للثورة معاني كثيرة بعدد الثورات. ومع أن مفهومها لا يزال رائجا، حتى أن لا أحد ممن تنبّأ بنهاية الحروب لم يملك أن يسحب النبوءة ذاتها على نهاية الثورات، لا يزال هذا المفهوم يبحث عن غناه المجازي في شتى الميادين ، حتى أنه بات تعبيرا عن كل تغيير. بل لعله من المفارقة أنه حتى زين العابدين بنعلي اعتبر انجازاته داخل تونس بمثابة ثورة. أما الشاه فقد سجل انجازاته في كتابه الشهير: الثورة البيضاء. الكل غدا يتحدث باسم الثورة. وقبل سنوات، كانت إحدى المنظمات في بلاد سكاندينافية قد اختارت عنوانا لتنظيمها: جبهة المثليين: الحركة الثورية. فقدت الثورة كل معناها الطهراني ، فأصبحت لغة الكازينوهات والقمار والصناعة الجنسية (هناك حديث عن الثورة الجنسية). الكل يريد أن يسجل موقفه الثوري الذي يعني الغلب والانقلاب. فالثورات التي تريد أن تستغل كل القيم من أجل أن تعيد إلى الواجهة أقواما لا يختلفون في الثقافة السياسية أو في النزعة العصبية أو الانتقام هي من جنس ثورات العبيد في مفهومها النتشي. حاولت حنة ارندت أن تعيدنا إلى المعني العذري للثورة الذي يعني النظام وتأبيد الدوران بوصفها مفهوما فلكيا. فهذا مغزى الثورة الفلكية عند كوبرنيك حيث لا تعني أكثر من التأكيد على وجود انتظام في الحركة الكونية. وقد خرج مفهوم الثورة من مجاله الفلكي إلى المجال السياسي مجازا ليأخذ معنى مختلفا بل نقيضا تماما لمعناه الحقيقي. فالثورة هنا في مجالها السياسي تعني الرجوع إلى وضعية مختلفة وتغيير لوضع قائم. ولا قيمة لهذا النقاش الاشتقاقي إذ في النتيجة لا قيمة إلا للتداولي في الأسماء. والمعنى الذي اكتسبه مصطلح ثورة يغنينا عن كل هذا. لقد سمّى العالم ما حدث يوما في إيران ثورة. غير أن إيران وحدها من لا يستعمل عبارة ثورة في وصف ما حدث داخل مجتمعها. يتحدث الإيرانيون عن الانقلاب. وعليك أن تقرأ القاف غينا حتى يكون نطقك إيرانيا مائة بالمائة. ولو كتبناها كما تقرأ لأسباب فيزيولوجية بحتة : إنغلاب ، لكان للأمر مدلول صحيح . إن الثورة في نهاية المطاف هي غلب وانغلاب وتغالب. والإيرانيون لا يسمون الانقلاب انقلابا بل يسمونه كو ديتا(coup d etat)؛ وهي من الألفاظ الفرنسية الدخيلة على اللسان الفارسي. في إيران تسمى الثورة انغلاب، والانقلاب يسمى كو ديتا. لم تخرج الثورة في إيران من مدلولها الفلكي الحقيقي إلى عالم السياسة. لقد عبّروا عنها تعبيرا عربيا مختلفا عن الثورة، لكنه يحمل معنى أكثر تواضعا من شعار الثورة الرائج عندنا في العالم العربي مع أننا لم ننجز حتى اليوم ثورة محترمة.ثمة فصل آخر من التطورات في المنطقة العربية يستدعي بعض التّأمّل. من السودان حتى تونس مرورا بفلسطين والقاهرة وبيروت...