المكان: المقر المركزي لحزب العدالة والتنمية بحي الليمون الهادئ بوسط العاصمة الإدارية الرباط في لحظة تاريخية للبلاد وللحزب وللسياسة أيضا. الزمان: لا يهم إن كان بداية الأسبوع أو نهايته، لكنه بالتأكيد أحد الأيام الموالية لفوز إسلاميي المؤسسات بالرتبة الأولى في أول انتخابات تشريعية مغربية جرت في سياق الربيع العربي الكبير.
وبين المكان والزمان: الملك محمد السادس عين عبد الإله ابن كيران بصفته الأمين العام للحزب، وبهذه الصفة شرع في تشكيل أغلبيته الحكومية، وبهذه الصفة أيضا كان رئيس أول حكومة ملتحية في تاريخ البلاد يودع في ذلك اليوم أحد ضيوفه من الديبلوماسيين العرب. بين المقر المركزي للحزب والمنزل الذي يحتضن ذكريات ابن كيران وأسرته الصغيرة بضعة أمتار معدودة، لكن الوقت الذي يقضيه عبد الإله ابن كيران بالمقر المركزي أكثر بكثير من اللحظات التي يقضيها بين أحضان الأسرة. أسامة، الابن البكر للأمين العام للحزب، اعتاد على هذا الحضور المتقطع، خصوصا في الشهور القليلة الماضية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يرسم على وجهه تقاسيم السعادة، وهو يحمل صورة والده وهي تخلد للحظة تعيينه من طرف الملك رئيسا للحكومة.
ليس أسامة وحده الذي اعتاد الغياب المتواصل لعبد الإله ابن كيران. نبيلة زوجته، وسمية ابنته، اعتادتا أيضا على “القانون الجديد” منذ أن أصبح أمينا عاما لأول حزب معارض في البرلمان، وها هو اليوم يضع قبعة رئيس أول حكومة مكلفة بتنزيل أسس أول دستور في مملكة محمد السادس سيحتكم إليه المغاربة طيلة العقود المقبلة.
أجواء المقر المركزي للحزب ليست بالتأكيد هي الأجواء التي كان عليها منزل السيد الرئيس.
الكلمات تختلف، والمعاني تتبدل، والأعراف التي يتحرك بها الإخوان في مقر المصباح ليست نفسها التي كانت ترسم الصور الأخرى بالمنزل الذي دخلته “الأيام”.
الأبناء والحفدة والداخل من الزوار والخارجون من الضيوف والهواتف النقالة التي لا تتوقف عن الرنين تحكي قصصا أخرى.
الحركة المتواترة التي أصر حفدة عبد الإله ابن كيران أن يزيدوا بها من حيوية اللقاء، لم تتوقف على امتداد أزيد من الساعتين، ونبيلة، زوجة السيد الأمين العام، عفوا رئيس الحكومة المعين لتشكيل التحالف الحاكم، كما هو الشأن بالنسبة لسمية، الابنة التوأم لسارة، في كامل لحظات السعادة.
في مثل هذه اللحظات، يكون الحفدة الصغار أبطال المكان، خصوصا إذا كانت الجدة في صحة جيدة.
قبل أزيد من ثمانين سنة، كانت مفتاحة الشامي الخزرجي التي تحتل مكانا خاصا بقلب عبد الإله ، تتلمس الخطى في بدايات حياتها.
من مواليد العاصمة العلمية فاس، ولم تنتقل إلى العاصمة الإدارية الرباط إلا حينما تغيرت الظروف لديها ولدى أسرتها التي بدأ عدد أفرادها يتزايد سنة بعد أخرى.
مفتاحة، وهي من أقرب الناس إلى قلب عبد الإله، وسنعرف السر بعد قليل، اسمها الكامل مفتاحة الشامي الخزرجي ، ولذلك فإن اسمها يحيل مباشرة إلى أصولها التي تمتد إلى بلاد الشام، وهذه هي الحقيقة التي أشارت إليها نبيلة ثم سمية: «استوطنت عائلتها مدينة فاس منذ قرون، وتفتخر بنسبها الذي يعود إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة بالمدينةالمنورة».
