شغل الناس به أكثر مما انشغل المغاربة بحزبه، عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، القادم من بعيد لرئاسة أول حكومة بعد المصادقة على أول دستور في عهد الملك محمد السادس، الرجل الأكثر إثارة طيلة الخمس سنوات الماضية. تحدث عن الملك بغزارة، بمناسبة وبغيرها، وعد فأخلف، في الفساد بالدرجة الأولى، ثم في التعليم والعالم القروي والصحة والثقافة، لكنه ربح الرهان في القليل، وإن كان هذا القليل صعبا، صندوق المقاصة والمقايسة وصناديق التقاعد، الإصلاحات التي يفتخر بها بنكيران هي نفسها الإنجازات التي تتوعدها الأحزاب الأخرى إن فازت بالانتخابات التشريعية.
ومع كل الإصلاحات التي مست جيوب المغاربة، حافظ على شعبيته! لكنه في الطريق إلى السابع من أكتوبر المقبل، سقطت الكثير من الأحلام واختبأ وراء التحكم والاستقواء لتبريرها!
رجل فريد لا يشبه من سبقوه، يطمح اليوم إلى العودة إلى رئاسة الحكومة، فهل يستطيع؟
سيتذكر عبد الإله بنكيران يوم 29 نونبر 2011 جيدا، حينما حملته الطائرة الصغيرة من الرباط إلى ميدلت، حيث الملك محمد السادس يعطي الانطلاقة الرسمية لحملة التضامن، إحساس رهيب بلقاء الملك وجها لوجه، والشعور بثقل المسؤولية بالتكليف بتشكيل أول حكومة يقودها الحزب الإسلامي يزيد من هول اللحظة، خاصة بعد أن فهم زعيم الإسلاميين من الملك أن اللقاء لا يجب أن يمتد أكثر من اللازم كي لا يعتقد المغاربة أنهما يتفقان على تشكيلة الحكومة.
كانت هذه واحدة من إشارات الثقة التي حملها بنكيران معه من ميدلت، بتلك الابتسامة المعهودة وربطة العنق غير المألوفة، ولا يهم إن لم تكن مرتبة بعناية، مادام زعيم الإسلاميين منتشيا برسائل اللقاء، ومنها وعد الملم جنبا إلى جنب حين عودته إلى العاصمة.
إذا كان يوم 29 نونبر 2011 مليئا بكل هذه الإشارات السياسية المشجعة، خاصة وقد كان وراء بنكيران ورفاقه تاريخ من الجفاء بين مملكة الحسن الثاني والإسلاميين عموما، وأيضا لكونه جاء بعد ثلاثة أيام فقط من الإعلان الرسمي والنهائي للنتائج، في إشارة أخرى تفيد الحرص الملكي على تطبيق روح الدستور، وتعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات التشريعية، فإنه لا بد أن يتذكر كثيرا يوم 26 نونبر التاريخي، مقر الحزب البهيج وعشرات الصحافيين ومراسلي القنوات الأجنبية وعدد لا بأس به من القادة والجميع في انتظار وصول عريس اللحظة على أنغام نشيد «البيجيدي»، وها هو بنكيران بتلك الابتسامة التي تعكس الفرحة التي ملأت الفؤاد: نعم، لقد فزنا في الانتخابات.
كان بنكيران يتوقع أن يفوز حزبه في الانتخابات، وكان هذا إحساس عدد من المراقبين، وليس هنا مجال للعودة إلى السياق العربي بنسخته المغربية في عشرين فبراير، ولا الخطاب الناري ضد الخصوم في الحملة الانتخابية، ومنهم من كان في محيط الملك ومساعديه، ولا الوعود والأحلام التي رماها بنكيران في شوارع البلاد وداخل المنازل والمؤسسات إبان الحملة الانتخابية، لكنه لم يكن ينتظر أن يحصل الحزب على ذلك العدد من المقاعد.
ولأن اللحظة كانت تقتضي كثيرا من الجد، بعد أيام من الفرح تقاطرت فيها التهنئات ولم يهدأ فيها هاتف بنكيران، كشف زعيم العدالة والتنمية عن أفكاره التي زادت من حرارة اللقاء، خاصة حينما قال إن الحكومة التي سيقودها ستواجه الفساد والاستبداد، بنفس الحماس الذي كان يملأ الشوارع أيام حركة عشرين فبراير، ولن تمس حرية الأشخاص، ولن « تدخل في صراع مع المخمورين ولا مع النساء المتبرجات »، وستتحالف مع الأحزاب الوطنية، الاستقلال والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، ولن تتحالف مع حزب الأصالة والمعاصرة، وستكون بأقل عدد من الوزراء، وقبل أن يغلق قوس البرنامج الحكومي، رمى بهاته الرسالة لغريمه في العدل والإحسان: «عليكم أن تراجعوا مواقفكم السياسية بعدما رأيتم نزاهة الانتخابات، فالمغرب فعلا تغير ويسير نحو ديمقراطية حقيقية».