جميعهم في الهمّ عرب. الجديد هنا أن المشهد العربي بات يستعيد معناه. فالعدمية والفوضوية التي دمغت مختلف آراء المحللين للوضع العربي تصطدم اليوم بوقائع جديدة كلها تؤكد على أننا أمام أمر ما معجز. لا شيء من هذا المعنى فهم على أنه حتمية اجتماع عربي يخضع هو الآخر وإن ببطء شديد لقانون التطور. فما حققته المقاومة اللبنانية والفلسطينية نظر إليه كما لو كان نصرا معجزا. وثورة الياسمين في تونس اعتبرت كذلك معجزة. لا شيء ينظر إليه في المشهد العربي على أنه حصيلة فعل ونشاط وصيرورة ولعبة. ومع ذلك يتأكد بالملموس أن للعرب أيّامهم مثل ما للمجتمعات الأخرى أيامها. خسرنا أرضا بحجم ثلث السودان وربحنا ثورة برائحة الياسمين.. خسرنا سلطة فلسطينية باتت أخبارها لا تسرّ في الويكيليكس وربحنا مقاومة..وحتى الآن يبدو أن ثمة معنى؛ فأن نخسر من جانب ونربح من جانب آخر ، أفضل من أن نخسر كل شيء وننهزم آخر هزيمة. ذكروا أن مصيبة الأمم تبدأ من معضلة الاستبداد. وكثيرون اعتبروا أن ذلك مجرد اختزال. ومعهم الحق! لكن كيف تقنع من جرب الاستبداد وعاش أهواله اليومية. نسأل الكواكبي فيعطينا الدليل القاطع بما معناه ، أن الاستبداد هو أم المصائب في حياة الأمم. وهذا صحيح إذا وسعنا من المعنى. فالشعوب نفسها التي تصنع الاستبداد ولا ترقى إلى أن تكون في مستوى الحرية والديمقراطية، هي أم المصائب. فالمستبد لا ينزل من السماء حتى وإن جاء أو جاؤوا به على ظهر دبابة. المستبد يتغذى على الثقافة السياسية للشعب. إذا تطور الشعب لم يعد لوجود الاستبداد من مبرر : فإما أن ينسحب أو يبادر القائد بنفسه إلى تحقيق ثورة الياسمين أو يعاند فتكون الحصيلة دموية ، ويستدعي الأمر احتلالا واستعمار وحروبا أهلية. الثابت في المعادلة أن الاستبداد لا يدوم إلا بوجود القابلية للاستبداد. أي وجود ثقافة الاستبداد من المجتمع. حينما وجد الرئيس السوداني نفسه مطوقا بالقرار الدولي ، أعطى رشوة من السيادة القومية ، فقبل باستفتاء معلوم النتائج ، فكانت الجائزة الكبرى: تمجيد الموقف التاريخي للسيد رئيس السودان ؛ البلد الذي حباه الله بثروات حلمنا نحن العرب حينما قيل لنا ذات مرة أنه سلة العرب ، قبل أن نفيق على فظاعة سودان لم يتحول إلى سلة لشعبه ولا يزال معرضا للخطر. مرة أخرى: الاستبداد يأتي بالاستعمار ويخرق السيادة. لقد عملت جميع الأسباب الموضوعية واللاواعية لتحقيق التخارج التاريخي لبنية مأزومة . وهي الشروط التي طالما تحدثنا عنها في التبني الحضاري والتجديد الجذري ، حيث ما يعتمل في اللاوعي يؤهل البنية لانتخاب التوقيت المناسب لمخرجات الأزمة . إننا لا نستطيع أن نتنبأ دائما بما يعتمل في القاع اللاوعي للبنى الاجتماعية . وحينما ترشح البنية نفسها للمخرج التاريخي فإن أقل حدث يمكن أن يصنع الحل. لهذا تحديدا استطاعت انتفاضة عفوية في الشارع لم يكن الهدف منها إسقاط الديكتاتور، أن تحقق كل هذا الانجاز، بعد أن تفجرت بنية السلطة المتعفنة في تونس ، بينما خمسة أشخاص في الجزائر يحرقون أنفسهم لم يغيروا من الواقع الموضوعي أي شيء. وحتى تونس التي شهدت انتفاضة الخبز في ثمانينيات القرن الماضي، لم تكن لتجد طريقها إلى الحل. إن الشرط الموضوعي المعتمل في اللاوعي العميق للبنى الفاعلة والمنفعلة يخلق المعجزة ولا تستطيع أي قوة على الأرض أن توقفه