موتسيبي: "فخور للغاية" بدور المغرب في تطور كرة القدم بإفريقيا    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    قلق متزايد بشأن مصير الكاتب بوعلام صنصال بعد توقيفه في الجزائر    الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية        طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال        مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإيديولوجيات العربية وطوباوية البدائل
نشر في المساء يوم 26 - 02 - 2011

كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكن لم تتمخض عن كل الثورات لحظات كبرى. كل الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون حتى جدوى ما سيقومون به،
لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط.. ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد الطغاة... كان هذا في غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعة مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل، لم يترك صدى، منها أيضا ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا ب«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية» المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق. صحيح أن الثورات قد تعد ولا تفي، وصحيح أن الطريق للثورة ليس هو منتهاها، وصحيح أن الثورة يحدث كثيرا أن «تأكل أبناءها» وتلفظهم، بعد أن تمتص منهم رحيق شعاراتهم، كل هذا صحيح، لكنّ ما يقع اليوم في العالم العربي مثير للدهشة والاستغراب، ليس فقط لأننا كنا «نتوهم» أن زمن الثورات ولى، ولكنْ لأن الشعوب العربية، والمصنفة عالميا في آخر الأمم المستعملة للتكنولوجيات الحديثة، هي نفسُها التي تعطي دروسا جديدة، تكون فيها الثورة بدون إيديولوجيا والثوار بدون مؤسسات حزبية ولا تكون فيها البدائل، بالضرورة، كبيرة وطنانة، بل مجرد رغبة في العيش بكرامة.
بعد صدمة الاستعمار، والتي أيقظتنا، بلغة كانط، من سباتنا الدوغمائي وأظهرت لنا أن صورتنا عن «الروم» القدامى ليست هي واقع حالهم اليوم، فالبارحة هزمناهم بموجب مَنٍّ رباني كريم، أولا، ولأننا أعددنا أسباب الغلبة، وها هم، بعد قرون، يهزموننا ويستعمروننا ويستهدفون ليس فقط خيراتنا، بل وثقافتنا، التي تشكل أخر «قلاع» ذواتنا، ويجعلوننا من ضمن تركتهم التي يجب أن ينال كل منهم نصيبه منها، ليظهر لنا «الروم» السابقون أقوياء ومنظمين ومتحضرين، وعندما زار الشيخ محمد عبده فرنسا ورأى بأم عينيه قيما لطالما كنا نعتقد أنها تميزنا وحدنا دون غيرنا، (رآها) متجسدة وكثيرة على أرض الواقع ، ثبت لديه بالدليل أنهم أقوياء، فكانت هذه الصدمة بداية اندلاع ما سيسميه الأستاذ العروي «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، والتي تنقسم -حسب أطرها الثقافية المنخرطة في سؤال النهضة- إلى ثلاث إيديولوجيات مختلفة في قراءاتها للواقع العربي آنذاك، ومختلفة أساسا في الحلول التي تقترحها لحل مسألة «لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟ّ»...
يعتبر السلفي أن المشكلة في ابتعاد الأمة عن دينها، ويرى أن الحل يكمن في العودة إلى نهج السلف الصالح، ويعتبر التقني أن المشكلة في ضعف التصنيع، والحل هو إقامة دولة المهندسين. أما الليبرالي فيأخذ التجربة الغربية كمثال ونموذج مكتمل للحل الذي يصلح للعرب، إنه القطيعة مع الماضي وعلمنة الدولة، وهنا لا بد للقارئ الفاضل للإلمام بتفاصيل وسلبيات الإيديولوجيا العربية من قراءة الأستاذ العروي، لفهم السؤال الذي طرحه كتابه «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، وهو سؤال ناتج، حسب العروي، عن أمرين: الأول هو اطلاعه على ما كُتب في مصر، خاصة، بين 0391 و0591 عن المسألة الاجتماعية، إذ كان ينوي تحرير رسالة دكتوراه في هذا الموضوع، والثاني هو ما لاحظه في مصر من تقهقر ثقافي سنة 1691، عندما كان مستشاراً ثقافياً في سفارة المغرب في القاهرة.
