1- - في ذلك المكان حيث لم أكن أعرف في أي وقت من الليل أو النهار وجدت نفسي غارقة في نفسي تتنازعني رغبات الاختفاء أو الهروب والطيران إلى أي مكان أستطيع فيه معرفة الوقت والتحكم في مساره، وأتحرر من خطر مخلوقات غامضة ليظهر منها غير أشداق وأنياب وألسنة جعلت المكان لا يشبه كل الأمكنة ويلزم الموجود بأن يتهيأ للخطر ويتسلح بالمكر، وقررت أن أبادر بالهجوم والانقضاض على المخلوقات المترصدة. وما أن بدأت حتى رن جرس قرب رأسي فعرفت حقيقة المكان والوقت وعرفت أني انتصرت ولا داعي للاهتمام بما تبقى في نفسي من آثار الأشباح. 2- - تركت نفسي في ذلك المكان ولم أستعجل مغادرة الفراش. تركت الجسد حرا لاتخاذ القرار، قرار السلم هذه المرة، فرجع بي إلى مكان آخر وجعلني في موقف الشاهد الذي يرى شخصين متصارعين ويهم بالوقوف بينهما. يحاول في كل مرة أن يبعد الواحد عن الآخر لكنه يفشل ويبتعد ليتابع الصراع متحسرا. وحين وصلا متدافعين إلى حافة هاوية عميق صاح محذرا: أنتما معا منهزمان، انتبها!!! ورآهما على وشك السقوط، فهم أن يمسك بأحدهما. مد يده. مددت يدي فوجدت نفسي في مكاني لم أغادر الفراش بعد، وتمنيت لو أستطيع العودة إلى حيث كان الرجلان يتصارعان لأنقذهما، لكن لم يكن ذلك ممكنا ما دمت لا أعرف مكان صراعهما. 3- - خرجت إلى أقرب مقهى. تفقدت ما في جيبي. فوجئت بشيء بحجم كرة صغيرة. سحبته لأعرف أي شئ هو. نظرت إليه. استغربت كيف وصل هذا الشئ إلى جيبي، وماذا حدث له حتى صار رجلا فقد قامته ورجليه!!! 4- - تأملته. وقعت عيني في عينيه، سمعته يهددني ويذكرني بأني ما زلت أحلم وأنه سيجعل مكاني بلا زمان وزماني بلا مكان. قلت وأنا أرمي ذلك الشئ: تلك حبة تين نسيت أن أرميها في منامي، قطفتها قبل أن يرن منبه الساعة وأنا في ذلك المكان الذي لا اسم له. وتحركت متابعا خطواتي، عفصت ذلك الشئ وتحركت، توقفت لأفسح الطريق أمام رجل يترنح، رجل ربما لم يستيقظ. لكن الرجل واجهني وخاطبني بلغة الإنسان العاقل: «أيها السيد! عليك أن تنام لتراني في أحلامك ما دام تجار النظارات الملونة مسخوا ألواننا حتى لا ترانا عين في يقظة!!!». سمعت الرجل وضحكت، لكن قهقهة الضحك لم تصدر من فمي أنا ولكن من فم رجل آخر كان يمر إلى جانبي وبيني وبين واجهة متجر، ما أن نظرت إليه حتى قال: «إن الناس يرونني مجرد عبد في حال اليقظة، فماذا تراني أنت في يقظتك؟؟ ألست مجنونا؟؟» لم أجب وتابعت طريقي. 5- - لجأت الى المقهى المنزوي في ممر بين شارعين هما قلب المدينة التي فقدت قلبها منذ أن أصبحت مدينة بين المدن يحمل المقهى اسمها، وجعلتني أراها مبعثرة في فضاء المقهى، وتتوزع في الوقت نفسه بين القارات السبع حيث توجد مدينة ممكنة، يفترض أنها المدينة التي أريد أن تكون مدينتي الباردة بسبب صفاء سمائها وشفافية جلدة أبنائها وتدفق عيونها بخمرة لا تصدع الرأس وتغريه بركوب موجات الحلم موجة بعد موجة، ومن محيط إلى محيط، وتغني عن التشتت في زاوية مقهى المدينة الذي يستقبلني كأي لاجئ فقد مدينته وأهله، وأصبح خارج زمنه كأنه جاء بعده وربما قبل زمن الناس داخل المقهى وخارجه وزمن النادل الذي نطق للمرة الألف: «القهوة يا أستاذ؟ قهوة كالعادة؟» وأجلس لأرتب فوضى المدينة في فضاء المقهى. 6- - رؤوس. كؤوس وفناجين وزجاجات ملونة فارغة ونصف ممتلئة. عيون متطفلة وأنوف تنفث الدخان. ثياب ملونة وقبعات. جرائد تقلب صفحاتها ولا تكشف أخبارها. أحذية وأرجل تتحرك في مكانها وتدعك أعقابها أرض المقهى. صور معلقة ومشهد أناس يعبرون من شارع إلى آخر. متسولون. رجال شرطة ظاهرون ومتخفون تفضحهم عيون محتجبة خلف نظارات، يتعقبون رجلين لهما هيئة الرجلين اللذين تركتهما في الحلم يهويان من فوق الحافة، أحد هما يفتل خصلة تدلت من أم رأسه الحليق كحبل، والآخر يمسد لحيته ويسوي عمامته. رجلان يتبادلان نظرات حاقدة. كلاهما يريد القفز إلى مكان الآخر. ربما كان الذين يقطرونهما يريدون الإيقاع بهما ويعرفون لماذا ومتى وكيف. 7- - رفعت فنجان القهوة إلى شفتي. وجدته قد صار فارغا. أدركت أني قضيت وقتا طويلا في التسكع داخل مدينة المقهى، بعيدا عن المدينة التي أريدها موطنا لا يختلط فيها العاقلون والمجانين، ولا تضيع فيها الحدود بين اليقظة والنوم، ولا زمن الماضي والحاضر، مدينة تتحرك في المستقبل فقط، أكون فيها إنسانا لا توجد في لغته كلمات مثل سيد وعبد وقتل وكذب وغش وخوف، ولا توجد فيها تضاريس يسير البشر على حافاتها ويتصارعون لتبقى تلك الكلمات تصنع قصصا في قصة واحدة. .