الموت يفجع الفنانة المصرية مي عزالدين    وسيط المملكة يستضيف لأول مرة اجتماعات مجلس إدارة المعهد الدولي للأمبودسمان    قلق متزايد بشأن مصير الكاتب بوعلام صنصال بعد توقيفه في الجزائر    عندما تتطاول الظلال على الأهرام: عبث تنظيم الصحافة الرياضية        طقس السبت.. بارد في المرتفعات وهبات ريال قوية بالجنوب وسوس    كيوسك السبت | تقرير يكشف تعرض 4535 امرأة للعنف خلال سنة واحدة فقط    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    غارات إسرائيلية تخلف 19 قتيلا في غزة    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    موتسيبي يتوقع نجاح "كان السيدات"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !        الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نزاع الصحراء مع الدكتور محمد المدلاوي المنبهي
نشر في هسبريس يوم 22 - 11 - 2010

الأطراف الجوهرية في نزاع الصحراء، وجدليةُ مسيرتي التغيير السياسي واستكمال الوحدة الترابية
ورقة تعريفية بالضيف: الدكتور محمد المدلاوي المنبهي
-الدكتور محمد المدلاوي أستاذ جامعي وباحث مرموق في مجال اللسانيات والموسيقى ومقارنة الأديان.
-درّس التاريخ والجغرافيا في الثانوي ثم فقه اللغة، فاللسانيات فاللغة العبرانية بكلية الآداب بوجدة
- شغل منصب نائب عميد في النصف الأخير من التسعينات.
- انتمى عدة مرات إلى "المركز الوطني للبحث العلمي" بباريس الذي مول إنجاز كل أعماله في اللسانيات مع اللساني الفرنسي François Dell مما نشر لهما على طول 25 سنة ما بين كتب ومقالات
. شغل منصب مدير أبحاث، مسئول عن و"حدة البحث في المعجم" بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية منذ تأسيسه إلى أن غادره في صيف 2006.
-يحاضر دوريا في كثير من الجامعات الأجنبية بأوروبا وأمريكا، وهو من المساهمين في موسوعة (Dictionnaire des langues, PUF) وموسوعة (Encyclopedia of Jews in the Islamic World, Brill).
-نشر باللغة العربية والفرنسية والإنجليزبة العديد من الكتب وعددا من الأبحاث في مجلات علمية دولية محكمة أغلبها أنجلوفونية.
- أحدث كتبه مما نشر بالمغرب "Timssdsit, la comédie berbère 2008" و"مقامات في اللغات والعقليات، الهوية والتحديث ما بين التذكير والتأنيث 2010".
- هو أحد الباحثين غزيري الإنتاج على الساحة العلمية والثقافية.
-كتب العديد من الأبحاث والمقالات في موضوع الصحراء المغربية. ومن إسهاماته في باب المقالة الصحفية مدونته الإليكترونية OrBinah، وموقعه الفرعي بجريدة "الحوار المتمدن" الإليكتروينة باسم "محمد المدلاوي المنبهي"؛
- حاليا كاتب عمود "مساءلة البداهة" في جريدة "العلم". ويعمل الآن كباحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي بجامعة محمد الخامس-السويسي مسؤول عن فريق البحث Géopolitique, Identité et Migration.