وهذا الانحطاط كان يعترف به كبار المثقفين المصريين، من طه حسين إلى محمد مندور إلى نعمان عاشور، فقد كان العروي متشبّعا، وهو طالب في معهد العلوم السياسية في باريس، بالتحليلات الاقتصادية والاجتماعية حول مشكلة التخلّف، وعندما عاين المسألة في بلد كنا نعتبره متقدماً نسبياً، اتضح له أن المسألة ثقافية وإيديولوجية في الأساس، خاصة أن السلطة في مصر كانت آنذاك بين أيدي عناصر وطنية تقدمية.
لاحظ الأستاذ العروي، عن كثب، أنه لا يكفي أن تكون السلطة بين أيدي جماعة تريد الصلاح والإصلاح تحارب الاستغلال وتستهدف التقدم والرقي، إذا كانت ذات ثقافة ضعيفة، غير مستوعبة للأفكار المؤسسة للمجتمع العصري، ومن هنا جاءت الدعوة إلى الانفتاح على العالم العصري، المتمثل في العالم الغربي، حيث كان البعض آنذاك يظنون أن العالم الشرقي الشيوعي يمثل، بدوره، الحداثة، وربما بكيفية أقوى، ليتضح الآن للجميع أن ذلك لم يكن صحيحاً، هذه حقيقة سجلها في كتابه الذي كتبه في بداية ستينيات القرن الماضي، وقال صراحة إن العالم الشيوعي يستطيع أن يستدرك، لا أن يسبق، مواطن الحداثة، أي الغرب.
هكذا انتقد الأستاذ العروي الإيديولوجيا العربية في مختلف تجلياتها، لكن السؤال المطروح، والذي ما زلنا ننتظر الإجابة عنه من طرف الأستاذ العروي، اليوم، بشكل متلهف، هو: أين ينبغي تصنيف الثائرين عبر «فايسبوك» و»تويتر» وغيرهما من المواقع الاجتماعية، ضمن خريطة الإيديولوجيا العربية المعاصرة؟!...
الإيديولوجيا الماركسية عربيا.. والأفق المسدود
بالإضافة إلى هذه الإيديولوجيات الثلاث، ظهرت إيديولوجيا رابعة لا تقل قوة، كما أشرنا إلى ذلك سابقا عندما كنا بصدد الحديث عن الأستاذ العروي، وهي إيديولوجيا استطاعت، هي أيضا، أن تنال من إعجاب قطاعات واسعة من الجمهور العربي، وخاصة الشباب منها، ونقصد الإيديولوجيا الماركسية، والتي جاءت نتيجة انقسام عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى معسكرَين: شيوعي، بقيادة الاتحاد السوفياتي، وغربي، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. ما يهمنا في تبنّي المثقف العربي الإيديولوجيا الماركسية هو أنه اعتبرها إيديولوجيا تحررية، تحررية للشعوب من الحكام «الرجعيين» وتحررية من الاستعمار وتبعاته، الاقتصادية والاجتماعية، وهنا ظهرت عشرات التنظيرات الإيديولوجية التي يعتقد أصحابها أنهم وجدوا الآلية العلمية والمنهجية الصلبة لفهم كل التاريخ العربي الإسلامي وأيضا لفهم واقعه، بل ولرسم مستقبله، هكذا بكل شمولية، فظهر حسين مروة وطيب تزيني ومحمود إسماعيل، والذين اشتهروا بقراءتهم التراثَ العربي الإسلامي قراءة مادية تاريخية، مع ما رافق ذلك من تأويلات وتخريجات تبيَّن في ما بعد أنها أقرب إلى التلفيق المتسرع منها إلى التنظيرات والقراءات العلمية الرصينة، وظهرت أيضا مجموعة من الكتابات ذات الطابع التنظيري التعبوي الجماهيري، والتي تبشر بالثورة الشعبية العربية، والتي ستقضي على الرجعية الداخلية للأنظمة وعلى التبعية الخارجية للاقتصاد وأنماط الإنتاج، وهنا ظهر مفكرون مشهورون، كمهدي عامل وياسين الحافظ ومحمود أمين العالم وآخرون، وإن كانوا لم يحظوا بنفس الشهرة، كسهيل طويلة وصبحي الصالح وعبد القادر علولة.
