فاجأتنا أليسيا شيبرد، وهي أستاذتي في مادة «أخلاقيات الصحافة» بالجامعة, خلال أول حصة دراسية هذا الصيف، عندما قالت : «علينا أن نعترف بأن التكنولوجيا صعّبت علينا مهمة رسم أخلاقيات الصحافة اليوم، بسبب كل هذه التقنيات التي تغري بالسطو على جهود الآخرين ونسبها إلى أنفسنا، حتى لو كان جهد الآخر مجرد جملة في مقالة صحفية أعجبتنا ولم نستطع مقاومة إغراء استعمال تلك الجملة رغم أنه لا حق لنا في ذلك». معايير أليسيا في أخلاقيات الصحافة تبدو أحيانا مستحيلة بالنسبة إلى صحفية مثلي قادمة من بلد يعتبر فيه الصحفي «متهما» حتى يثبت العكس وصلتُ اليوم متأخرة قليلا عن العادة إلى الجامعة وقضيت نحو تسع دقائق أخرى أبحث عن مكان أركن فيه سيارتي الصغيرة. وجدت جميع الأماكن محجوزة واضطررت إلى ركنها أمام بيت عتيق يبعد بنحو مئة متر عن مبنى جامعة جورج تاون التاريخي. انتظرت إشارة المرور الخضراء وقصدت كلية التمريض بالجامعة التي تقع على بعد خطوات فقط من كلية الطب ومبنى المستشفى الجامعي التابع للجامعة. استقبلني تمثال القديسة مريم المميز برخامه الأبيض اللامع ونظرات القديسة المتطلعة إلى الأعلى في خشوع تام، بينما تمد كفيها بطريقة متضرعة ومستسلمة. الزهور البنفسجية والصفراء المتفتحة تستقبل الزوار بألوانها الفاقعة وأريجها الغريب، وتبدو كوشاح طبيعي مزركش يطوق مدخل الكلية، التي تُعير بعض حجرات الدراسة فيها لطلبة الدراسات العليا لمتابعة دراستهم المسائية في تخصص صحافة التقصي. دخلتُ قاعة الدرس البيضاء ووضعت كتبي على الطاولة الخشبية الضخمة التي تتوسط القاعة المقسمة بشكل منظم بين أماكن وضع الآلات التقنية التي تستعمل التلفزيون والدي في دي وجهاز حاسوب صغير موصول بشبكة الأنترنت وشاشة عملاقة بيضاء، وأماكن لوضع مطبعة ضخمة تستعمل لطبع الملفات التي يتم توزيعها خلال الحصص الدراسية وبعض الكتب المتخصصة. وجدت زملائي في الدراسة منخرطين في حديث صاخب حول إحدى المقالات المثيرة للجدل التي نشرها موقع متخصص في صحافة التحقيقات. وصلت زميلتي «إليشا وودز» التي تعمل منتجة في مكتب قناة ABC بالعاصمة واشنطن. كانت تحمل محفظة الكمبيوتر المحمول الوردية كما العادة بيدها اليمنى وتسند بيدها اليسرى جهاز الآيفون على أذنها وتتحدث مع مخاطبها على الجهة الأخرى بصوت خفيض. وضعت محفظتها على الطاولة وأنهت مكالمتها وتهاوت على الكرسي إلى جانبي وقالت «هاي فادُووا، هاواريو دوين ماي دير»؟، ابتسمت وقلت إنني بخير وشكرتها على السؤال، وقبل أن أسألها عن أحوالها، دخلت ليزا إلى القاعة ووضعت الملف الأحمر الذي عادة ما يكون محشوا بمقالات الصحف المليئة بالخطوط الحمراء وعلامات الاستفهام التي تضعها ليزا بعد تفكير عميق وتأتي إلى القسم كي ترفعها في وجوهنا وتسألنا لماذا برأيكم هذه الفقرة خرقت أخلاقيات الصحافة؟ ليزا هو الاسم المختصر لأليسيا شيبرد، وهي أستاذتي في مادة «أخلاقيات الصحافة» بالجامعة، سبق وأن نشرت كتابا رائعا حول أشهر ثنائي صحافي في تاريخ الإعلام الأمريكي وربما العالمي أيضا، يحمل عنوان «وودوورد وبيرنستين: العيش في ظلال ووترغيت». الكتاب يحكي بلغة آسرة وأسلوب مشوق تفاصيل مغامرة الصحفيّين وودوورد وبيرنستين اللذين هدما عرش الرئيس نيكسون ودفعاه إلى الاستقالة بعدما كشفا مؤامرته للتجسس على مقر الحزب الديمقراطي بمبنى ووترغيت في العاصمة واشنطن. تعمل ليزا كمراقبة عامة في «الإذاعة العامة الوطنية» NPR، وهي إذاعة مستقلة وتعد أكثر مصادر الأخبار مصداقية ومهنية داخل الولاياتالمتحدة. تتركز مهمة ليزا في مراقبة مدى احترام الإعلاميين العاملين في الإذاعة لأخلاقيات الصحافة، وتتمتع بسلطة معنوية تفوق بكثير سلطة مدير الأخبار وحتى المدير التنفيذي للهيئة، وتستمد تلك السلطة من رمزية منصبها الذي يجعلها بمثابة «شرطي أخلاق» داخل الإذاعة التي يعمل بها العشرات من أمهر الإعلاميين الأمريكيين. أخبرتنا ليزا منذ اليوم الأول بأن من يختار أن يكون صحفيا فإنه يختار في الوقت نفسه أن يسيّج نفسه بالكثير من المحظورات، وبأنه يتنازل طواعية عن الكثير من الحقوق التي يتمتع بها الإنسان العادي الذي يزاول مهنا أخرى غير الصحافة. قالت ليزا إنه من المعيب أن يكتب صحفي قصة خبرية عن تجاوزات رجل سلطة في الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، وأن يظهر في اليوم التالي في أنشطة مهما كان نوعها لواحد من الحزبين. تحدثت ليزا عن نفسها وزملاء كثيرين يمتنعون عن التصويت، سواء في الانتخابات المحلية أو الرئاسية، حفاظا على سمعتهم لدى الرأي العام وعلى حيادهم المقدس. فاجأتنا ليزا كطلبة لنيل شهادة الماسترز في صحافة التحقيق خلال أول حصة دراسية هذا الصيف، عندما وقفت وسط قاعة الدرس وقالت بصوت أنثوي فيه الكثير من الصرامة: «علينا أن نعترف بأن التكنولوجيا صعّبت علينا مهمة رسم أخلاقيات الصحافة اليوم، بسبب كل هذه التقنيات التي تغري بالسطو على جهود الآخرين ونسبها إلى أنفسنا، حتى لو كان جهد الآخر مجرد جملة في مقالة صحفية أعجبتنا ولم نستطع مقاومة إغراء استعمال تلك الجملة رغم أنه لا حق لنا في ذلك. احذروا من سرقة أفكاركم داخل الفصل الدراسي، فهناك زملاء يجلسون داخل القاعة يستمعون ويسجلون بكل همة ما يقال هنا بين هذه الجدران الأربعة، لكنهم قد يسرقون مجهودكم، أفكاركم ويحولونها إلى مقالات صحفية ينشرونها بأسمائهم دون حياء، عليكم حماية أفكاركم وحماية حقوقكم الفكرية لهذا أطلب من أي واحد منكم إخبارنا مسبقا إذا ما قرر كتابة شيء ما عن مناقشاتنا داخل الفصل» ! معايير ليزا في أخلاقيات الصحافة تبدو أحيانا مستحيلة بالنسبة إلى صحفية مثلي قادمة من بلد يعتبر فيه الصحفي «متهما» حتى يثبت العكس. قالت مرة خلال محاضرة مشتركة ألقتها مناصفة مع أستاذي الآخر «كيث جينكيز» المراقب العام لأخلاقيات الصحافة بصحيفة الواشنطن بوست، «إن أي مقال يبدأ ب«قالت مصادر عليمة أو مطلعة أو...» يجب أن يرمى في سلة المهملات لأن ذلك يخرق حق القارئ في معرفة مصادر الخبر المعروض عليه، ويمنعه بالتالي