب"تعب" لتنتهي ب "أقصى التعب" مارة ب"قصيدة إلدا" و"أرصفة شاردة" و"مقام الحزن" و"خريف لحرائق العشق" و"تسريحة أولى" و"امرأة والبحر وهذا الليل" وغيرها من القصائد التسعة والثلاثين المكونة للديوان. قصائد قصيرة في أغلبها لكنها كالجواهر التي تنضم العقد البهي. يقول الشاعر مستهلا ديوانه: "يا عبد الكريم! ما زلت أصد هجير الحزن عن امرأة تصعد ماثلة في الروح وتشتعل ما زلت أمد لقبرة في أقصى الريف يدا وأزيح يدا وأفتش عن لغتي في الكأس فلا يجلو الصبح ولا يصحو الولد الثمل." ص 5 – 6. تلخص هذه القصيدة أهم تيمات الديوان: الحزن، الكأس والنبيذ، المرأة والوطن... إن الحضور الطاغي لهذه التيمات يجعلنا نحاول تتبع تمظهراتها في القصائد لنخلص إلى الآتي: تيمة المرأة: تحضر المرأة كحبيبة وعشيقة وزوجة، وتحضر كأم، وكوطن، وكرمز للصمود، وتحضر كحلم. فالمرأة الحبيبة والعشيقة (إلدا، ليلى، خديجة، جميلة...) تتجلى مثلا في قصيدة "أرصفة شاردة" حين يقول الشاعر: "أفرش فوق رصيف الدهشة أحزاني تعبرني إذاك مرايا فأرى منها العاشق والمعشوق أرى سيدة تشعل في صلب الثلج مفاتنها" ص 17. وفي قصيدة "خريف لحرائق العشق" حين يقول: "كأساور ظل جاءت ليلى كالحرف النازل من قيثارة هذا الحزن تجيء تغني وتمد ذراعيها للريح قليلا فقليلا... ليلى عبرت كل شوارع قلبي كبرت في قسمات الناي وخطت فوق سهول الغيم هوايتها" ص 27. أوحين يقول: "فخديجة أنثاي وليلى وجه آخر لامرأة هي أنثاي من يعثر فيكم عن ليلى بين حرائق نورسها" ص 31. وتحضر المرأة باعتبارها الزوجة كما في قصائد الحنين والنسيان، يقول الشاعر في "صبابة": "رجل يبكي تحت الشرفة مطرا ويهيم ولا تبكي من فرط صبابته امرأتان واحدة في القلب وواحدة تركت في أسرار الدغل له خاتمها وحروفا من وقع كمان." ص 102 – 103. وتحضر المرأة باعتبارها أم في قصيدة "أمومة" التي أهداها إلى أمه. وتحضر كذلك باعتبارها الحلم الذي يتحقق ولا يتحقق، وباعتبارها رمز الصمود والمقاومة والتضحية، وباعتبارها وطن من لا وطن له كما في قصيدة "تسريحة أولى": إني رأيتك ترسمين بنشوة الأعراس كل فرائض الموت الشهي وتدخلين مدائن العشاق من أقصى رغيف يورق الأحزان في الصبوات حتى اشتعال سحابتين كرعشة الليمون فوق حرائق الوهج الطفولي." ص 37. تيمة الحزن والنبيذ: انطبعت جل قصائد الديوان بمسحة من الحزن، وبحضور لافت للنبيذ والكأس إلى درجة أن قصيدة "مقام الحزن" تتكرر فيها لفظة الحزن أكثر من ثمان مرات. ولا تخلو قصيدة من القصائد من ذكر النبيذ أو الكأس: "... إني جئت إليك أسيرا بغلائل هذا الحزن المتجذر بين ضلوعي منذ زمان الرعب القاتل..." ص 21" إن الشاعر أسير حزن وجرح عميقين، ولا مفر له إلا الكأس ينفثها وجعه لتعيد إليه غزالة حلمه، وبهاء حزنه: "ليلى! يا هذي الطفلة مرحى بنبيذ سيعيد إلي غزالة حلمي وبهاء الحزن." ص 31 – 32. نلاحظ أن الحزن يأتي دائما مرتبطا بالكأس والنبيذ وهو ما يؤكده قول الشاعر: "... كم كانت تعصف بي في النخلة أقمار وتعيد إلي مطالع كفي.. كم يثقل هذا الحزن علي وكم يغريني بنبيذ تسقط فيه الدمعة أنساما.." ص 25 – 26. ويقول في قصيدة: كأس ما بعد الأخيرة": واحدة أخرى فقط لي ولك التي بعدها إذ تفيض... وإذ يتعب المنفى لا تتعب يا سيدي أنت من جرعة حتى ترتخي للبكاء." ص 90 – 91. تيمة الوطن: القصيدة عند محمد غرافي وطن يلجأ إليه، والوطن قصيدة يكتبها بدم القلب. قد يغضب حينا من الوطن فيثور، وقد تجتاحه رعشة اشتياق في دوامة الغربة والحزن والفراق واللوعة، فينثره