ولنضع القارئ غير المتخصص في الأفق المفاهيمي للإيديولوجيا الماركسية، نقول إن هذه الإيديولوجيا تنطلق مما يعتبره ماركس وأتباعه من الإيمان المطلق بمنهج يعتبرونه علميا هو المادية الجدلية، والتي انطلق فيها الفيلسوف والاقتصادي الألماني كارل ماركس في دراسته التحليلية النقدية للنظام الرأسمالي الأوربي خلال القرن ال91، من كتابه «الرأسمال»، الذي عنوانه الأساس «نقد الاقتصاد السياسي»، ومن هذه الدراسة، بدأ تكون الفكر الماركسي، وتبعه لينين في فترة لاحقة، في مواصلة التحليل والنقد للنظام الاقتصادي السياسي، فتكوَّن بذلك الفكر الماركسي -اللينيني، الذي تبنته أغلب الأحزاب الشيوعية في العالم. ولتظهر، بعد ذلك، تنظيرات أخرى داخل الفكر الماركسي، جاء بأهمها تروتسكي وماو تسي تونغ، والتي كانت تأثيراتها كبيرة على مثقفي العالم العربي، من الناحية الإيديولوجية...
فالحزب الشيوعي الصيني، بقيادة ماو تسي تونغ، انطلق من دراسة وتحليل ونقد الواقع الاقتصادي السياسي الصيني، فتكون فكر الماركسية الماوية الصينية، أما الأحزاب الشيوعية العربية فقد تعثرت في مسيرتها النضالية والتحررية، وسبب ذلك أنها تبنّت مفاهيم وأفكار الماركسية اللينينية كقوالب جاهزة وألبستها للواقع بطريقة تعسفية منفرة، ولأنها ليست من إنتاج هذا الواقع، أصيبت هذه الأحزاب بالعرج والتعثر خلال أعمالها النضالية في حركات التحرر العربية. لذلك، ومن أجل إنتاج ما سيسميه المهدي عامل، وهو أحد كبار المنظرين العرب للإيديولوجيا الماركسية، إنتاج فكر ماركسي عربي، ضرورة الانطلاق من دراسة تحليلية نقدية للواقع العربي الذي هو نظام الإنتاج الكولونيالي، القائم على بنية التخلف العربي، ونقد هذا التخلف كما يجده الأدب الاقتصادي السياسي المعاصر، فعند المعالجة العلمية الواقعَ، لا يوضع الفكر مع الواقع في مواجه مباشرة، لأن الفكر لا يصل إلى الواقع إلا بإنتاجه مفاهيمَه النظرية، عن طريق نقده المفاهيمَ المتكونة عن الواقع، فمن خلال عملية النقد هذه، ينكشف الواقع في بنيته للفكر النظري. إذن، فالمعرفة العلمية ليست عملية مشاهدة، بل عملية إنتاج تتحقق في حركة نقد للفكر المتكون، تجد ضرورتها النظرية في التطور العلمي المحدد للواقع التاريخي. هذه الحركة هي، في الحقيقة، حركة تحويل للأدوات النظرية لهذا الفكر، وفي هذا التحول النظري، شرط إمكان المعرفة العلمية.