من الحكم على مصداقية الخبر من خلال مصدره». وعندما سألتها ما العمل عندما تكون صنابير المعلومات مقفلة في بلد يعتبر مسؤولوه الرأي العام مجرد رعايا لا تليق بهم غير مهمة التصفيق للخطب الرسمية، ردت ليزا بالقول إن الوصول إلى المعلومة حق من حقوق الصحفي، ولا شيء يجب أن يحول بينه وبين نقل المعلومة إلى المتلقي، وإنه على المسؤولين الإقرار بهذا الأمر. لم تتوقف ليزا كثيرا أمام هذه النقطة، وانطلقت لتركز على نقطة مهمة قالت إنها تلعب دورا في رسم حدود مهنية المؤسسات الإعلامية بشكل عام، وهي كيفية التصرف مع مصادر الأخبار. شدّدت ليزا على أهمية حجز تذاكر طائرة من الدرجة العادية للأشخاص الذين لديهم معلومات مهمة حول موضوع ما ويتحولون بالتالي إلى مصادر للأخبار تقبل بالكشف عن هويتها والتحدث باسمها الحقيقي، وقالت ليزا إن «المصادر» يجب أن تنزل في فندق لا تتجاوز نجومه الثلاث أو الأربع، وألا تتلقى أي مقابل مادي أو معنوي لقاء إدلائها بالمعلومات التي بحوزتها للمؤسسة الإعلامية التي تستضيفها، سواء كانت صحيفة أو إذاعة أو محطة تلفزيون. دخلت ليزا في نقاش طويل مع بعض الزميلات في القسم حول تفاصيل التفاصيل التي يجب أن تقيد تعامل المؤسسة الإعلامية مع مصدر الخبر، ومنها نوعية الوجبات التي ستقدمها المؤسسة إلى تلك المصادر وأشياء أخرى كثيرة. بعد النقاش «العميق»، انتقلت ليزا إلى الحديث عن الخيارات القاسية التي قد يواجهها الصحفي خلال مسيرته المهنية، وخصوصا التمزق الذي قد يشعر به بين واجباته كصحفي عليه نقل الحقيقة إلى القراء أو المشاهدين أو المستمعين، وبين ولائه ك«مواطن صالح»، خصوصا في قضايا تتعلق بالأمن القومي للبلاد، أو ملفات حساسة قد تلحق الأذى بما تصفه الجهات الرسمية بالمصلحة العليا للبلاد. رفعت ليزا سبابتها عاليا وقالت ببطء شديد :«تذكروا أن توماس جيفرسون قال قبل أكثر من مائتي سنة إنه لو خُيّر بين الصحافة والحكومة فإنه لن يتردد مطلقا في اختيار الصحافة». أضافت ليزا أن الصحفي هو ضمير المجتمع والشرطي الذي يراقب عمل جميع السلطات، ولذلك استحقت الصحافة أن تكون السلطة الأولى داخل المجتمع الأمريكي وليست الرابعة. حوّلتُ نظراتي عن ليزا وتطلعت إلى زملائي داخل الفصل (جميعهم أمريكيون)، ورأيت كم بدا الأمر عاديا بالنسبة إليهم، وكأن ما قالته ليزا يعد شيئا مسلما به هنا. حاولتُ تجاهل القشعريرة التي غمرتني ولم أستطع مقاومة التفكير في أوضاع الصحافة في المغرب، حيث خرج الزميل حرمة الله من السجن أخيرا بعد شهور من الاعتقال، وحيث تجري محاكمة «المساء» المهددة بعقوبة مالية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، وحيث منع الزميل علي لمرابط من الكتابة لمدة عشر سنوات، وحكم على بوبكر الجامعي بثلاثمائة مليون سنتيم اضطر بسببها إلى مغادرة البلاد، وحيث... تنهدتُ وقلت لنفسي: «إمتاش الله يرضى على المغريب ويعطيه شي توماس جيفرسون مغربي يقتنع بأنه لا ديمقراطية حقيقية دون صحافة مستقلة وحرة وغير مهددة»!