دون أن يضطر الناس إلى فعل شيء خارق. ففي زمن موسوم بنهاية الثورات ، استطاع هذا الشعب أن يحقق ثورته كما لو كان في حلم. ما تحدثنا عنه في التبني الحضاري والتجديد الجذري من بؤس فكرة استعادة تبني النماذج واستنساخها والتنقيب عن الخلل بطريقة ميكانيكية له مصاديق في تجارب الأمم أكثر مما يوجد في الأفكار الثورية. ثورة تونس هي أحد مصاديق هذا المنظور، بل لعل الشاعر الذي عبّر عن ذلك خير تعبير هو الشابي لما قال: إذا الشعب يوما أراد الحياة... فلا بد أن يستجيب القدر ولا أحد يعرف ما هي لغة القدر ولا توقيته. فليس للشعب سوى أن يعمل وللبنى الفاعلة والمتفاعلة واسع النظر. فهذا الذي اعتبر معجزة غير متوقعة وحار فيه الزعماء الذين جاؤوا بعد وقوع الحدث ليركبوا ثورة أصبح الشعب فيها قائدا بينما غدت القيادات في ذيل هذا الحراك الثوري الجماعي. أجل ، لقد هرب بنعلي وبقي أعوانه على رأس النظام ولا زالت ثورة الشعب التونسي تفوح برائحة الياسمين. من الناحية المبدئية كانت تلك ساعة الصفر غير متوقعة من الشعب ومن العالم. لم تكن متوقعة ، لأن البوعزيزي الذي حرق نفسه احتجاجا ضد انتهاك كرامته ، لم يكن يتوقع أنه سيغير نظاما ويصنع ثورة. والدليل على ذلك أن عددا كبيرا من المصريين حرقوا أنفسهم كما فعل جزائريون ولم يحدث ما حدث في تونس. ولو كان يملك شيئا من ذلك الأمل ربما ما جرأ على ذلك ، لكي يعيش نتائج الثورة. ولو كان يدرك أن أثرياء من الخليج مستعدون لشراء عربته التي حمل عليها البصل في المزاد العلني ، لكان وفر على نفسه حرق نفسه. الذين يحرقون أنفسهم بهذا الشكل يكونون في ذروة اليأس. وكان البوعزيزي الحرّ البطل عنوانا لهذا اليأس. لم تكن ثورة الياسمين متوقعة ، لأن الشعب التونسي قبل غيره يدرك أن انتفاضات سابقة في تونس كالتي حدثت في بداية الثمانيينات كانت غاضبة عارمة لكنها لم تحقق نجاحا. وكانت غير متوقعة لأن الشعب التونسي قبل غيره يدرك أن لحظة هروب الطاغية يسبقها زلزال من القمع ضد الثورات . وحتما لم يكن بنعلي كريما ومتسامحا مع الشعب حينما فرّ فرار الحمر المستوحشة دون أن يثخن في قمع الثورة. وكانت غير متوقعة لأن الشعب التونسي قبل غيره لن يصدق بسهولة أن الجيش سيرفض قمع الشعب لأن هذا الأخير بالنتيجة لم يتربّ في كنف الديمقراطية ولا سمح له بنعلي بأن يكون جيشا مناضلا على طريقة الضباط الأحرار، ولا كان يقوده سوار الذهب. ولم يكن الشعب يتوقعها لأن لا أحد مقتنع بأن نظاما كنظام بنعلي ترعاه واشنطن وإسرائيل وفرنسا، يمكن أن يسلم السلطة بهذه الصورة المزرية. الدرس التونسي، مهم، وأهميته تكمن في أن لا زهد في الانفتاح السياسي. فبضعة أرقام في حسابات التنمية الهشة لا تغني عن الانفتاح السياسي الذي يحصن الدول من الثورات حتى مع تراجع أرقام التنمية. درس تونس ليس للشعوب بل للنظم والدول بأن تدرك بأن نموذج صدام وبنعلي الكابتين للأنفاس يصنع احتقانات تجعل ساعة الصفر للثورة مسألة وقت ليس إلاّ. وأهمية هذا الدرس تكمن في أن الدول الكبرى راعية