كل من تابع حماس بنكيران فهم أن الرجل سيذهب بعيدا في ما لم تستطعه باقي التجارب السابقة، بما فيها محاولة التناوب التوافقي، حينما وضع الحسن الثاني يده على كتف عبد الرحمان اليوسفي لتأمين انتقال العرش، لكنه بعد أن طال أمد المفاوضات في تشكيل الحكومة لأزيد من شهر، ولم تظهر ملامحها النهائية إلا في بداية السنة الموالية، وتبين أن عدد الوزراء فاق الثلاثين، وبالضبط اثنين وثلاثين وزيرا، ضمنهم وزيرة واحدة فقط، ووزراء سيادة يتحملون حقائب هامة، وتأكد فشل زعيم الحكومة في أول وعد وامتحان، بدأ التساؤل: هل يستطيع بنكيران فعلا ترجمة كل تلك الوعود؟
حينما فتح بنكيران عينيه في حي العكاري الشعبي بالرباط العاصمة سنة 1954، لم يكن يعتقد أن منعرجات الحياة ستقوده إلى أن يصبح رئيسا للحكومة أو زعيما لحزب، خاصة علاقته بالسياسة كادت تتوقف بعد فترات قليلة ومتقطعة جال فيها بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فلنستمع إليه: «صحيح أنني انتميت للشبيبة الاتحادية مع مطلع السبعينيات من القرن الماضي، لكن أول فضاء سياسي وحزبي اقتحمت أجواءه هو حزب الاستقلال، لكن دون أن يعني ذلك أنني انتظمت في تنظيماته، وقد ساعدني على ذلك أولا كون والدتي كانت استقلالية وشاركت في العديد من الأنشطة السياسية والجماهيرية التي نظمها الحزب بمدينة الرباط، والسبب الثاني يتعلق بالمقر العام لحزب الاستقلال الذي كان يوجد على مقربة من منزلنا بحي العكاري، ولذلك فقد حضرت بعض الأنشطة المختلفة التي كان ينظمها حزب الاستقلال، لكن لا يجب أن أنسى الدور المهم الذي قامت به تلك السيدة التي كانت تصطحبني معها إلى الأنشطة التي ينظمها حزب الاستقلال »، يقول بنكيران في أول استجواب مع "الأيام" وهو مايزال حينها رئيس الحكومة المعين، ثم يسترسل: «إنها صديقة والدتي "مي طامو" التي استطاعت أن تدخلني إلى عالم الأنشطة المختلفة التي كان ينظمها الحزب للأطفال واليافعين، وقد تمكنت من الاستفادة من الخرجات والرحلات والمسرحيات الترفيهية التي كانت تنظمها الشبيبة المدرسية. لقد كنا حينها صغارا لا نعرف الكثير عن السياسة، لكنها مرحلة كان لها أثرها في ما سيأتي في ما بعد من مشوار سياسي سيمتد لعقود، ويمكنني أن أقول لكم إن الفترة القصيرة التي قضيتها في الشبيبة المدرسية هي التي جعلتني أفتح عيني على السياسة في ما بعد، حيث التحقت في مرحلة الشباب باليسار المتطرف، وعلى الرغم من أنني لم أنتم إلى أي من تنظيمات هذا اليسار، فقد كنت أشارك في المظاهرات التي كان ينظمها مناضلو اليسار بثانوية مولاي يوسف بالرباط التي كنت أدرس فيها، لكنني لم أستمر طويلا مع اليسار… »، وحينما طرح عليه السؤال بالمختصر المفيد: لماذا لم تستمر؟ رد بنكيران بعد صمت: «لأنني اصطدمت معهم سنة 1972 حينما شككوا في نزاهتي ومصداقيتي...
لماذا شككوا في مصداقيتك؟
إنها قصة طويلة تعود إلى سنة 1971 أو 1972، لكن جوهرها يكمن في أنهم استغربوا من حماس تلميذ شاب كثير الحركة والحيوية والمشاركة في كل المظاهرات التي كانوا يدعون إليها، لكن دون أن يلتحق عضويا بتنظيماتهم.