تمسح بعينيها الصغيرتين المكان بهدوء شديد، ثم تمرر اليد اليمنى على فمها وهي تأخذ نفسا عميقا قبل أن تضع اليد الأخرى على نظارتها الطبية لتعدلها قليلا، ودون أن تهمس بكلمة واحدة أو تتململ قليلا، كانت مفتاحة التي شارفت على إنهاء عقدها الثامن، سيدة المكان.
يكفيها أن ترفع يدها حتى تسرع إليها من أصرت على خدمتها دون كلل أو إحساس بالتعب، أما حينما ترفع رأسها إلى الوراء قليلا ثم تعيده بتثاقل إلى الأمام وهي بالكاد ترسم على وجهها ابتسامة تحمل الكثير من المعاني، فإن الجميع يعرف ما تريده والدة عبد الإله ابن كيران.
تركت مفتاحة اللحظات الجميلة التي عاشتها في العاصمة العلمية للبلاد للاستقرار بالرباط، لحظات الصبا والدلال كما همست في أذننا سمية، وهي بالتأكيد الروايات التي سمعتها من طرف والدتها نبيلة، حيث ازدادت مفتاحة وقد وجدت جل ما كانت تهواه بنات جيلها لأن والدها كان بإمكانه أن يوفر لها ما تشاء، لكن الفرح لا يأتي دائما، لأن مفتاحة عاشت أيضا الأحزان حينما ودعت والدتها حتى دون أن تعيش هذه المأساة وتعرف معنى الرحيل والفراق:”توفيت والدة مفتاحة قبل أن تكمل السنة الأولى، ثم أشرفت على تربيتها “دادا فاطمة” التي كانت أقرب الأقربين إليها”.
لم تكن الرحلة من العاصمة العلمية إلى العاصمة الإدارية إرادية، ولكن الظروف التي تغيرت في حياة مفتاحة هي التي كانت وراء هذا التغيير الاضطراري.
رحلت والدة ابن كيران من فاس إلى الرباط، لكنها ظلت تحتفظ بالفضاء البسيط الذي عاشت فيه مع طفليها حماد وأنيسة الكثير من اللحظات السعيدة، وبالرباط ستبدؤ مشوارا آخر بعناوين مغايرة وفي سياقات مختلفة، ولأن المغرب الشعبي والرسمي كان يعيش أسوأ لحظاته أو أجملها، في عز المقاومة السياسية والديبلوماسية والمسلحة من خلال ممثليه في الأحزاب وفي المقاومة وفي جيش التحرير، فقد ارتمت مفتاحة في أحضان الوطن:”كانت واحدة من أبناء فاس الذين التحقوا بنداء حزب الاستقلال لنصرة القضية الأولى والأخيرة”، تتذكر سمية بعض المشاهد الممتعة التي جمعتها مع أبيها.
أما حينما اختار السلطان محمد الخامس الامتناع عن توقيع الظهائر والمصادقة على قرارات الإقامة العامة وتوجه نحو اتخاذ موقف مساند لسياسة حزب الاستقلال، وقررت سلطات الحماية تنحيته وتنصيب سلطان مصطنع يعمل تحت تصرفها مكانه، واستعانت من أجل ذلك بالأعيان الموالين لها والمجتمعين وراء الكلاوي باشا مدينة مراكش، واجتمع يوم 20 مارس 1953 بنفس المدينة باشوات المدن المغربية الكبرى إضافة إلى عشرات القياد، حيث حرروا عريضة لسحب الشرعية الدينية عن السلطان محمد بن يوسف كإمام، في هذه الظروف خرجت مفتاحة وغيرها من الآلاف من المغربيات والمغاربة للتظاهر والاحتجاج والغضب.