الاستبداد لا تحتفظ بعواطف نبيلة تجاه الزعيم حينما يصبح بلا مأوى. فقد تخلت أمريكا عن الشاه كما تخلّت عن صدّام ، كما تخلت عن بنعلي كما ستتخلّى عن أي طاغية هارب. اليوم يصنع الشعب التونسي ثورته في محيط عارم من التآمر والتربص بثورته. وهنا وجب أن يحذر الشعب التونسي من كل الدروس التي جاءته في الوقت بدل الضائع بعد أن حقق ثورته من دون منّة من أحد. فلقد كان العالم جميعه صديقا لنظام بنعلي. وقد تجاهلت فرنسا وأوربا وأمريكا والنظم العربية معاناة هذا الشعب المعذّب. اليوم لا أمريكا ولا القرضاوي يصلح أن يركب هذه الثورة النظيفة التي يتسابق عليها أهل النفوذ. نستطيع أن نتحدث عن الثورة برومانسية كبيرة. والشعر يستطيع أن يقول في الثورة ما يصح وما لا يصح. لكننا في العالم العربي عشنا أوضاعا وتطورات تتطلب منّا أن نقرأ أحوالنا بقليل من الشعر وبكثير من الوعي. ثورة تونس حدثت في سياق دولي وإقليمي تتحكم به شروط وقواعد لعبية دقيقة. أما الشعب فقد قال كلمته في الديكتاتور بعد أعوام قليلة من انقلاب بنعلي على الرئيس المريض الأسبق. لكن ما الذي جعل ثورة تنجح من دون أن يكون الشعب مقتنعا بأن هذا الحد من التظاهر يكفي لإسقاط نظام بحجم ديكتاتورية بنعلي. الشعب أراد دائما أن تسقط الديكتاتورية. لكن أمريكا التي دعمت بنعلي خلال كل هذه السنوات هي الأخرى رفعت يدها عن هذا النظام. نستطيع أن نؤكد على أن الخطر يأتي على الثورة التونسية ليس من أن أمريكا لا تريد ذهاب بنعلي بل يأتي من حيث أنها تريد أن توقف خيار الشعب التونسي في منتصف الطريق و لأنها تريد تأبيد الحكومة الانتقالية. إنها تفسد ثورة لم تحقق كامل مطالبها. وإذا كان لا أحد استطاع أن يقمع هذه الثورة في شوطها الأول ، فستعلمك الأيام بأن قمع التظاهرات سيبدأ مباشرة بعد رحيل بايدن الذي زار الحكومة الانتقالية وأجرى معها محادثات خاصة. الشوط الثاني للثورة سيكون دمويّا لأنه سيتلقّى تعليمات من واشنطن بقمع الثورة. إن ثورة الشعب التونسي هي ثورة الشوط الثاني ، وهي امتحانه الكبير. لكي نفهم قليلا ما يجري خارج قوالب الشعر وداء الرومانسية القاتل للثورات ، يجب أن نتذكر بأن مجيء أوباما إلى البيت الأبيض ، كان إيذانا بإقرار استراتيجيا جديدة للولايات المتحدةالأمريكية. فهي في سياق إعادة تصحيح صورتها عند العرب، تحاول أن تفك الخناق عن هذه الشعوب والتموقف إلى جانبها ضد قمع الديكتاتورية الفاسدة. لن تدافع أمريكا عن الديكتاتورية العربية حينما تبلغ هذه الأخيرة ذروتها. وستضطر إلى التضحية بأسماء ضعيفة لتوحي بأنها بالفعل دولة راعية لثورات الياسمين. لم يجر الحديث عن ثورات في عهد جورج بوش ، لكننا في عهد أوباما نتحدث عن قلاقل عربية وشيكة: في الأردن وفي مصر وفي اليمن وفي الجزائر وفي تونس ... لا يعني هذا أن أمريكا تصنع ثورات العرب ، ولكنها ترفع أيديها قليلا عن بعض الديكتاتوريات دون أن تسمح لهذه الثورات سوى باستبدالات خفيفة وممسرحة كما يحدث اليوم حينما حاولت أمريكا تكريس الحكومة