ما يهم في هذه الإيديولوجيا، ونقصد الماركسية، هو أن المثقف والسياسي العربيين لم ينتقلا من مستوى الانفعال إلى مستوى الفعل، إذ لم تتعدَّ اجتهاداتهم شرح وتلخيص ومحاولة تبيئة الفكر الماركسي، ذي الأصول الأوربية، مع واقع عربي لا يظهر فيه أي مقوم من المقومات التاريخية التي أنتجت الفكر الماركسي في منبته الألماني في القرن ال91. ورغم المجهودات الكبيرة التي بُذِلت على مستوى التنظيرات، لم تستطع الإيديولوجيا الماركسية، على مستوى العالم العربي، أن تقود ثورة، إلا إذا استثنينا لجوء بعض القادة العرب، الذين آتوا إلى السلطة على ظهور الدبابات، إلى انتقاء بعض مفاهيم الفكر الاشتراكي ومزجها بمفاهيم قومية، كجمال عبد الناصر والقذافي وبومدين وصدام حسين وحافظ الأسد، لكن ما تبيّن هو أن الإيديولوجيا الاشتراكية، حتى في صيغتها الإصلاحية التوفيقية، لا تقل انتهاكا لحقوق الإنسان من الأنظمة الشمولية الماركسية، فإذا ما صدقنا ما ذكره مايليز كوبلاند في كتابه «لعبة الأمم» -الذي وصفه هيكل بالآفاق- حيث يروي وقائع تعامل البطل القومي عبد الناصر مع الأمريكيين للإطاحة بالملك فاروق، فإن ما سمي المشروع القومي العربي أو الإيديولوجيا القومية، بما رافقها من قمع وسحق للقوى السياسية الأخرى وإلغاء دور المعارضة ومؤسسات المجتمع المدني ورفع الشعار السياسي المعروف «كل شي من أجل المعركة»، على أنقاض سلطة توليتارية متوجسة بعد هزيمة 5 حزيران -يونيو 7691، والتي كشفت حقيقة هذا المشروع القومي في المواجهة الخارجية مع المتحدي والمحفز، وهو تل أبيب..
الإيديولوجية الماركسية عالميا وإعادة «إنتاج» الاستبداد
بدأت الإرهاصات الأولى لبداية النهاية في الفكر الماركسي مباشرة بعد الموت المفاجئ لجوزيف ستالين، حيث تحدث المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي عن الفظائع والأعمال الوحشية التي ارتكبها النظام الشيوعي الستاليني، فقد أقر المؤتمرون بخطورة ما تم ارتكابه، والتي جعلت كل الشعب السوفياتي «يعبُد» شخصا واحدا، بتعبير المؤتمرين، كما ندد بجرائم ستالين وغروره وبمساوئ بوليسه السري وبأخطائه يوم شن الألمان هجومهم على الاتحاد السوفياتى وديكتاتوريته، بعد الحرب العالمية الثانية، في الداخل والخارج. وقد أحدث التقرير ضجة في العالم الشيوعي. ومع أن النص الكامل للتقرير ظل سراً، فإن ملخصه كان في متناول قادة الحزب الشيوعي وبعض قادة بلدان المعسكر الاشتراكي، حتى أصبح السر معلوماً وانتشرت روح التنديد بستالين.
فعلى مدى الخمس والعشرين سنة التي حكم فيها ستالين، كشفت تجارب الناس -مرارا وتكرارا- عن قسوة النظام الشيوعي الذي لا يعرف حدا لجرائم القتل والمذابح والتعذيب. لقد أصبح «المشروع الشيوعي» الخاص بستالين تجربة حقيقية لاستبداد الظلم بالناس، فقد عانت الملايين من المجاعة والبؤس وأجبر القرويون على العمل الإلزامي وتعرض الناس لقمع شديد... وفي غضون ذلك، حرم القانون كل أشكال الممارسات الدينية وشرع ستالين في مصادرة حقول القرويين، الذي شكلوا 08% من إجمالي السكان الروس. وكجزء من سياسة التأميم، جمع الضباط كل محاصيل القرويين وجوّعوا ملايين النساء والأطفال، والمسنين. وفي كازاخستان وحدها، مات 02% من السكان جوعا، وفي القوقاز، وصلت أعداد الموتى إلى أكثر من مليون شخص واعتقل آلاف الأشخاص الذين حاولوا أن يقاوموا هذه السياسات في معسكرات العمل الإلزامي في سيبيريا،. ونتيجة العمل الإلزامي الشاق في تلك المعسكرات، لم ينج غالبية المعتقلين من الموت. كما أعدم آلاف الأشخاص على يد الشرطة السرية التابعة لستالين. وأصبح التهجير جزءا من سياسة ستالين، فقد رُحِّل ملايين الأشخاص من أوطانهم واتجهوا إلى أماكن نائية في روسيا. وكان ستالين مسؤولا عن مقتل عشرين مليون شخص على الأقل في كل أنحاء روسيا. وطبقا لما يرويه المؤرخون، فقد كان ستالين يتلذذ بممارسة مثل هذه الأعمال الوحشية وكان يستمتع كثيرا في مكتبه في الكرملين، وهو يراجع التقارير الواردة من معسكرات العمل الإلزامي عن أعداد الموتى.