حدث هذا قبل حوالي ستين سنة، وكان عمرها لا يتجاوز واحدا وثلاثين سنة، ولذلك أفرغت كل ما في طاقتها لكي تبصم مرورها من الأحياء الشعبية للعاصمة الإدارية في مواجهة الاستعمار، ولو بمجهود بسيط كما قالت لنا.
حدث ذلك قبل حوالي ستين سنة، حينما كانت ابنة فاس في بداية عقدها الثالث، وعلى الرغم من أنها تتحرك اليوم على كرسي متحرك وهي في نهاية عقدها الثامن، فإنها ما زالت تتذكر ما جرى بدقة بليغة: «انتفضنا في الأحياء والشوارع العتيقة بمدينة الرباط، والحماس الذي ألهب القلوب من أجل الاستقلال هو الذي كان يحرك أبناء جيلي»، تتذكر والدة ابن كيران الأجواء التي تربت فيها قبيل الحصول على الاستقلال، ثم تدقق في معلومة تراها ضرورية:”أنا لم أنتم لحزب الاستقلال بالمفهوم العضوي للتنظيم، لكن وجداننا الوطني الذي كان يدفعنا من أجل تلبية نداء الحزب كان أكبر من أن يختصر في الانتماء لهذه الخلية أو تلك، لأن المغرب كان كله خلية واحدة تطالب بالاستقلال والحرية”.
تنفي مفتاحة أنها كانت إحدى مناضلات الحزب المنتظمات في هياكله وقواعده، لكنها لا تنفي أنها لم تكن تتنفس نفس شعارات ومبادئ الحزب، ولا تنفي أيضا أن وعيها بقضايا الوطن توطد أكثر حينما قررت سلطات الاستعمار نفي السلطان محمد الخامس إلى كورسيكا ثم إلى مدغشقر.
لم تلج مفتاحة فصول الدراسة، وتقول ل «الأيام» بطريقتها العفوية «ما عمري ما قريت»، ولكنها تعلمت في محو الأمية، وحصلت على رخصة السياقة كما كان لها الفضل في الحرص على دفع أبنائها للاستمرار في الدراسة إلى حد النزاع مع الأب الذي كان يريد أن يوجههم في سن مبكرة نحو التجارة بمجرد الحصول على الشهادة الإبتدائية.
لكنها تعلمت بجهدها الذاتي الخاص معنى الوطن، ومعنى التعب، ومعنى وحدة الأسرة واستقرار العائلة الكبيرة، ولذلك تعبت وبكثير من الدقة في التفاصيل والمضمون في تربية الجيل الثاني من الأبناء الذين ازدادوا بالعاصمة الإدارية:عبد العزيز، عبد الإله ثم يوسف:”هنا تفهمون لماذا عبد الإله مدين لوالدته”، تقول نبيلة ثم تضيف سمية: “وهنا أيضا تدركون لماذا كانت ملامح الفرح تتطاير من عينيه حينما أخبر مشاهدي القناة الأولى أنه أصبح أسعد ابن في العالم بعد أن قررت والدته الاستقرار معه”.
ليس عبد الإله هو الابن الوحيد المدين لمفتاحة، حيث إن حماد وأنيسة وعبد العزيز متوفى ويوسف هم أيضا مدينون لها بالكثير، ولذلك تقول نبيلة في صورة معبرة للغاية: «إن الحنان الذي حرمت منه مفتاحة بعد أن فقدت أمها وسنها لا يزيد عن سنة تقريبا، هو الذي أصرت على منحه لأبنائها”، ولكن لماذا ظل عبد الإله بالضبط مرتبطا بوالدته تتساءل “الأيام”، فترد نبيلة: “لأنه الابن الوحيد الذي ظل بجانبها بعدما ذهب إخوته للدراسة في الخارج».