الانتقالية برئاسة محمد الغنوشي. وستجد أطرافا كثيرة تمجد هذه الثورة بكرم إعلامي حاتمي كما تفعل الجزيرة هذه الأيام مع تونس والسلطة الفلسطينية ، حيث تأكل القطة لسانها حينما يتعلق الأمر بتظاهرات أخرى تقع في الجزائر أو أي بلد آخر. ما يثير التساؤل حقا أنه في عرف وتاريخ الثورات حينما يفكر الزعيم في الهروب ، فإن بطانته تفكر في الهروب معه أو حتى قبله. ما حدث في تونس أن كل ذيول النظام وأعوانه امتلكوا الشجاعة لسرقة ثورة الشعب التونسي. هل حقا كان الجيش وطنيا وثوريا ومحايدا أم أن الأمر يتعلق بتعليمات خاصة؟ما الذي جرّأهم على ذلك ، وهل ثمة تعليمات وتطمينات خاصة؟ لا شك أن ثمة تعليمات بالتمسّك بالسلطة . ما يحدث في تونس هو أن ثمة خطة لقطع الطريق على ثورة الشعب. هناك من يريد أن يتقاسم فوائد الثورة بالنصف مع الشعب التونسي. ما الفرق بين نظام بنعلي ونظام صدام حسين؟ الموقف الثوري الحقيقي غير قابل للتجزيء. نستطيع الوقوف على هذا الفرق داخل خيمياء الخطاب الديماغوجي لكثير من صناع المغالطة في مشهدنا العربي ، من أولئك الذين برّؤوا صدام من كل جريمة ضد الشعب بينما صوّروا بنعلي وكأنه أبو الديكتاتورية. وهكذا منحوا صك غفران لصدام ولم يمنحوه لبنعلي ، لأن هذا الأخير لم يكن يجيد العزف على خطاب القومية العربية ولم يملك صواريخ تبلغ تل أبيب ليغير الحكاية لصالحه. لهؤلاء في مشهدنا مذهبان في الثورة: هناك ديكتاتورية تروقنا حتى لو صنعت الأنفال وحلبجة والدجيل ومنعت التعددية الحزبية وحرية التعبير وأخرى لا تروقنا لأنها ضعيفة ولا تقدم كوبونات ولا ترهب ولا ترغّب. واسألوا القرضاوي وحده يملك أن يميز بين هذين النوعين من الديكتاتورية واسألوا بعضا من تلامذته الأغبياء حينما قالوا لابن علي : إلى الجحيم ، وقالوا لصدام: إلى الجنّة. لا تحتاج واشنطن إلى شنّ حرب على تونس لتغيير النظام ، لأن مثل هذا لم يعد يشكل جزء من خطتها بعد المأزق الذي واجهته قواتها في العراق وأفغانستان. وقبل كل شيء لا قيمة لتونس من الناحية الجيوستراتيجية ولا يوجد فيها ما يغري من النفط فضلا عن أنها لا توجد في قلب الشرق الأوسط والخليج. وما يغري المحلل السياسي من هذه المقارنة هو الطريقة التي ظهر عليها النفاق العربي حيال نهاية طاغيتين. نحن ضد الثورات التي تضع مصير البلاد أمام الاستباحة الخارجية. لكن ثمة لونا من الديكتاتورية لا يسمح بقول: آه. هذا اللون من الديكتاتورية العارية والتوتاليتارية لا مخرج منه إلا بثورة عارمة اكتملت شروطها الموضوعية التي تجعلها غير قابلة للاستنساخ والتصدير . لأن شرائط الثورة تجعلها أبعد من أن تكون مصبرات للتصدير أو احتلال يرغم الطاغية على الرحيل. حدث هذا مرة في العراق التي كنا نتمنى لو وجد في جدار الديكتاتورية ثقبا واحدا لتحقق إرادة الشعب ، لكن ثمة قانونا آخر يرى أن مصير الديكتاتور هو الزوال بثورة أو باحتلال، وله الاختيار إما أن يقول مثل بنعلي: فهمتكم ، أو يطلق سيقانه للريح أو يصر على الطغيان فيكون مصيره مصير صدام. لم