ولم يكن الإرهاب في عهد ستالين موجها لمعارضي النظام أو المفكرين فحسب، ففي ظل هجمات المقاتلين الشيوعيين، كان الجميع مهددين وكانت الجماهير تُعتقَل دون تمييز في «الغولاغ» (Gulag) وهي شبكة من معسكرات العمل الإلزامي، تم فيها إعدام الكثيرين. ومن خلال الإرهاب، تحققت لستالين السيطرة المطلقة على الجماهير. ولم تُخلّف 52 سنة من الحكم الديكتاتوري سوى جماهير معدمة...
إن الصمت الذي كان سائداً حيال الحقائق الجارية، فضلاً على الدعاية السياسية التي لا تهدأ، يساعدان على تفسير غياب المعارضة بين جماهير المدن لأعمال ستالين الوحشية في الأرياف. لقد كانت هناك ثمة شكوك لدى زعماء الحزب ولكن ستالين ما برح يحكم قبضته على الأمور.
تمت سلسلة كبيرة من عمليات التطهير والمحاكمة بين عامي 4391 -8391 وراح العالم ينظر، مذهولاً، إلى البلاشفة السابقين وهم يعترفون أمام المحاكم بجرائم غير معقولة، ثم يطلق عليهم النار أو يختفون في السجون ومعسكرات الأشغال الشاقة التابعة للشرطة السرية،. ولم تكن محاكمات الأشخاص المعروفين إلا غيضاً من فيض، فقد اختفى مئات الألوف من الموظفين المدنيين ومسؤولي الحزب وأزيح نصف ضباط الجيش وأُعدِم تسعة أعشار قادته، وفي عام 9391، كان أكثر من نصف المندوبين الذين حضروا مؤتمر الحزب لعام 4391 قد اعتُقِلوا.. لتنطلق مجموعة من المراجعات الفكرية التي خضعت لها الإيديولوجيا الماركسية، وكذا مجموعة من الانتقادات الحادة لوهم التحرر الذي وعدت به شعاراتها، ومنها أطروحة الفيلسوف النمساوي كارل بوبّر في كتابه «االمجتمع المفتوح وأعداؤه»، حيث يبيِّن أن ثمة قاسماً مشتركاً أساسياً بين الإيديولوجيات التوتاليتارية، من نحو الشيوعية والنازية: إنها تطرح نفسها كمحتكرة لمِلكية الحقيقة المطلقة. فلما كانت الحقيقة المطلقة أبعد من متناول البشرية، فإن هذه الإيديولوجيات تلجأ بالضرورة إلى الاستبداد لكي تفرض رؤيتها الخاصة للمجتمع المثالي. لقد عرَّف بوبّر، أمام هذه الإيديولوجيات التوتاليتارية، برؤية أخرى للمجتمع، رؤية ليست الحقيقة وفقاً لها حكراً على أحد، إذ تختلف الآراء والمصالح باختلاف الأفراد، الأمر الذي يُحتِّم ضرورة وجود مؤسسات تمكِّن هؤلاء الأفراد من أن يتعايشوا بسلام. إن من شأن هذه المؤسسات أن تصون حقوق المواطنين وتضمن حرية الاختيار وإبداء الرأي.