لا تنسوا، والكلام هنا للسيدة نبيلة، أن مفتاحة كانت إلى جانب عبد الإله حينما اعتقله الضابط الخلطي:”حدث ذلك في بدايات عقد الثمانينيات من القرن الماضي، حينما توقفت تلك السيارة التي كانت تتعقبنا ونحن في سيارتنا من نوع فياط 127 طيلة الطريق الرئيسي بالعكاري، فنزل منها فجأة الخلطي وأحد رجالاته، وحينما هبا لاعتقاله بدأت والدته تنهار، في نفس الوقت الذي وعدها الخلطي بإرجاعه إلى البيت في المساء وهو يقبل رأسها”.
لم يعد حينها الشاب عبد الإله إلى بيت الزوجية، وكاد قلب مفتاحة أن يقفز من مكانه، وظلت على هذا الحال، سلاحها الصمت المليء بالكثير من الدلالات، إلى أن خرج من السجن بعد حكم بثلاثة أشهر.
لم تكن مثل هذه اللحظات الحاسمة في العلاقة بين عبد الإله ووالدته إلا لتزيد من قوة الرباط بينهما، والكلام دائما لنبيلة التي تحتفظ بدورها عن مفتاحة بلحظات تعتبرها رائعة:”لقد افتقدنا مرحها وأمثالها الشعبية الضاربة في الحكمة، خصوصا حينما مرضت، ولن أخفيكم أننا شعرنا بنوع من الندم لعدم توثيقنا للعشرات من الأمثال التي كانت تتحفنا بها”.
لم تقرر مفتاحة أن تغادر المنزل الذي قضت فيه سنوات عديدة بوسط العاصمة الإدارية إلا حينما اشتد عليها المرض، ليس لأن هناك حاجزا أسريا منعها من الالتحاق بمنزل ابنها، ولكن لأنها امرأة قيادية كما تصفها حفيدتها سمية، والسيدة التي تفضل أن تكون في المرتبة الأولى كما تشرح زوجة ابنها نبيلة.
لا تنكر نبيلة أنها تنتمي لثقافة ليست هي نفسها التي تربت في رحابها مفتاحة، ولذلك همست في أذننا أن هذا الفرق في الثقافتين هو الذي جعلهما في البداية على خطى مغايرة، وبصعوبة - تضيف زوجة رئيس الحكومة بكل عفوية كانت تتقبل توجيهاتها وأوامرها تضيف نبيلة:”فأنا لم أكن تلك الزوجة التقليدية التي يفترض أن تستمع لكل الأوامر. إنها رفيقتي في الحياة. إنها سيدة حكيمة، وأكثر ما يشدني لها اهتمامها الكبير تجاه أبنائها”، تقول نبيلة، قبل أن تقاطعها سمية:”هل تعلمون أن جدتي ربما لم يسبق لها أن اقترضت مالا لحسن تدبيرها.
ازداد عبد الإله ابن كيران وسط عائلة اشتهر ربها بالتصوف والتحصيل الديني وبالتجارة أيضا، ولذلك يُفهم لماذا قرر الطالب عبد الإله أن يضيف إلى شهادة الفيزياء التي حصل عليها من جامعة الرباط، ليشتغل في الأعمال الحرة من الكتب إلى مواد النظافة تم التعليم الخاص، كان قلب عبد الإله ابن كيران يخفق بالدين منذ أن كان شابا، تأثر بأبيه التابع للطريقة التيجانية قبل أن يمتلئ عقله بالسياسة التي ورثها عن والدته التي اهتمت بالشأن العام أيام حزب الاستقلال.
تركت مفتاحة الكثير من البصمات على عبد الإله وعلى حفدة عبد الإله ، وسمية توأم سارة بعد أسامة وإيمان واحدة من صغار الأمين العام للعدالة والتنمية الذين يخطفون بعض اللحظات للجلوس إلى جانبها حينما يُكتب لها زيارة المنزل الذي عشقت أركانه بكثير من الحب.
حينما ازداد أسامة كان عبد الإله ابن كيران في السجن ، وحينما ازدادت سمية في منتصف عقد الثمانينيات من القرن الماضي، كان عبد الإله ابن كيران يخطو نحو الكثير من الشرعية الناتجة عن مسار المراجعات.
