"التجربة ليست ما يقع للإنسان من حوادث، ولكن تصرفاته إزاءها" جونسون كان نقل عبد الرحمان اليوسفي لأكبر حزب سياسي من مقاعد المعارضة إلى مقاعد الحكومة حدثا تاريخيا بامتياز.. وُصم بالتناوب التوافقي. كان تعيين الملك لعبد الإله بن كيران رئيسا للحكومة،حدثا له طعم آخر في سياق سياسي مغاير، واعْتُبر حدثا تاريخيا بامتياز أيضا، وُصم بالتناوب الثاني.. لكن ما الفرق بين تناوب اليوسفي وتناوب بن كيران؟ أقدم عبد الرحمان اليوسفي على الانخراط في تشكيل حكومة 1998، لأنه اتفق، سرياً مع الملك الراحل بعد عودته من غضبة "كان"، على إجراء انتخابات سابقة لأوانها وتغيير الدستور، فقدم، وفق ثقافته الوطنية، ما يسمى إشارات حسن النية بعد عقود من الصراع مع النظام السياسي، وتحت غطاء السرية أبقى على نصوص تعاقداته السياسية مع الحسن الثاني طي الكتمان، رافعاً راية المقدس لحجب الحقيقة، أقصد قسمه على القرآن صحبة الملك الراحل وهو الزعيم الحداثي الاشتراكي.. وهنا نقطة ضعفه! عبد الإله بن كيران المحافظ المتدين، جاء أيضا إلى التناوب الثاني عبر بوابة دستور جديد وانتخابات سابقة لأوانها، لكنه لم يقسم على القرآن صحبة الملك محمد السادس، ومنذ خرج من القصر الملكي بميدلت، لحظة تعيينه رئيسا للحكومة، وهو ينقل معلومات وأسرار ما حدث بينه وبين الملك، ويُفشي حتى ما كان ينوي قوله ولم يجرأ عليه، أقصد حديثه عن محاولة رواية نكتة لمحمد السادس، وهنا نقطة قوته! جاء عبد الرحمان اليوسفي من صناديق الاقتراع في انتخابات مزورة، أعلن الراحل إدريس البصري فيما بعد أنه هو من آتى بالاتحاد الاشتراكي إلى الحكم، بل إن برلمانيين، حفيظ وأديب، قدما استقالتهما من البرلمان، وهما اتحاديان، بسبب تزوير الإدارة لنتائج الانتخابات لصالحهما، فيما عبد الإله بن كيران، جاء من صناديق اقتراع اعتبرت شفافة ونزيهة، وحاز أغلبية فاجأت الكثيرين، وهنا نقطة تفوق بن كيران على اليوسفي الذي جاء في سياق محكوم بالتراضي والتوافق حتى على التزوير. حين قبل عبد الرحمان اليوسفي بترأس حكومة التناوب التوافقي، جمَّد الآلة التنظيمية لحزب الاتحاد الاشتراكي وروَّض إعلامه للدفاع عن التجربة الحكومية، وأجهض الكتلة الديمقراطية التي كان يمكن أن تشكل دعامة قوية لحكومته.. لا صوت يعلو على صوت المعركة، ومعركة اليوسفي كانت هي إنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي، لذلك اهتم بتقوية إطار الأغلبية الحكومية، لكنه سيخسر الأغلبية وسيُدخل الكتلة غرفة الإنعاش الذي لم تخرج منه حتى الآن، فيما عبد الإله بن كيران أبقى على يقظة القوة الحزبية إلى جانبه، وتفاوض بالتنظيم الحزبي الذي منحه سلطة عدم القبول بأي ترشيح آخر لرئاسة الحكومة خارج الأمين العام، وفوض الحزب للأمانة العامة والمجلس الوطني مسؤولية وضع المعايير الأساسية لاختيار الوزراء، واعتبر مصطفى الرميد في حقيبة العدل خطا أحمر لا يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يتنازل عنه، لذلك كان عبد الإله بن كيران يُفاوض من موقع قوة، فيما اعتمد عبد الرحمان اليوسفي على صدق وطنيته وحسن نيته في التفاوض مع الحكم وترك ظهره عارياً بعد أن جمَّد اللجنة المركزية للحزب، وكتم سر التفاوض حول تشكيل حكومته حتى عن أعضاء المكتب السياسي. قبل عبد الرحمان اليوسفي بالتناوب التوافقي، في زمن انهيار الإيديولوجيات وبداية انحسار المد الاشتراكي، كان كل ما يملكه هو رصيده الشخصي من النضال والنزاهة والاستقامة والإرث النضالي للاتحاد الاشتراكي الذي بدأ يتآكل، لذلك قدم حزبه قرباناً لإنقاذ المغرب من السكتة القلبية، وبدَّد رأسماله الرمزي ومعه أمجاد الاتحاد الاشتراكي في لحظة مصيرية للوطن، على عكس ذلك فرضت رياح الربيع العربي مناخاً جديداً، نجح الإسلاميون في قطف ثماره لأنهم كانوا القوة السياسية الأكثر تنظيماً، فغنم بن كيران رئاسة الحكومة من موقع قوة، وعلى خلاف تكتم الاتحادي اليوسفي، كان بن كيران منفتحاً على الصحافة الوطنية والدولية، وهنا مصدر قوته. أيضا حين جاء اليوسفي على رأس حكومة التناوب التوافقي خذله النظام السياسي الذي لم يف بالتزاماته، وظل ماسكاً بكل خيوط اللعب، يُدير الملفات الأساسية ويعين الملك كبار الموظفين السامين، ولا يترك إلا هامشاً ضئيلا لحكومة التناوب التوافقي، لذلك حين أراد اليوسفي الاجتماع بممثلي الإدارة الترابية احتاج إلى بركة كل الأولياء، وحين تحقق له ذلك، ألقى كلمته في العمال والولاة فصفقوا له، ولم ينبس أحد منهم بشفة لأنهم أُمروا بذلك، وانفض المجلس كأنه حفل تأبيني لشكل التناوب الذي فهمه اليوسفي خطأ، ليس هذا فقط، فبالإضافة إلى تزوير الانتخابات ونص الدستور المعدل على غرفة ثانية أبقت حكومة التناوب التوافقي تحت رحمتها، وتكتم اليوسفي وتجميده للآلة التنظيمية، فإن النظام السياسي ظل يتدخل في كل التفاصيل، ولم يترك للحكومة الاتحادية إلا مجالات ضيقة للاشتغال، بل إنه سعى إلى وضع حد للتجربة من أساسها وخرق بشكل سافر المنهجية الديمقراطية في نهاية 2002، لذلك نفهم حجم الجراح التي كان يعانيها عبد الرحمان اليوسفي من خلال كلمته الشهيرة في ملتقى بروكسيل. على خلافه جاء عبد الإله بنكيران إلى الحكم بأغلبية مريحة، وبقوة تنظيمية لحزب العدالة والتنمية ظل مشغلا لآلياتها لتحمي ظهره رغم وجع الدماغ مع المناضلين الذين يريد بعضهم الزبدة وثمنها، وفوق هذا بدت الحكومة وهي في بداية مشوارها أنها تتلقى هدايا ثمينة من السلطة السياسية، من إطلاق سراح شيوخ السلفية الجهادية إلى فتح ملفات الفساد. هل ستستمر هذه الهدايا حتى نهاية عهد حكومة بن كيران ويضمن النظام لنفسه التجدد والقوة من خلال تجربة الحكومة الملتحية؟! ثمة نقطة أخرى لتمايز التجربتين، تتمثل في أنه إذا كانت حكومة تناوب عبد الرحمان اليوسفي لم تعمر أكثر من أربع سنوات، فإن الإسلاميين سيحكمون المغرب لأكثر من عقدين!