نهاية الايديولوجية الماركسية وبداية الأحادية القطبية
في 52 دجنبر ،1991، حينما كان العالم الغربي منشغلا بالاحتفالات ب«أعياد الميلاد»، ظهر الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف، فجأة، على شاشات التلفزيون وقد لاحت على قسمات وجهه أمارات الحزن وتلا، بصوت تشوبه البحة، على أمم الاتحاد السوفياتي كلمة كانت بمثابة قرار حكم بالموت على الاتحاد السوفياتي، القرار الذي نجمت عنه تداعيات ألحقت الكوارث، ليس بروسيا والجمهوريات الملحقة بها فقط، بل بالعالم ككل. أعلن غورباتشوف أنه يرحل بطواعية عن منصبه كرئيس لثاني أعظم دولة في العالم حينها، كان اسمها الاتحاد السوفياتي، ليعطي الضوء الأخضر لشطبها من على خارطة العالم وعلنا النهاية الفعلية للإيديولوجيا الماركسية. وقد سبق ذلك الحدث اجتماع زعماء روسيا وبيلا روسيا وأوكرانيا، ليعلنوا حل الاتحاد السوفياتي، وفي الليلة ذاتها، ودون مراسيم أو ضجة، وتحت جنح الظلام، تم، بسرعة، إنزال علم الاتحاد السوفياتي من على قصر الكرملين: رمز السلطة في روسيا، ليرتفع مكانه علم الدولة الجديدة التي ستسمى روسيا الاتحادية. في تلك الليلة البعيدة، لم يدافع أحد عن الإمبراطورية «عرّابة» الإيديولوجيا الماركسية، وخرجت الجماهير المقموعة مؤيدة انهيار الدولة العظمى. ما نريد بلوغه مع القارئ من خلال هذا الجرد للكيفية التي انتهت بها الإيديولوجيا الماركسية، عربيا وعالميا، هو أن الإيديولوجيات تموت، فيما الثورات ينسُخ بعضها بعضا...
لقد كان لسقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار النظام الاشتراكي -كنظام اقتصادي واجتماعي تتخذه كثير من الدول كمذهب اقتصادي لها- الدور الأكبر في ظهور النظام الرأسمالي كمذهب اقتصادي واجتماعي وحيد يتربع على عرش العالم. إن أبرز الأساسيات التي يقوم عليها هذا النظام هي تحقيق الحد الأقصى من الربح في ظل المنافسة التامة، بغضّ النظر عن الوسائل المستخدَمة لتحقيق ذلك، كان لها الدور الأكبر في تقسيم دول العالم إلى قسمين دول غنية -دول الشمال- تمتلك كل المقومات الاقتصادية وتهيمن على اقتصاد العالم من خلال الأدوات المالية العالمية التي هي رهينة بيدها، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك من خلال الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، والتي أغلب مقراتها ومراكزها في هذه الدول، ولكنها تستنزف خيرات الدول النامية من خلال فروعها المنتشرة هناك، والقسم الآخر هو دول فقيرة معدمة لا تملك شيئا، رغم امتلاكها الثروات الهائلة والموارد الأولية الضخمة والتي تفتقد القرار السيادي المستقل للتحكم فيها والاستفادة من عوائدها.
فبغض النظر عن مساوئ هذا العالم الجديد، فإنن المستفاد هو أن تلك الليلة أعادت إلى الذهن البشري حقائق بسيطة وساطعة يجري تناسيها من حقبة إلى أخرى، مفادها أن العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تقام إلا في مملكة الحرية واحترام الإنسان وكرامته. ومن العبث وقف حركة الوعي الاجتماعي وبلوغ المشارف الجديدة للحياة والفكر والبحث عن الأفضل، بوسائل العنف والقمع. ومن المستحيل رسم صورة جاهزة للعالم وبناء حياة المجتمع وفقا لها ورفض كل ما يخرج عن إطارها. وكما سيردد أحد العظماء نقلا عن غوته: «الحياة خضراء، أما النظرية فرمادية»...


ثورات عربية بدون إيديولوجيات
من «ثورة الأرز» في لبنان، إلى «ثورة الفل» في مصر، مروراً ب«الثورة الخضراء» في إيران و«ثورة الياسمين» في تونس، فالعالم يحبس أنفاسه، منتظراً ما ستسفر عنه هذه الثورات الشعبية، التي تطالب بالديمقراطية والحرية.
لقد حفزت تونس، تلك الدولة الصغيرة نسبياً والمستقرة المطلة على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، الموجة الحالية من الاحتجاجات المناهضة للحكومات في منطقة الشرق الأوسط. الرئيس المخلوع، زين العابدين بن عابدين، ظل يحكم تونس طيلة 32 عاماً، وكان ينظر إليها بوصفها دولة بوليسية «راسخة»...