يسمع العرب بانتفاضات العراقيين قبل الاحتلال ، لأن الإعلام لم يكن معهم مثلما هو أعلام الجزيرة اليوم مع الثورة التونسية بعد أن استيقنوا بأن ثمة سكوتا دوليا عن زوال بنعلي. هذا الأخير الذي لا يقاس بصدام في جودة الاستبداد وقوة قمعه. لم يكن بنعلي يملك عناد صدام على التحدي أو لعله فهم أن بقاءه في تونس سيقوده إلى إحدى الحفر. كان بنعلي أذكى وأضعف من صدام حسين. لم يكن بنعلي يملك أن يملأ جيوب الكثير من الانتهازيين العرب سياسيين ومثقفين بالمال مثلما فعل ديكتاتور العراق الذي ملأ جيوبهم بكوبونات الشعب العراقي. قتل صدام من الشعب العراقي ليالي معدودة ما لم يقتله زين العابدين بنعلي في كل تاريخه القمعي. ومع ذلك لم نسمع من القرضاوي أو من الجزيرة بكاء على مظلومية هذا الشعب، قبل الاحتلال وأثناء الاحتلال. ماذا لو خرج الناس في العراق زمن الطاغية مثلما خرجوا في تونس، أكان الديكتاتور العراقي سيفر إلى إحدى العواصم العربية أم أنه سيرسل أمرا مصحوبا بقهقة لاستعمال الأسلحة الكيماوية ضد الشعب حتى لو خرج كل الشعب ، مثلما فعل في عملية الأنفال وحلبجة وأثناء قمع انتفاضة شعبان أو الدجيل. ما حدث في انتفاضة شعبان بالعراق لم يحدث في أي بلد عربي آخر ، لكن الطاغية الذي سمح له الاحتلال باستعمال الطائرات لتدمير الشعب ، استطاع أن يستعمل كل الأسلحة الفتاكة في وجه المواطنين العزّل. وإذا كان بنعلي كذب على الشعب حينما حضرته حكمة دوغول في وقت متأخر: فهمتكم ، فإنه صدق مرة واحدة فقط شعبه حينما استقل طائرته الخاصة ليغادر البلاد. لقد هرب وترك وراءه عصابة من أمنه الخاص تعيث فسادا في البلاد نهبا وتخريبا وانتقاما من المواطنين. إن سبب إيرادنا لهذه المقارنة هو إصرارنا على فضح النفاق السياسي والإعلامي والديني والثوروي في مشهدنا العربي.وتحريضا منّا على امتلاك الوعي باللعبة الإعلامية نفسها إزاء تطورات الأحداث. الحديث عن المقارنة بين صدام وبنعلي تدفعنا للتساؤل : كيف نطمئن إلى إعلامنا وهو يحدثنا عن انتصاره لقضايا الشعوب والثورات وسائر القضايا العادلة. ما الذي جرّأ شيخا مثل القرضاوي على أن يقدّم نفسه عبر شاشة الجزيرة إلى الأب الروحي لثورة شعب ثار على حين غفلة من الزعامات السياسية؟؟ وحتى اليوم لم نستطع أن ننتزع من القرضاوي كلاما عن صدام حسين في عزّ عمالته للأمريكان في حرب الخليج الأولى وفي عز ديكتاتوريته. هل لأنّ جدار بنعلي أقصر من جدار صدام حسين؟ لماذا يتحدث القرضاوي عن أن سقوط صدام سيجعل الحرب الأهلية في العراق بينما تحريضه المستمر على الثورة التونسية لن يسبب حربا أهلية؟ لماذا سخر القرضاوي من توبة بنعلي حينما قال : فهمتكم .. ودان من لم تقنعه توبة صدام واعتبر أنه تغيّر في أواخر عمره ، تغيّرا لم يفهمه الشعب العراقي مثلما فهمه القرضاوي. لقد احتار القرضاوي بشأن الحكم الشرعي في إقدام البوعزيزي على حرق نفسه. فالشيخ الذي أعجب بعظمة هذه الثورة لم يمنح صكّا فتوائيا لصالح الوسيلة التي قادت الشعب للثورة. ولكن خشية من الحرج ، دبّر لها تخريجة لا تمتّ إلى الفقه إلاّ بصلة المزاجية المفرطة. فقد تراءى له أن الحكم بالحرمة يكون قبل حدوث الأمر ، أما وقد وقع فنسأل الله له المغفرة. البوعزيزي في نظر الشيخ ليس شهيدا. لكن الثورة العظيمة التي فجرها موقفه الفدائي هي عظيمة ولا شك. وكل ما يستحق البوعزيزي مغفرة " وبس" ثم يجب أن ينسى التاريخ البوعزيزي ويحتفظ فقط بخطب القرضاوي التي جاءت بعد أن تفجرت الثورة ، لكنه مصرّ على الزعم بأن الشعب التونسي كان يعيش على إيقاع خطب القرضاوي في محاولة عجيبة للدعاية لنفسه . يسعى القرضاوي أن يكرس أبويته على الثورة التونسية . وهي الأبوية التي لم يستطع أن يكرسها حتى الشيخ راشد الغنوشي الذي قضى جزء من عمره في المنفى. ويسعى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يمهد الطريق بهذه الأبوية لعضو مجلس أمناء الاتحاد الذي يرأسه أي الغنوشي في لعبة توزيع أدوار مكشوفة. لكن القرضاوي لم يستطع أن يتدخل لصالح الغنوشي إلى النظام التونسي حينما حضر بدعوة رسمية من نظام بنعلي إلى حفل إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف وإعطاء إشارة انطلاق برنامج "القيروان عاصمة للثقافة الإسلامية 2009" بمدينة القيروانالتونسية بعد أن كانت له زيارة أخرى لتونس عام 2007 . لكنه مدح في إنجازات النظام معبرا عن أمله في أن تستعيد القيروانالتونسية مكانتها كمنارة إسلامية في أفريقيا ومنطقة الغرب الإسلامي، معتبرا حينها أن الإسلام يلقى رعاية طيبة في البلاد مشيدا بإذاعة الزيتونة للقرآن الكريم التي أنشأها نظام بنعلي. وهو إذ لم يتدخّل للشيخ راشد الغنوشي مع نظام كان يقدم له دعوات لحضور مهرجانات بتونس ، لم يقدم له خدمة للحياة إلى جانبه ليس في الاتحاد الافتراضي لعلماء المسلمين وإنما إلى جانبه في قطر ، لينعم بما ينعم به الزعيم الروحي الجديد للثورة التونسية!؟؟؟ يبدو أن القرضاوي الذي يكفر بكل البلاطات، كان أذكى من علماء البلاط جميعا ، لأنه آمن ببلاط أميري واحد واستقوى به على سائر البلاطات. ويبقى أن نتحدث مرّة أخرى عن الجزيرة للإنصاف، فيما لو كانت متواطئة متآمرة أم أن الأمر يتعلق بحكاية أخرى. مبدئيا لا يوجد عاقل ينطلي عليه وضع الإعلام العربي، بل مجمل الإعلام الدولي. فحينما تدافع الجزيرة عن نفسها بأنها موضوعية ومهنية ، تورط نفسها في خطاب لا يليق بمؤسسة إعلامية يجب أن تتحلى بصراحة أكبر لتقول إننا نتمتع بقدرة هائلة على تدبير اللاّمهنية واللاّموضوعية. ليس لأنها وحدها مدانة باللاّمهنية بل هذا واقع سائر الإعلام العربي وغير العربي. الجزيرة هي أفضل قناة عربية إعلامية بكل المقاييس ، لكن يوجد في فوضاها الكثير مما يستفيده المشاهد العربي. اعتبرت الجزيرة نفسها دائما مكسبا كبيرا لقطر. فهي التي أعادت رسم خريطة النفوذ السياسي لقطر بعد أن لم تذكر في ميزان القوة. هذا أمر يتطلب اعترافا بقدرة هذه الجزيرة على النجاح وإتقان اللعب مع الكبار. الذين يريدون للجزيرة أن تسقط إنما يريدون لقطر أن تعود إلى