التحق عبد الإلاه ابن كيران بالشبيبة الإسلامية سنة 1976 بعد اغتيال الزعيم الاشتراكي عمر بنجلون الذي اتهم فيه التنظيم، وحينها هرب مرشدها المؤسس عبد الكريم مطيع إلى خارج البلاد فارا من الملاحقة القضائية، لكن عبد الإله ابن كيران أصر على الالتحاق بالتنظيم وتدرج سريعاً ليصبح من قياداته، قبل أن ينفصل مع مجموعة من الشباب عن الشبيبة سنة 1981...
مشوار سياسي مليء بالمنعطفات سيقود الشاب الطموح إلى منزل الدكتور عبد الكريم الخطيب في بداية التسعينيات من القرن الماضي، وحينها سيضع ابن كيران رجله الأولى على سلم الصعود إلى الواجهة السياسية، وفي أقل من خمس عشرة سنة سيصبح ابن كيران أمينا عاما للحزب، ثم رئيسا لأول حكومة في عهد أول دستور لمملكة محمد السادس.
لم يفارق ابنها حضنها طيلة مقامنا بين الأسرة الصغيرة للأمين العام للعدالة والتنمية في المنزل المتواضع لرئيس الحكومة والأمين العام للعدالة والتنمية.
البساطة: الميزة الرئيسية التي تصلح أن تكون عنوانا لمنزل ابن كيران بحي الليمون بالقرب من أحد الأبواب الشهيرة بالرباط: “باب الحد”.
صالون عادي بأثاثه المتواضع لا يشد الداخل إليه إلا صورة الذكرى التي جمعت بين ملك البلاد ورئيس الحكومة، والموضوعة إلى جانب تذكار من الديار التركية، بالإضافة إلى صورة مكةالمكرمة ولوحات كتبت عليها آيات من القرآن الكريم.
في هذا المكان كان يقضي عبد الإله ابن كيران بعضا من وقته مع أسامة وسمية وسارة ... قبل أن يخرج إلى مقر الحزب المجاور، وفي هذا الفضاء كانت سمية تنهل من تجربة والدها في الحزب : السياسة وفي الحركة: الدعوة مع أنها لا تميل للمضي في نفس المسار: «صحيح أن ما وصل إليه والدي اليوم هو فخر وشرف كبير والدرب الذي سلكه مدرسة مليئة بالدروس والعبر أتمنى أن أستفيد منها في مساري، غير أنني أعتقد أني سأكون أكثر عطاءا في مجال البحث العلمي والعمل الدعوي، علما أن هذا لا يمنع أن أكون جندية مجندة لخدمة وطني من أي واجهة أو مجال أتيح لي سياسي كان أو علمي أو دعوي.
ابني والدراسة ألزماني نوعا من الفتور في حركيتي وهي فترة قد أمثلها باستراحة محارب». كان ذلك سنة 2009، وكان عمر سمية 23 سنة، وكان السياق هو التعبئة لقافلة شريان الحياة لرفع الحصار عن غزة من طرف العدوان الإسرائيلي، ولذلك فإنها تعتبره حلما تحقق كان يراودها منذ سنين طويلة:”لم يكن ممكنا أن أذهب مباشرة مع القافلة من المغرب لأنه كان علينا أن نقطع الحدود الجزائرية، وهو أمر لم يكن ممكنا في هذه الأجواء، ولذلك التحقت بها في الديار المصرية، ومنها دخلنا إلى غزة، لقد كانت تجربة استثنائية مازلت أتذكر بعض مشاهدها، فقد صدق من قال ليس من سمع كمن رأى، لقد كانت مشاهد الدمار مفزعة في قطاع غزة، لا تكاد تتجاوز عشرة أمتار حتى ترى آثار الهدم والدمار والخراب، هدموا البيوت، هدموا المساجد، هدموا الجامعات، خربوا المستشفيات، دمروا الأبراج، حتى الشواطئ الرملية الجميلة لم تسلم من دمارهم ولم تأمن الأراضي الزراعية من تجريفهم، والمجلس التشريعي كذلك دمروه، والمقرات الأمنية التي تحفظ أمن أهل غزة خربوها بأكملها، ومؤسسات الأيتام أبادوها، البنية التحتية لمليون وسبعمائة ألف استوت على الأرض، آلة صهيونية وحشية لم ترأف بشيء، المشاهد كانت مفزعة، مؤلمة لم أر مثلها من قبل، كأن زلزالا مر بالمنطقة، بل قد يكون الزلزال أرحم من أولئك المجرمين”.