لا أخفيكم أنني صدمت صدمة قوية اضطررت معها إلى الابتعاد عن هؤلاء "الرفاق" وعن الحياة السياسية نهائيا. لقد تأثرت كثيرا، وقررت الانزواء لشهور عديدة، ولم أخرج من هذه الوحدة السياسية، إن صح التعبير، إلا مع اتصالي بإخواني في الشبيبة الاتحادية».
أنتم الآن في السنة الأولى من الحكومة، لا يهم الشهر ولا السياق، وإنما الحدث الذي طبع العلاقة بين بنكيران كرئيس للحكومة والملك كرئيس للدولة، حينما اعتذر بنكيران لمحمد السادس عن مقال افترى عليه القول إنه لا يتواصل مع محيط الملك، فرد وكتب: «لا أملك إلا أن أعتذر لجلالة الملك عن أي إساءة غير مقصودة أكون قد تسببت فيها ومن خلاله لمستشاريه المحترمين»، فكان في حادثة السير هاته بداية ضبط الحدود ورسم الخطوط وتفسير الدستور المصادق عليه حديثا، وفهم معها المراقبون أن الاعتذار الذي شمل المستشارين خطوة إلى الوراء في حلم التأويل الديمقراطي للدستور، مادام المستشارون لا يمثلون مؤسسة دستورية مستقلة بكيانها، لكن بنكيران رمى بالإشارة الدقيقة من أن تجنب الاصطدام بالملك يعني منطقيا تجنبه أيضا مع المستشارين، عكس ما كان يصرح به في الحملة الانتخابية من أن المشكل يكمن في محيط الملك!
إذا كان المراقبون قد بدأوا يلمسون بنكيران آخر، فإن هذا الأخير قرر الذهاب أبعد، ولا يهم إن رافقته انتقادات الانقلاب على الوعود والأحلام، فالعلاقة مع الملك لا بد أن تكون أوضح منذ البداية: « الذي يريد أن يتواجه مع الملك فليبحث له عن رئيس حكومة غير عبد الإله ابن كيران »، ولأن عشاق التنزيل الديمقراطي للدستور لم تكن في أجندتهم المواجهة مع الملك ولا مع المؤسسة الملكية، وإنما الرقي برئاسة الحكومة إلى مؤسسة مستقلة لها كيانها واستقلالها وصلاحياتها الواسعة المؤكدة في دستور 2011، والسمو بالممارسة الدستورية بمضمونها الديمقراطي في انتظار حلم الملكية البرلمانية، فإن بنكيران الذي أصبح تحت دائرة السلطة الحارقة، لم يكترث فرمى بكل الانتقادات إلى الوراء وتقدم كثيرا في مسار التنازلات، حينما وافق على مشروع القانون التنظيمي للتعيين في المناصب السامية كما جاء في صيغته الأولى، مثلما لم يعترض على سحب مشروع القانون الخاص بدفاتر التحملات في القطاع السمعي البصري من يد مصطفى الخلفي لطمأنة كل الأصوات الغاضبة، ومنها من لمحت للتحكيم الملكي، في الوقت الذي كان الحزب يعتبرها فرصة مواتية لبلورة جزء من مشروعه السياسي في الإعلام، فلا سياسة بدون إعلام ولا إعلام بدون سياسة، لكنه ظل يهمس في آذان قادة المعارضة في كواليس البرلمان، من أنه لن يراجع أي اقتراح أو مبادرة تأتي من الأعلى، وسيستمر مسلسل التنازل المقرون بالتطبيع مع السلطة، بمواجهة معطلي محضر عشرين يوليوز 2011، علما أنه موقع من سلفه ومن قبل المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهما مؤسستان دستوريتان، مثلما انحنى للفساد حتى طمأن صقورهم ب «عفا الله عما سلف»، في نفس الوقت الذي أصر على إحالة مسربي وثيقة تعويضات وزير الاقتصاد والمالية ومدير الخزينة العامة على العدالة، والوقوف في منتصف الطريق في قضايا الرخص في أعالي البحار، والصفح عن مهربي الأموال إلى الخارج، وقد اعترف داخل البرلمان بكونه يعرفهم ولا يهم في مسار التغيير هذا التنازل لعزيز أخنوش عن رئاسة صندوق التنمية الفلاحية بميزانيته الكبيرة علما أنه من اختصاص رئيس الحكومة، وهكذا أصبح بنكيران آخر يحكم في دستور 2011 بدستور 1996 على حد قول القيادي البارز محمد الساسي، والذي قال في إحدى المقالات المعبرة: «لقد قبل بنكيران، ربما، الانتقال من فكرة حكومة تحكم إلى فكرة حكومة تحكم مع الملك، ثم أخيرا حكومة تحكم قليلا مع الملك، وهذا في نظر الرجل أحسن في جميع الأحوال للمغاربة من أن يظل حزب العدالة والتنمية في المعارضة» .. تارة « أنا رئيس الحكومة»، وتارة «أنا فقط رئيس الحكومة»، وبين هذه وتلك، لم يعد الفصل واضحا إن كان بنكيران يطبق دستور الحسن الثاني أو دستور محمد السادس، ولا بأس أن يزداد التبرير بالاحتماء بالتماسيح والعفاريت وخفافيش التحكم، علما أن السياسة هكذا، فقد عانى قبله عبد الرحمان اليوسفي الذي لم يشتك من «رموز مقاومة التغيير» إلا بعد أن وضع المفاتيح بكبرياء، وسافر لبروكسيل ليكشف عن ملامحهم.