مراتب الدول المهملة. لقد صرفت هذه الإمارة على هذا المنجز الإعلامي ما ظنّ به الكثير من الدول العربية على إعلامها. قطر لاعب كبير بقامة قصيرة. وهنا استطاعت قطر أن تنجز صناعة إعلامية بجودة عالمية بفريق تتشكل أغلبيته من خارج قطر. هذا فريق مؤلف من محترفين لكنه غير متجانس. فالجزيرة تستوعب كل التيارات العربية ونقائضها؛ ففيها الإسلاميون وفيها القوميون واليسار.. وفي كل من هذه التيارات فروع وألوان وأشكال. فمن الإسلاميين يوجد في الجزيرة إعلاميون من الإخوان المسلمين والطلائع وحركة النهضة ، كما فيها بعثيون وناصريون . ففي مثل هذا الفريق الذي يجمع جميع المحترفين ، قد تأتي الكارثة من أن كل لاعب يريد أن يلفت الأنظار إلى مهاراته الشخصية والجميع يريد أن يسجل إصابة على طريقته ، لا يوجد تناغم في اللعبة ومن هنا تأتي الكارثة المهنية. إن جودة الصناعة الإعلامية من الناحية التقنية في الجزيرة وكذا احترافية إعلامييها العالية وشحنة الحرية التي يحظى بها خطابها الإعلامي الخارجي، تخفي الخلل المهني الذي يبلغ عندها الذروة. أداء الجزيرة في تونس مهمّ لكنه ليس بريئ على الأقل بالنسبة لأولئك الذين يخرقون هذه الإمبراطورية الإعلامية. نؤكد مرة أخرى أن ثورة تونس لا زالت في شوطها الأول. والخطر محدق من كل الجهات. هي ثورة تحرر وحرية. فالثورات تتعرض لخطر الشطط والانجراف والفوضوية. ويحدثنا باكونين صادقا بأننا لو أخذنا أكثر الثوريين تطرفا ووضعناه على عرش عموم روسيا أو منحناه سلطة ديكتاتورية ، فسيكون قبل مرور عام واحد أسوأ من القيصر نفسه. وفي تقديري أن لا شيء من آفات الثورات يوجد اليوم في ثورة التوانسة. فلا هي ثورة فوضوية ولا هي ثورة غوغاء. لقد تعلم الشعب التونسي من سنوات القمع أن أفضل بديل لهذا الشعب هو التعددية والديمقراطية والسلم المجتمعي. وهذا هو خيار التيارات جميعها اليوم في تونس بدء من الشيوعيين حتى حزب النهضة. وهنا لا مجال للإقصاء والتشكيك ، فالشيوعيون بالأمس لم يكونوا يجدون عن ثورة العمال وديكتاتورية الحزب الواحد بديلا كما لم تجد حركة النهضة عن الخلافة الإسلامية بديلا؛ لكن اليوم كل شيء تغيّر والجميع تعلّم من درس الديكتاتورية أن لا حلّ إلا بدولة التعددية والحريات. وحركة النهضة الإسلامية تحمل اليوم تصورا سياسيا متقدما بالمقارنة مع كل التيارات الإسلامية في المغرب العربي. لا أحد يقصي أحد. وعلى التونسيين أن يحذروا قراصنة الثورة وشطط الثورة وعصاب الوعي الشقي. ولا مجال للانشغال بما ستمثله الثورة التونسية من نموذج صالح للمجتمعات العربية ؛ فلقد اختار بن علي أن لا يسمع ولا يرى وأن يمضي في لعبة البولسة حتى آخر أشواطها : لقد دفع ثمن تميّزه في جودة الاستبداد كما فعل صدّام يوما ، وإن كان أمثال القرضاوي يحرفون الكلم عن مواضعه فيعتبرون صدام تائبا إلى الله وماضيا إلى الجنة وبنعلي طاغوتا وصنما مآله الجحيم : بينما الله والتاريخ والعقل قالوا أن الديكتاتورية ملّة واحدة ، ولا تتميّز إلاّ داخل رؤوس المنافقين.