تصور أنك كبرت بلا حدّ، إلى درجة أن الناس في الشوارع أصبحوا يظهرون أمامك مثل قبيلة أقزام كثيري العدد. تصور أن فنجان القهوة الذي تعود على أناملك تحول ذات صباح إلى قارورة عطر ورش إبطك ثم سلم عليك، وانصرف خارج المقهى بجريدة في الجيب وابتسامة نصفية. تصور أن السادسة صباحا، وقتك المفضل على سائر الأوقات، تعثرت في الطريق وسقطت مغشيا عليها في أروقة النهار تاركة الصباح من دون وقت. تصور أن القبائل القديمة التي تنام في كتب الخزانة البلدية استيقظت من النوم ونزلت إلى الشوارع واحتلت الأماكن العمومية نكاية بالتاريخ وبالذين كتبوه على ذلك النحو المضحك. تصور أنك صغرت بلا حد، إلى درجة أن الناس في الشوارع يتحولون أمامك إلى جبابرة وأنت مجرد صرصار ضل الطريق بحثا عن قيثارته التي تقول حكاية «لافونتين» إنها سبب شقائه الدائم فوق الأرض. تصور أن السعادة تواضعت لأجلك ونزلت من برجها العاجي إلى غاية الحضيض حيث أنت، ثم ابتسمت لك وانصرفت بخيلاء أمامك، تصور أنك تعقبتها طوال العمر ولم تظفر بها أبدا، أنك ابتسمت لسنوات طويلة فقط لتبادلك السعادة الابتسامة، لكن البرج العاجي كان أعلى من لهاثك، فعدت منكسرا إلى الحضيض حيث تعاستك ومشاريعك المعتادة، تلك التي تبدأ بقراءة الجرائد وتنتهي بالاشتغال كحكم يفصل في نزاع ينشب بين بنات أفكارك المتعاركة. تصور كم كانت الحياة ستكون طيبة لو لم تحرص كل هذا العمر على أن تشبه قنبلة في طرد، لو لم تحرض بنات أفكارك على الانتحار تباعا، ولو لم تتعود على العيش داخل حذائك كما لو كنت جوربا مهملا. تصور أن هذا العمر حافلة يسافر على متنها حزمة من الغرباء، يتهامسون حول الراتب وحليب الرضاعة وتسريحة شعر مذيعة الأخبار، وأنك تقود الحافلة نحو حافة هائلة والغرباء يتهامسون في غير ما اكتراث بك، وأنت تقترب من الحافة، تسقط ، تتدحرج، تتهشم عظامك، والغرباء مازالوا يتهامسون حولك. وعندما تستفيق تجد أنك كبرت كثيرا وأنك لم تقد غير قطيع هزيل من السنوات، والغرباء الذين تهامسوا حولك طوال الوقت لم يكونوا غير نواياك الطيبة التي فرشت لك الطريق نحو الهاوية. تصور لو مرة فتحت ذراعيك لتستقبل الصباح فارتمى المساء فجأة بين أحضانك. لو مرة فتحت فمك لتتثاءب فتسللت روحك خارجا في نزهة قصيرة باتجاه السماء ولم تعد أبدأ. لو مرة فتحت ألبوم الصور فوجدت كل الأصدقاء هناك ووجدت مكان صورك الشخصية باقات ورد ذابل. تصور لو سيكون الليل ثرثارا لو لم يكن أسود البشرة وكم كان النهار سيكون كئيبا لولا الساعة العاشرة صباحا، موعد وصول صديق عزيز دائما. تصور لم قرر جندي في خندق ما أن يحرث خط نزاع ويزرع البنادق فارغة من الطلقات، تصور أن حقلا جميلا سينمو بعد شهر وأن القتلى سيتدلون من الأشجار بأنوف محمرة وخدود ضاجّة بالدماء. تصور أن القتلى سوف ينضجون مع الصيف تماما وعوض أن يسقطوا سينزلون واحدا واحدا وسيذهبون إلى مستودعات الموتى ليستردوا أحذيتهم وساعاتهم وأسماءهم، ثم سينصرفون تباعا إلى زوجاتهم، وسيحدثون أطفالهم عن جندي وسيم مرتاح البال، الوحيد بين الجنود الذي ينام دائما مرتاح البال. تصور كم سيكون عليك أن تحيا مثل كلب، فقط لتُشعر الآخرين بالشفقة