بعد استقلال المغرب، كان نموذج "الملكية البرلمانية" يدغدغ أحلام الاشتراكيين: أن تتوارى الملكية في الظل وتخلو الساحة السياسية للأحزاب، لكن الملك الراحل الحسن الثاني عرف كيف "ينسف" مطلبهم حينما سلّمهم مقاليد السلطة عام 1999. كان تكتيك الجالس على العرش يعتمد على الزمن، فوضعه الصحي لم يعد يسعفه في مناكفة الخصوم ولهذا فضل تحويلهم إلى "حكام جدد بشروط"، ونجحت الخطة: انشطر حزب الاتحاد الاشتراكي وتقوت الملكية أكثر. هذا ما يقوله المراقبون في المغرب. المغرب والسكتة القلبية فقد أخرج الإخوة والأعداء مباضعهم في وجه الإرث وقالوا: اندحر الحزب لأنه تنكر لشعاراته السابقة، وتنازل عنها في الكواليس، أما قادة "الاتحاد الاشتراكي" فظلوا يكررون: "أدينا دورنا وجنّبنا البلاد "السكتة القلبية"، في إشارة إلى الأزمة السياسية التي كانت تحدق بالمغرب آنذاك. في 2011 اندفعت الجماهير إلى شوارع المملكة، وخرجت بقايا اليسار الجذري تتزعم الشبان الأبرياء الحالمين في الساحات العامة، مستنهضة الحلم القديم. وقبل أن يشرعوا في ترديد "شعار الشعب يريد"، أعلن الملك محمد السادس عن إصلاحات دستورية واسعة. في هذه الأثناء، استنفذت معظم الأحزاب المشاركة في السلطة كل بطارياتها مع الشعب، وظهر الإسلاميون كخيار وحيد يستطيع قيادة المرحلة. نُظمت الانتخابات وفاز حزب العدالة والتنمية.. خلفيات الصراع "حزب العدالة والتنمية خرج من رحم المخزن.. ومؤسسه وقف مع الاستبداد حينما كنا نتجرع مرارات العذابات في سجون الحسن الثاني" اليازغي ونجحت استراتيجية القصر مرة أخرى. قرر الإسلاميون إخلاء الشوارع. وشرعوا في الالتحاق بالسلطة، وانبرى الأصدقاء والأعداء في إسداء النصح: لا تتنازلوا عن الملكية البرلمانية.. ستنالون نفس مصير الاشتراكيين. أنتم إذن مجرد قطاع غيار.. فهل سيردد بنكيران بعد عشر سنوات نفس الموشح: أدينا دورنا وأنقذنا البلاد من الفوضى؟ شكوك في نية العدالة والتنمية الأمين العام السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي محمد اليازغي يقول لموقع "راديو سوا" إن زعيم الإسلاميين في المغرب لم يستعمل يوما عبارة "الملكية البرلمانية"، "لأنه في العمق خريج مدرسة الاستبداد في السياسة"، قبل أن يضيف: "حزب العدالة والتنمية خرج من رحم المخزن.. ومؤسسه وقف مع الاستبداد حينما كنا نتجرع مرارات العذابات في سجون الحسن الثاني". "الاتحاد الاشتراكي هو من فرّط في المنهجية الديموقراطية في المغرب" أفتاتي اليازغي وبقية الرفاق العلمانيين لم يطمئنوا يوما لحزب العدالة والتنمية، والسبب تاريخي قبل أن يكون ايديولوجيا. ففي أوائل السبعينيات من القرن الماضي أسس عبد الكريم مطيع "حركة الشبيبة الإسلامية" المغربية. كان التنظيم يشحن أنصاره ويحذر في خطاباته التحريضية من تغلغل "أعداء الدين" في مفاصل الدولة.. استمر مسلسل التحشيد ضد العلمانيين ولم يتوقف إلا باغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون عام 1975. ورغم أن رئيس الحكومة الحالي وصف مرارا اغتيال بنجلون ب"الجريمة النكراء"، إلا أن الاشتراكيين لم يغفروا له انتماءه للشبيبة الإسلامية يومئذ، وظلوا ينعتونه وإخوانه في الحزب "بقتلة عمر بنجلون". من أجهض الحلم؟ يعتبر اليازغي حزب العدالة والتنمية عائقا أمام الديموقراطية في المغرب، "لأنه يعرقل الانتقال الديموقراطي في مغرب 2014، فهو حزب يرضخ لضغوط القصر، وليس لديه نية في مسايرة مطالب الشعب بتطبيق صلاحيات يخولها الدستور المغربي لرئيس الحكومة" يقول اليازغي. بيد أن القيادي البارز في العدالة والتنمية عبد العزيز أفتاتي يدفع سيل التهم عن حزبه، قائلا إن هذا الرجل (اليازغي) "يستعرض عضلاته الضامرة في الوقت الخطأ"، مضيفا لموقع "راديو سوا" لقد "دق الرفاق مسامير كثيرة في نعش الملكية البرلمانية. الاتحاد الاشتراكي هو من فرّط في المنهجية الديموقراطية في المغرب". الملك الحسن الثاني وزعيم الاتحاد الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي مارس 