لم أتعرّف على محمد بن سعيد عن قرب ولم أكن من أصفيائه أيضاً، كان في تلك الفترةِ اسماً سياسيّاً كبيراً وكنت مناضلا بسيطا في منظمة 23 مارس التي كان هو أحد قادتها. كان جزءا من حركة وطنية يمتد تاريخها عميقا في المشهد السياسي المغربي، وكنت أنا وأغلب المناضلين الشباب ننتمي إلى جيل ما بعد الاستقلال. وتلك مفارقة من مفارقات هذه المنظمة. كانت تَمُد نظرها إلى أمام أمميّ لا حدّ له، ولكنها كانت وثيقة الصلة بماض منه جاء قادتها الأوائل. كان قائدا من طراز خاص، لم تفرزه الحركات اليسارية الجديدة التي رأت النور في الجامعات، ولم يكن صدى لثورات عالمية كانت هي مصدرنا في تعلم السياسة، بل كان مُنتجا من مُنتجات الحركة الوطنية التي قادت المعركة ضد المستعمر. ناضل من أجل استقلال البلاد قبل أن يُصبح صوتا يساريا ضد الظلم الاجتماعي والعسْف السياسي. لذلك نظرنا إليه دائما باعتباره صوتا مميزا من حيث شخصيتهُ ومن حيث التكوين والتاريخ والأفق المستقبلي. كان الرفيق "خالد"، وذاك اسمه الحركي، مزيجاً من "سلفية تحررية" عاشها في الغالب كاختيار فرديّ، ومن أفق سياسي منغرس في تفاصيل عيش الشعب، ومن قومية عربيّة كانت تشكل أفقا لأممية ستضم داخلها كل الشعوب المقهورة. وقد كان المؤسسون للمنظمة يقولون لقد رضعنا الماركسية من أثداء قومية، إنها ماركسية صيغت في العربية ووفق ممكناتها. جاء إلى اليسار من حركة وطنية كان تحرير الوطن غايتها الرئيسة، وكنا نحن نتعلم كيف ننتمي إلى السياسة خارجها، كنا نريد التغيير كما رُسمت معالمه في كتب "ثورية" كانت هي زادنا من أجل تغيير وضع اجتماعي لم يفلح هذا الاستقلال في تغييره. كنا نستبطن الحرية كما كانت تصفها القصائد الشعرية وأناشيد الثورةِ في الجامعة، وكان هو يمتص رحيقها من المعارك التي خاضها المقاومون ضد الاستعمار. لم ينتم أبدا إلى "الماضي"، لقد ظل خارج التصنيف الزمني، وذاك ما شكّل قدرته على التقاط العصري في الأصيل والنظر إلى الأصيل في ثوب العصري. كان الجسر الواصل بين الماضي والحاضر في تنظيمنا. كنا نتعلم كيف نثور ونتمرد ونصرخ في وجه الظلم، كما كانت تبشر بذلك الكتب وحركات الشباب الثائر في العالم حينها، وكانت الثورة عنده امتدادا لاستقلال لم يفِ بكل وعوده. كنا نردد على بعضنا البعض ما تعلمناه من أدبيات ماركسية من إنتاج دار التقدم، وكان هو ينصت إلى آلام الشعب كما عاينها وهو يجوب القرى والمداشرِ أيام الاستعمار وبعده. كان الأمرُ عندنا يتعلق باستيعاب ترسانة من المفاهيم كانت مستعارة في أغلبها أو جمعيها من السياسة والإيديولوجيا، وهي التي كنا نعتمدها في رسم "الخطط" النضالية. وكان هو يتأمل اللحظة الزمنية كما يفرزها صراع طبقي في واقع النّاس. كان قائدا ميدانيا لجيش فعليٍّ يريد تحرير الوطن من شماله إلى أقصى الجنوب فيه. ولم نكُنْ نحن سوى صرخات تُردّدها الحناجر في ساحات الكليات وفي رحاب الحيّ الجامعي. لذلك عندما حاد بعضنا عن قضية صحرائنا واعتقد في "ثورية" حركة لم تكن سوى صرخة لم تعرف في أي وجه تصوبها، كان هو صمام الأمان الوطني في منظمتنا. كانت الصحراء عنده جزء من الوطن وليست جزءا من النظام، كما زال يرددها إلى اليوم صبيانيو الثورة المتأخرة. لقد كان الوطن عنده جزءاً من الثورة فهو أصلها، ولا ثورة خارجه، فالذي يريد تنظيف العالم عليه أن يبدأ بالكنس أمام باب منزله. لذلك وقف ووقفنا معه ندافع عن قطعة من وطن غير قابل للتجزيء. كان "فلاحا" ثوريا لا يعرف كيف يهادن، آمن بالمقاومة وآمن بعد ذلك بالثورة وأحرج الكثير من السياسيين في المغرب وشكك في السلوك "الثوري" لبعضهم. رفض ما كان سائداً في المراسيم، ولكنه أعلن أيضا جهارا عما كان يعرفه الكثير منهم عن المعتقلات السرية. كان سلوكا جديدا في مؤسسة ظلت لسنوات، وربما مازالت، واجهة لديموقراطية كسيحة. لم يكن يملك شيئا ولم يكن يريد امتلاك أي شيء، لذلك لم يملكه أحدٌ. كان التكتيك عنده تصريفا لموقف سياسي في الممارسة، لا صفقة يعقدها مع الخصم. وكانت الاستراتيجية عنده رصدا لحقيقة اجتماعية لا ينكرها الحس السليم تُبنى في تفاصيل العارض اليومي، لا مشروعا مؤجلا تتحكم فيه "موازين القوى" هي من صنع الذات و"الداخلية". لم تكن الشرعية عنده مساومة على مبدأ، أو منحة "داخلية"، بل كانت حقاً هي حاصل ما كان يقع في الساحة النضالية بسواعد المناضلين. صالح داخله بين أصالة هي جزء من ذاكرته في سوس، لا فتوى في خطاب الفقهاء، وبين معاصرة لم يتعلمها من الكتب، بل التقطها من التحولات التي كان شاهدا عليها وضمنها كان يتطور. كان آتيا من الماضي إلى مستقبل جديد يُبنى ضمن رؤى جديدة. كنا نعيش في الإيديولوجيا، وكان هو يعيش في السياسة، كان يستمد مواقفه من الواقعة في التاريخ المحلي، وكنا نبني وقائعنا في الإرث الثوري العالمي. لذلك كنا نعود إلى الماضي في الإيديولوجيا من خلال قناعاته هو في السياسة.