والبؤس. كم سيكون عليك أن تتصاغر وأن تتضاءل لكي تستدين ما يكفي من مال لاقتناء حذاء وكتاب وتذكرة قطار أحيانا. تصور أنك شاهدت نفسك تعبر الطريق بينما أنت جالس فوق كرسي في الحديقة، أنك ركضت لتلحق بك وسألت العابرين عن شخص يشبهك مر قبل برهة بينهم. تصور كيف سينظرون إليك، وقد يبتعدون عنك خوفا من أن تشهر شيئا من جيبك. تصور حرجك الكبير وأنت تسحب أسئلتك مرتبكا مثل شخص يلملم بحرج كبير نقودا سقطت منه أمام شباك تذاكر في بلاد بعيدة. تصور أنك في هذه الساعة تجلس على كرسي في شاطئ مهجور وأن البحر، إكراما لعزتك، توقف عن المد والجزر وجلس على مبعدة منك، ينتظر أن تكتب قصيدتك الأخيرة لينصرف لحيتانه ومحاراته وقواربه. تصور أن القصيدة رفضت أن تنزل ضيفة عليك بسبب كل الضباب الذي يخيم على مخيلتك، وأنك حزين بسبب ذلك وناقم على العالم وعلى مخيلتك. تصور لو أن قلبك المحطم الذي يشبه أكواخ الشواطئ في فصل الخريف، قلبك المهجور الذي تصفق الرياح أبوابه ونوافذه ولا تعمره غير الوحشة بأظافرها الطويلة والعزلة بشعرها المرسل، تصور لو أنك تنظر داخله جيدا. لو مرة واحدة فقط نظرت داخل هذا القلب وفتشت فيه قليلا، لوجدت أنه ليس مهجورا كما تظن، أنه لازال ينبض وبمستطاعه أن يخفق أيضا. لو مرة انتبهت إليه قليلا فقط، لعرفت أن الحب يجلس داخله دائما بانتظارك، كما هي العادة مع شخص عزيز. تصور لو أن الأسبوع تخلى عن اليوم السابع واكتفى بالبقية، ماذا كان سيكون رد فعل اليومية المعلقة فوق الجدار. تصور لو فكرت الجدران بخبث وانهارت أعصابها فجأة. تصور لو أنك تفتح دولابا فتجد شرطي مرور صغير ينام قرير العين قرب كتاب تعليم السياقة، لو أنك توقظه وتحمله بين يديك وتذهب به إلى الشرفة ثم تضعه هناك ينمو وتصير له أوراق عوض الشارات التي على صدره. تصور أن النافورة تبكي طوال النهار في الساحة العمومية وأن الناس قساة قلوب يلتقطون الصور بجانبها، وهي تبكي بلا انقطاع، تصور أنك عرفت هذا الأمر وجذبت أحدهم من ذراعه وهمست له بالأمر الذي عرفت. تصور لو مرة فكرت في مساعدة الريح التي تدفع الباب بلا طائل وفتحت لها وتركتها تتفضل. لو مرة تركت للشمس أن تدخل من الشرفة ثم تغافلها وتقفل عليها البيت، فتمكث عندك إلى الأبد. تصور أن الهاتف لا يرن لأنه يفكر في البحث عن عمل آخر، وأن الرسائل لم تعد تصل إلى بيتك لأنها أصبحت تخونك وذهبت إلى عنوان آخر. تصور أنك في منتصف العمر ستكتشف كم كنت مفرطا في نياتك الحسنة عندما أخلصت لأشياء كثيرة، لكأس الحليب قبل النوم، لنشرة أحوال الطقس قبل أن تغادر فراشك، لأقراص الأسبرين بانتظام. وأنك ضيعت على نفسك فرصة أن تشبه مثقفا مرموقا عندما أقدمت على حلق شاربك مرة. تصور أنك تدخل إلى المنزل فتجد الطيور التي كانت في اللوحات المائية قد طارت إلى غير رجعة، والمياه المرسومة بعناية على هيئة شلالات سالت فوق الأرض وبللت الأحذية التي في طريقها والأوراق المتناثرة فوق الكنبات والثياب المبعثرة التي تعطي الانطباع بأنك وحيد. تصور أنك حكيت هذا الأمر لجميع معارفك، واكتشفت أنه لا أحد منهم يريد أن يصدق كونك وجدت الريش فوق الأرض والمياه فوق الأرض والثياب فوق الأرض. تصور...