كثيرا ما بدا بنكيران ملكيا أكثر من الملك، إسهال في الكلام عن علاقته بملك البلاد، بمناسبة وغيرها، لدرجة يعطي الانطباع أنه يصحح خطأ أو يعتذر عن زلة، في البرلمان والحكومة وفي الصحافة والحزب وفي النقابة ومع أرباب المقاولات.. وإلا ما معنى التصريح والتلميح بالعلاقة الجيدة مع الملك إن كانت كذلك، ولأزيد من ثلاث سنوات وبنكيران يعيدها وإن كانت تحرج قواعد الحزب مع الشعب: أنا من ضغطت كي لا يخرج الحزب إلى الشارع إبان الحراك الاجتماعي حفاظا على الملكية في المغرب، ولا بأس أن يبحث رفيقه محمد يتيم عن تأصيل شرعي للعلاقة مع الملك حينما كتب يعدد مناقب بن كيران: «يصر بن كيران ويوصي باستمرار بالمحافظة على الوفاء للملك والملكية لأن الوفاء لولاة الأمر واجب شرعي واقتناع ديني وليس تاكتيكا سياسيا، كما أنه حلقة أساسية في استقرار المغرب وشرط لتحقيق أي تقدم وتنمية، إذ لا إنجاز في المغرب دونها. قال بن كيران : لو افترضت يوما أنكم ستغيرون هذه القناعة فإنني سأكون أول من يحاربكم».
إذا كان الأمر محسوما بهذه الدقة، فلماذا كل هذا الإكثار في الحديث عن الملك والملكية بمناسبة وبغيرها؟ هل كان بنكيران يحس أن التطبيع مع الملكية مايزال حلما؟ كيفما كانت الأحوال، سيظل بنكيران أول مسؤول تحدث عن الملك محمد السادس بغزارة، لدرجة جعلت محمد السادس يحسم الأمر في خطاب العرش الأخير حينما قال إنه ملك للجميع وإن الحزب الذي ينتمي إليه هو حزب المغرب.
ونحن في عز ثاني حملة انتخابات تشريعية في عهد دستور محمد السادس، هناك من يرغب في استمرار ابن كيران في رئاسة الحكومة، لا يهم إن زاد في المحروقات وأسعار المواد الغذائية على حساب جيوب الفقراء وموائدهم، في الوقت الذي لم ترتفع الأجور إلى مستوى الوعود التي رمى بها بنكيران في المدن والقرى، ولا حمى المعطلين من الزراويط، أو شغل مئات الآلاف الذين يحسبون النجوم ليلا ويقضون باقي اليوم في أروقة التهميش وفضاءات النسيان، الأمازيغيون ومدن الصحراء والعالم القروي إذا لم تصلهم فضائل الملك، باتوا جميعا في الضياع، كل ذلك لا يهم مادام الأهم أن عبد الإله بنكيران نظيف اليد، وأنه لهذا السبب فقط يستحق ولاية ثانية، علما أن نظافة اليد يُفترض أن تصبح شرطا متجاوزا في مغرب القرن الواحد والعشرين، لكن الأمور مفهومة، حيث المغاربة الذين عانوا من الفساد لن يثقوا إلا في من عانى معهم من المفسدين، لكن كيف يمكن لبنكيران ذلك وهو الذي ترك جذوره تنمو حتى اعترف المغاربة في تقرير صادم ل «ترانسبرانسي » الدولية أن 48 في المائة منهم دفعوا رشوة للحصول على خدمة عمومية خلال سنة 2015، وأن المغرب احتل الرتبة الرابعة عربيا في سلم الرشوة بعد اليمن والسودان ومصر، وأن 38 في المائة من المغاربة الذين حصلوا على رعاية صحية في المؤسسات العمومية اضطروا إلى دفع رشوة؟ وكيف يمكن لبنكيران أن يهزم التحكم الذي فشل في مواجهته طيلة خمس سنوات علما أنه كان مسلحا بدستور يضمن صلاحيات أوسع وأعمق من سابقيه؟ وعلى حد قول الناشط الحقوقي صلاح الوديع: «كيف يمكن لمن فشل في مواجهة التحكم أن يعد الناس مرة ثانية؟».