وبعد أن أشعل بائع فاكهة يدعى محمد البوعزيزي (62 عاماً) النار في نفسه، احتجاجاً على قيام الشرطة بمصادرة عربة الفاكهة التي كان يبيع بواسطتها في الشارع لتوفير لقمة عيشه، أيقظ هذا التصرف الرمزي غضباً مكبوتاً لدى سكان البلاد في ما بات يعرف لاحقاً بين التونسيين ب«ثورة الياسمين».
وقام زين العابدين بن علي بزيارة البوعزيزي في المستشفى وعاش خريج الكلية لمدة ثلاثة أسابيع، قبل أن يقضي متأثراً بالحروق التي أصيب بها في الرابع من يناير، غير أن هذه الزيارة لم تتمكن من تهدئة الغضب في البلاد بعد عقود من الفساد وتدني مستويات المعيشة والقمع، وبعد أسابيع من الاحتجاجات، التي أسفرت عن مقتل ما يزيد على 001 شخص. وفقاً للأمم المتحدة، فرّ زين العابدين بن علي من البلاد في ال 41 من يناير.
لقد استطاعت الثورة التونسية العظيمة أن تتعدى كل الحدود والحواجز وأن تصل إلى عمق القلوب وتخلف لها صدى في كل أصقاع الدنيا وقد تحققت بَصمتُها الأولى بعد التخلص من الديكتاتور بن علي. تفجرت شرارتها في مصر العظيمة وتم إسقاط «الفرعون» مبارك وتخلص جزء من الشعب العربي، بقيادة تونس ومصر، من نظامين مستبدين في المنطقة العربية جلبت للأمة العار والدمار وتبنّت العمالة للإدارة الأمريكية وخدمت البيت الأبيض ثلاثة عقود متوالية على حساب الأمة العربية. إن التطورات العاصفة في تونس ومصر وليبيا هي ناقوس خطر للنظام السياسي العربي القائم في أكثر من دولة من دول المنطقة، النظام الذي يجعل من الاستئثار بالحكم ورفض مشاركة مكونات المجتمع أسلوبا مستديما له، وبرهنت من جديد على أن الكثير من الأنظمة هي في حاجة إلى مراجعة النفس، لبناء دولة عصرية تقوم على المؤسسات وتراعي مصالح كافة شرائح ومكونات المجتمع وتكف عن الاستئثار بالسلطة، من دون أسس قانونية وشرعية. ولم تكن الأحداث في تونس منقطعة عن الأحداث والتطورات في الشرق الأوسط، عموما، فمثَّلت هذه الميولَ تيارات تحت سطح مياه الحياة السياسية والاجتماعية، فهناك قلاقل وأعمال عنف وصمت مشحون بالاستياء والاحتجاج وقابل للتفجُّر، أيضا.
لقد أكدت التجربة التونسية أن الدولة البوليسية، ومهما كانت الأهداف التي تبرر بها وجودها ومنهجها القمعي، ليست الوسيلة الناجعة لإدارة الأمور وبناء المجتمع المدني وخلق الأجواء للتطوير المستديم وإشاعة الديمقراطية... إن وسائل المنع وملاحقة الرأي الآخر وتجاهل ميول وأمزجة المجتمع والتيارات والنزعات التي تنمو داخله وتطلعاته نحو حياة كريمة أفضل، والنظر إليه كخصم متربص بالدولة، «أسلوب» لم يعد مقبولا في عصر العولمة والانفتاح الدولي والتعددية. وهذا ما برهنت عليه نهاية حكم الرئيس التونسي ومن قبله النظام الدكتاتوري في العراق. لقد سقط «صنم» جديد، فهل ثمة صنم تال؟...
لقد تعامل النظام التونسي بقسوة وبشدة مع كافة التيارات التي لم تنضو تحت خيمته! وعادة ما تخلق هذه الأنظمة بطانات وجماعات موالية تستأثر بخيرات الدولة ومواردها وتبسط سيطرتها على مرافق الحياة، فتنشأ حالة الاغتراب بين الدولة والمجتمع وتدخل الدولة في الباب الضيق وتجعل تجنب التفجر فقط بإحداث تغييرات جوهرية في النظام السياسي. إن هزيمة النظام التونسي جاءت بسبب تجاهله إصلاح المؤسسات الفاسدة وإنعاش النظام السياسي الراكد...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.