حنينا وكلاما معسولا. لكن في كل هذا وذاك يمتح من حب لا ضفاف له ولا شطآن. في قصيدة "جموح الولد الراعف" يدعو إلى التريث قبل الإقدام على الرحيل من الوطن. يقول: "صرت عنيدا يا ابن سماء الوطن الهارب من فيك إلى جزر ترميك بعيدا وبعيدا تمضي وتعود وحيدا فتريث قبل رحيلك يا ابن سماء الوطن الهارب من فيك." ص 45. إن الوطن بالنسبة للشاعر دائما هارب منه كما الماء الذي لا تمسكه الأنامل، كما في ص 45. وفي ص 24 حين يقول الشاعر: "... ولمن سأقول اليوم أجيء على كفك أنثاي أجيء بسبع أساور مما تخفيه الفرحة بين ضلوعي وأعمد في أجراس الحلم نشيدا يضرب في أرض تحرمني من أحشاء الوطن الهارب مني؟" والوطن يقترن عند الشاعر بالمرأة والغربة، فامرأته وطنه، ووطنه امرأته. وكلما أحس بوطأة الغربة وقسوتها وظلمها، استعاد الوطن الجميل الذي لم يمنعه حبه الشديد له من أن يكون قاسيا معه في قصيدة "أقصى التعب" حين صرخ في وجهه بدون استئذان: آه.. "ياجسدي خذ مني ما شئت وما لم تشأ ليس لنا وطن أبهى من هذا الوطن بحر يرفعه ببياض نسائمه في القلب وبحر يغرقه تحت بياض الزبد ليس لنا جهة نرتاح إليها من حب ولا من طعنة هذا البلد ليس لنا وطن أتعب من هذا الوطن.. خذ مني ما شئت ولا تخجل مما تعطيه يدي ليس لنا وطن يا جسدي أخجل من هذا الوطن." ص 112 – 113. خلاصة القول، إن القصيدة عند الشاعر محمد غرافي وطن، والمرأة وطن، والكأس والمنفى ملجأ من حب هذا الوطن. ملاحظة أخيرة تثيرنا ونحن نسافر داخل قصائد هذا الديوان هو الحضور الكثيف والمقصود للمدن والأماكن: بركان، وجدة، باريس، إيموزار، بلاد الغال... هذا الحضور يدل على عدم استقرار الشاعر، وتنقله الدائم من مدينة إلى أخرى ومن مكان إلى آخر، مما جرعه مرارة المنفى الدائم في المنافي. نلاحظ كذلك حضورأسماء أعلام مغربية وعربية وأجنبية: محمد بن عبد الكريم الخطابي قائد ثورة الريف. محمد علي الرباوي الشاعر المغربي المعروف. مصطفى شعبان ومحمد المزديوي ورابح قداوي أدباء مغاربة. سناء المحيدلي الاستشهادية والفدائية العربية. والأب بيار الناشط الاجتماعي والإنساني الفرنسي . هذا الحضور يمكن أن نقرأه من زاوية أنه اعتراف بالجميل لبعضها، وإشارة إلى وجوب عدم إجحافها حقها، ورد الاعتبار لها. وهو كذلك اعتبار بها مع عقد مقارنة موضوعية بينها وبين ما يقابلها في الواقع الآني. وهو أخيرا شهادة للتاريخ: "ياشيخي المغذور به ما عادت باريس شتاء تمنحني أرغفة وغطاء أو نافذة أرقب منها بطش بني الإنسان.. ....... فاشهد أنك باق ما بقيت باريس تحارب وجهك بالنسيان." ص 52 – 53. في "حرائق العشق" نجد أنفسنا أمام قصائد ذات مضامين راقية عبر عنها بأسلوب أرقى ولغة شعرية جميلة، قصائد تقول الواقع اليومي وتبوح بسر المشاعر والنوازع الإنسانية والوطنية السامية، مستوحية كل ذلك من المعاش ومن حياة الشاعر ذاتها. قصائد لا توارب ولا تخفي انحيازها للمظلوم والمقهور والمنفي والعاشق والمعشوق. إنها حرائق أصابتنا في الصميم بنارها. لكنها لا تنتج رمادا يوزع في الهواء لتذروه الرياح فيختفي، بل ينتج نورا يشع في الفضاء، وينير الدروب المعتمة، ويحرك البرك الراكدة، مخاطبا الإحساس والعقول. إنها قصائد تقول كلمتها بصوت دافئ، حزين، غاضب وهامس في ذات الوقت. تقولها بكل بساطة وجمال، وتذهب.. لكننا نكتشف في الختام أننا ما زلنا نحتفظ في جانب من دواخلنا بشيء ما.. شيء أثير لا يريد أن ينمحي.. إنها قصائد خلقت لتبقى لا لتموت، لأن هذا الشاعر يعرف حقا " كم وطنا يحتاج إلى أشعار؟"