قد يكون بنكيران فشل في ترجمة الممكن بعد أن وعد بالمعجزات، وما عليه كثير، يوجد في الشارع ومنازل الفقراء في المدن وفي القرى والمؤسسات التعليمية والصحية والقضاء … لكن، وكم يحلو الاعتراض هنا والآن بعد هذه الصورة القاتمة، ألم يكن في هذا الكأس إلا هذا النصف الفارغ؟
إذا خسر المغاربة مع بنكيران كل هذه الأحلام والوعود في التنزيل الديمقراطي للدستور وإصلاح القضاء والتعليم والعالم القروي والثقافة وعمودها الفقري المفترض الأمازيغية، ثم الانحناء للفساد والصفح عن المفسدين وارتفاع نسبة الأمية بنقطتين، واستمرار شبح البطالة والارتفاع الصارخ للمديونية، وتراجع مؤشرات التنمية وتوقف المد الحقوقي … بل هناك من المنتقدين من يجزم أن جميع المشاريع الكبرى المهيكلة للبلاد وضعت من قبل الملك ولا واحد منها كان فكرة الحكومة إذا خسر المغاربة كل هذا، فإنه لا بد من الاعتراف للرجل أنه ضخ في خزينة الدولة أزيد من مائة مليار درهم نتيجة الإصلاحات الاقتصادية والمالية، وباعتراف ملكي تم تأكيده في الرسالة الموجهة لملتقى البنوك العربية، حينما أشار محمد السادس إلى أن المغرب استطاع أن يؤمن وضعه الاقتصادي والمالي بفضل الإصلاحات التي قامت بها الحكومة، علما أنها نفس الإجراءات التي عارضتها الكثير من الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بما في ذلك المركزيات النقابية، من المقايسة وصندوق المقاصة، أي القنابل التي لم تستطع الحكومات السابقة الاقتراب منها، هي نفسها القنابل التي نزع فتيلها عبد الإله بنكيران ودون أن تتأثر شعبيته، لدرجة استغرب وزير الخارجية الفرنسي كيف يمكن لرئيس حكومة اتخذ إجراءات لا شعبية أن يحافظ على شعبيته، فكان رد بنكيران ل «لوران فابوس»: «أنا أقول الحقيقة للشعب»، مثل ما حدث مع رئيسة صندوق النقد الدولي التي همست في أذن رئيس الحكومة معجبة: «سياستكم ملهمة إلينا .. نحن لم نفرض عليكم شيئا»، خاصة بعدما نزلت الميزانية المخصصة لدعم المحروقات من 56 مليار درهم إلى 23 مليار درهم، والفائض استثمر في القطاعات الاجتماعية، على رأسها السكن والصحة ودعم الأرامل ماديا ودون وسائط، ومع ارتفاع الشعبية على الرغم من الإجراءات اللاشعبية، زاد اهتمام النخبة والشارع برجل ليس كالذين سبقوه، مع الفرجة والقفشات والتلقائية … لدرجة أصبح هاتفه الشخصي عند جل الصحافيين وغيرهم، فلا يتوقف المحمول عن الرنين، عشرات الطلبات والشكايات والآهات، كثير منها يرد عليها بنفسه، حتى تلك التي تأتي خطأ، مثلما حدث مع ذلك الشاب الذي حينما أعاد بنكيران الاتصال به بعد أن وجد رقمه على هاتفه، رد: «من معي؟»، فأجابه رئيس الحكومة: «معك عبد الإله بنكيران»، فرد الشاب مذهولا: «إذا كنت بنكيران رئيس الحكومة فأنا بشار الأسد رئيس سوريا»، حينها ضحك بنكيران ضحكته المشهودة وأغلق الهاتف، ومع ارتفاع منسوب الاهتمام بالسياسة في البرلمان والمهرجانات وعلى شاشات القنوات العمومية وأشرطة الفيديو التي تتسابق عليها المواقع الإلكترونية، أصبح بنكيران ظاهرة تواصلية فريدة، فهل سيعود بنكيران إلى منصبه بعد السابع من أكتوبر المقبل؟
ممقوت عند الأعداء، شعبوي عند الخصوم، سياسي من الدرجة الثالثة عند المعارضة، متواضع في الاقتصاد، لكن الجواب عن سؤال العودة لرئاسة الحكومة بيد المغاربة ثم الملك.