عادت خريجة مدرسة الحديث الحسنية من غزة فتاة أخرى بعدما ازدادت قناعتها بالحيوية لمحاربة التطبيع والعدوان الصهيوني، وهو المبدأ الذي أقسمت أن تعمل على بلورته في مشوار حياتها، فسمية لا يشدها العمل السياسي كثيرا، ولذلك قررت أن تعمل مع أخواتها في الحركة على تنظيم الأنشطة التأطيرية التي من شأنها أن ترفع سقف التعبئة بمخاطر التطبيع مع الذين قتلوا أبناء غزة ونساء غزة وأطفال غزة وشيوخ غزة بكل تلك الوحشية التي ظل العالم يتفرج عليها لأسابيع.
يشغل “رائد” جزءا كبيرا من قلبها ومن وقتها، ولذلك فإنها تعمل كل ما في وسعها للبحث عن الوقت اللازم والكافي للتفرغ للحصول على شهادة الدكتوراه من نفس المؤسسة الدينية، ولكي تتفرغ لاستكمال دروس القانون الذي قررت أن تنهل منه الكثير لأنها تنوي أن تشتغل إما محامية أو موثقة.
هذه هي أماني سمية التي أخذت من تقاسيم والدها الشيء الكثير، لكنها لا تنوي أن تتبع نفس المسار الذي بدأه عبد الإله ابن كيران قبل أزيد من ثلاثة عقود ونصف، لكن الفضل في الوضع الذي وصل إليه بابا تقول سمية: «يعود لله عزوجل ثم لأمي التي كانت خير سند وداعم في كل الظروف واللحظات الصعبة والحساسة التي مر بها أبي كما أنها ضحت بنصيبها من أبي كزوجة وتحملت على عاتقها في أوقات انشغاله الكثيرة مسؤولية رعاية الأبناء والسهر على حسن تنشأتهم».
ليس هذا بالطبع ما تقصده سمية، فلوالدها وجه آخر قليلون من الناس يعرفونه:”قبل أن يكون أبي رجل سياسة وحامل رسالة دعوية وأمين عام حزب ورئيس حكومة، فإنه رب أسرة حساس، يبكي إذا بكى أحد أفراد أسرته، ويفرح إذا فرح أحدهم”.
هذا هو ابن كيران الأب، هذا هو ابن كيران الذي يظهر في الكثير من اللحظات مقطب الحاجبين، وهو يرد بغضب شديد وبصوت يخترق الجدران والعرق يتصبب من جبينه ... حتى قبل أن يصبح أمينا عاما للحزب خلفا لسعد الدين العثماني.
مشوار انطلق في بدايات السبعينيات التي كانت تغلي في القرن الماضي، لكن سمية لم تكن تعتقد أن يصبح والدها أمينا عاما ولا رئيسا للحكومة، والسبب - تقول سمية باحتراس شديد - يعود إلى خرجاته الإعلامية الساخنة:”أنا أثق في مؤهلاته وفي إمكاناته الفكرية والسياسية، لكنني لم أكن أثق في الجو العام الذي كان يشتغل فيه، لكن حينما اندلعت شرارة الربيع العربي، خالجني شعور سريع أن بإمكان الحزب أن يحصل على الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية وأن يترأس الحكومة”.