1998الملك الحسن الثاني وزعيم الاتحاد الاشتراكي عبد الرحمان اليوسفي مارس 1998 ففي 1998 كان الاتفاق المبدئي بين الحسن الثاني وقادة المعارضة الاشتراكيين هو اختيار الوزير الأول من الحزب الفائز في الانتخابات. وبالفعل، اختار الملك زعيم الاتحاد الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي لتولي رئاسة حكومة "التناوب التوافقي". شهور بعد ذلك، توفي الحسن الثاني وضاعت معه أسرار الاتفاق ووعوده الشفوية للحزب، وفي انتخابات عام 2002 فاز الاشتراكيون مرة أخرى، لكن وريث العرش محمد السادس اختار هذه المرة شخصية تكنوقراطية (إدريس جطو) من دون أي رصيد سياسي، وزيرا أول. غضب الاتحاديون وانسحب عبد الرحمن اليوسفي من السياسة إلى منفاه في باريس، بينما تزعم محمد اليازغي تيار الاتحاديين الراغبين في البقاء داخل الحكومة. ترهّل الحزب وتصدعت صفوفه، وخرجت من صلبه عدة تيارات نفّرت بقايا الاشتراكيين من السياسة أكثر مما ألّفت بين قلوبهم. "اليازغي غير مؤهل لإعطاء الدروس لحزب العدالة والتنمية"، يقول أفتاتي، مضيفا "شخص أجهض الملكية البرلمانية بالمشاركة في حكومة جطو وحطّم آمال المغاربة في النخب السياسية. بالمجمل، ليس جديرا بالحكم على تجربة لم تكتمل بعد".
خصوم الاتحاد الاشتراكي يقولون إن عبد الرحمن اليوسفي آخر من حافظ على هيبته بخلاف بعض الاتحاديين. لقد اختار مقاطعة السياسة، عقب التراجع عن المنهجية الديموقراطية في الحكومة، بعكس جل رفاقه، الذين كانوا قد تذوقوا حلاوة المناصب الحكومية، ثم رفضوا التخلي عن الامتيازات، تحت غلاف "الدفاع عن مصالح الوطن". أما النخبة الجديدة فتستنجد بالواقعية السياسية: "الحسن الثاني قام بنقد ذاتي واعترف أن البلاد ستشهد سكتة قلبية.." يقول اليازغي، مضيفا "توافقنا معه على الدخول إلى الحكومة بشروط وأقد أنقذنا البلاد من التدهور". يصف اليازغي منتقدي تجربة الاتحاد الاشتراكي في الحكومة، بالقول "هؤلاء صنفين إما: جاهلون بتاريخ معركة اليسار مع الملكية، أو حلفاء الاستبداد الواقفون على هامش التاريخ"، في إشارة إلى إسلاميي العدالة والتنمية. من فرّط في الدستور؟ لنجيب أولا عن سؤال من سرق حلم الربيع العربي؟ من مصر إلى ليبيا ثم سورية واليمن تبخرت الأحلام.. قالوا في البداية لا بد من الآلام ولا توجد ولادة من دون مخاض، واستنتجوا ذلك من تاريخ أوروبا. لكن توالت الأعطاب، وسئم الشعب سريعا من الفوضى فهبّ مستغيثا بالجنرالات. كبوات "ربيع الثورات" خدشت فكرة الملكية البرلمانية في المغرب، إلى درجة أن مكتسبات رئيس الحكومة في الدستور الجديد رجعت إلى وضعها السابق، لم يعين رئيس الوزراء عبد الإله بنكيران سفيرا واحدا ولم يقل وزيرا ولم يعيّن مديرا ساميا". رئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيرانرئيس الحكومة المغربية عبد الإله بنكيران سألوا بنكيران وعاتبوه على تعطيل صلاحياته لفائدة المؤسسة الملكية، لكن لم تتأخر إجابته: "لا تضيعوا وقتكم في محاولة إشعال الفتيل بيني وبين الملك، فأنا لن أصطدم بجلالة الملك. هو رئيسي المباشر وإقالتي بيده". المحلل السياسي المغربي محمد زين الدين يقول إن سبب تخلي بنكيران عن كثير من صلاحياته هو رجوع موازين القوى إلى عهدها السابق: "الملكية أصبحت أكثر قوة بعد فوضى الربيع العربي في مصر وسورية وليبيا". ويضيف "العدالة والتنمية لم يكن بدءا من المتحمسين للملكية البرلمانية. أو على الأقل الجناح الذي يتزعمه بنكيران داخل الحزب". يؤكد زين الدين أن النظام المغربي يستخدم النخب السياسية لصالحه، "جرب الاشتراكيين حتى فقدو شعبيتهم وبدّلهم بالإسلاميين. وقد يستعين بالسلفيين وقت الحاجة أيضا"، يقول زين الدين. الفرق الوحيد بين المغرب ودول "الربيع العربي" الأخرى هو وجود وسائط (أحزاب) بين الحاكم والمحكومين، تُبدل خلال الأزمات.. وفي أوقات الرخاء تأكل مع الحاكم من في نفس الطبق. فقديما قالوا: من يأكل خبز السلطان يضرب بسيفه. *كل الحقوق محفوظة لموقع الحرة ولصاحب المقال محمد أسعدي