تشبه سمية والدها حتى في بعض قناعاته الخاصة، وهي عكس أسامة الذي شارك حركة 20 فبراير أنشطتهم في شوارع البلد، ليس لأنها غير مقتنعة بمطالب وشعارات الحركة، بل لأنها لم تقتنع بالنزول إلى الشارع من أجل المطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد في هذه الظرفية المغربية التي تغلي فيها الثورات العربية.
تصر سمية على أن موقفها بعدم المشاركة في أنشطة حركة 20 فبراير لم يكن موقفا مفروضا من طرف والدها، وتستشهد بأخيها أسامة الذي كان قد شارك في مظاهرات الحركة بمحض إرادته قبل أن يتراجع بعد ذلك بمحض إرادته. لم تنس سمية كيف كان والدها ليلة فوز الحزب بالرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة. كان شعور عبد الإله ابن كيران ليلتها موزعا بين الفرح بوصول الحزب الذي يقوده إلى رئاسة الحكومة في لحظة مغربية وعربية تاريخية، وبين الإحساس بالترقب والحذر مما تخبئه الشهور والسنوات المقبلة من منعرجات ومنعطفات، لكن سرعان ما تبددت هذه الأحاسيس الخاصة والسريعة حينما استدعي والدها للقاء جلالة الملك.
تبدد ذلك الإحساس الذي شعرت سمية أنه اقتحم قلب وعقل والدها في لحظة خاطفة، لكنها بدأت تشعر بأحاسيس مغايرة حينما تكاثرت التهنئات والتحايا عبر الهاتف الذي لم يتوقف رنينه لأيام، وعبر العشرات من الرسائل القصيرة والطويلة بغرف الدردشة بمواقع التواصل الاجتماعية:”حينها تأكد لي أن الذي ينتظر والدي جبل من التحديات، لأنه يتعلق بآمال وتطلعات المغاربة الذين وضعوا ثقتهم في حزب العدالة والتنمية”.
سافر عبد الإله ابن كيران إلى ميدلت للقاء الملك، وسافرت سمية إلى ثقل ملامح الحياة الجديدة التي بدأ يرسمها تعيين والدها رئيسا للحكومة، فسمية لم تخف علينا أنها لم تكن ترغب في الحديث إلينا، ليس لسبب سوى لأنها تريد أن تبقى وراء الأضواء حتى تمارس تفاصيل حياتها مثلما كانت من قبل.
سمية تريد أن تذهب إلى نفس الأماكن الشعبية التي تتبضع منها ملابسها دون أن تتبعها الأعين والملاحظات والهمسات، وتريد أن تتحرك بكل عفوية في رحاب الجامعة دون أن تحسب كل خطوة تخطوها على أنها ابنة رئيس الحكومة.
أسامة الإبن البكر وخطى الوالد: تناقشت مع والدي حول 20 فبراير وخرجت في المظاهرات لأنه لم يقنعني
الولد البكر لعبد الإله ابن كيران لم يكتب له أن يرى النور في هذه الدنيا ووالده بجانبه، ففي شهر نونبر من سنة 1980 التي ازداد فيها الطفل أسامة كان والده الناشط ضمن صفوف الشبيبة الإسلامية المنحلة يقضي عقوبة حبسية مدتها ثلاثة أشهر، على خلفية تزعمه لتظاهرة احتجاجية بالدار البيضاء ضد الأحكام المشددة التي صدرت في حق ناشطين بالشبيبة الإسلامية بعد اغتيال القيادي الاتحادي عمر بنجلون. الأب عبدالاله لم يكتب له أن يكون متواجدا في اللحظة التي يتمناها كل أب على موعد مع استقبال مولود ذكر، وقد تكفل أحد المقربين منه بنقل صورة مولوده الصغير أسامة إليه وهو وراء القضبان.
دروس المسجد
عندما بدأ أسامة، الطفل الصغير، يعي ما حوله بدأ والده ابن كيران يصطحبه معه لتتبع جانب