في ما يلي نص الحوار :
بعد مرور 35 عاما على افتعال مشكل الصحراء، وبعد كل المفاوضات العسيرة، اتضح في نهاية المطاف أن الجزائر هي التي يجب أن تكون المفاوَض الرئيسي في الملف. كيف تنظرون إلى الزاوية التي ينبغي منها الدخول في مفاوضات مباشرة مع الجزائر؟
منذ ظهور الوجه الجديد الذي اتخذته قضية الصحراء قبيل وبعد المسيرة الخصراء، أي بعد فترة نهاية الخمسينات (مثلا، معركة أيكوفيون لجيش التحرير المغربي في مواجهة التحالف الفرنسي الإسباني)، وفترة استرداد طرفاية (1958) ثم سيدي إفني (1969) عبر مفاوضات مغربية إسبانية، بما تخلل تلك الفترة من طرح المغرب لقضية بقية أراضيه الصحرواية على الأمم المتحدة، أصبحت الجزائر هي الطرف الجيوسياسي والعسكري الأساسي في القضية بعد أن كانت إسبانيا، التي ما تزال رقما مهما في القضية من خلال سياستها الإقليمية، وهو شيء يتعين ألا يغيب عن الأذهان؛ ولكن الجزائر ليست الطرف البشري والسياسي الأساسي. إن الطرف البشري والسياسي الأساسي في هذه القضية بوجهها الجديد المشار إليه هم الصحراويون بهيئاتهم الاجتماعية والقبلية وكذا السياسية الموزعة اليوم ما بين النسيج الحزبي المعترف به رسميا في المغرب وبين الحركة الثورية، السبيعنية المولد (الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، البوليساريو)، التي تطورت، في الظروف التي يتذكرها البعض، إلى كيان سياسي وإداري وعسكري محتضَن بالأراضي الجزائرية منذ أن أعلن السيد "ولد زيو"، في "بير لحلو" حسب تغطية التلفزة الجزائرية حينئذ، عن قيام "الجمهورية العربية الصحرواية الديموقراطية"، وذلك بصفته رئيس ما سمي ب"المجلس الوطني الصحراوي" وكان ذلك لأقل من 24 ساعة على إنزال العلم الإسباني من البنايات الرسمية لمدينة العيون ليحل محله العلم المغربي، وذلك على أساس ألا يكون هناك فراغ مؤسسي للشرعية في اعتبارات من أعلنوا تلك الجمهورية التي صيغت تسميتها الرسمية على قياس "الجمهورية الجزائرية الديموقراطية والشعبية" مع الاستغناء عن لقب "الشعبية" تخفيفا لأنه متضمَّن في تسمية التنظيم السياسي (الجبهة الشعبية ...)، ومع إضافة لقب "العربية" إرضاء ل"الجمهورية العربية الليبية" التي كانت حينئذ ما تزال على الخط بقوة، باعتبارها المحتضن اللوجيستيكي الأول في الفترة التي كانت فيها الجزائر تنتظر استواء موجة المدّ الجديد لكي تضع عليها سفينتها الجيوسياسية بشكل نهائي بعد كل مناوراتها السابقة، من اتفاقية إيفران (1972)، إلى تصريحات هواري بومدين المطمئنة في مؤتمر القمة العربية بالرباط (اكتوبر 1974)، وإلى تنصيبها لنفسها بمحكمة العدل الدولية كطرف معني للدفاع عن "تقرير المصير" من مجرد باب "الوفاء لمبادئ الثورة الجزائرية".
هكذا إذن، ينبغي في أيّ معالجة عقلانية لملف الصحراء، بالوجه الذي انتهى إليه اليوم، الاعترافُ المتبصر والواضح بهذين الطرفين، والتمييز بينهما في نفس الوقت، سواء في تقدير وزن كل طرف منهما على جميع المستويات، أم في تحديد الطرف الجوهري منهما بالقياس إلى الطرف الانتهازي الراكب على موجة ما هو جوهري.
كيف ذلك؟ هل من مزيدِ تفصيلٍ لهذه النقطة؟
إني أذكّر من خلال تلك الإشارة إلى ظروف تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب (PoLiSaRio = Frente Popular de Liberacion de Saguia al Hamra y Rio de Oro). تلك الظروف التي كنت قد فصّلت بشأنها القول في مقال لي بعنوان "من هو الطرف الجوهري الثاني في قضية الصحراء؟"، نُشر عدة مرات بعناوين متقاربة. (1) تلك الظروف التي كانت مندرجة في إطار التقلبات السياسية العنيفة التي عرفها المغرب في مستهل السبعينات في ارتباط لكافة قواه، في الحكم وفي المعارضة، بمختلف مراكز وبؤر الحرب الباردة على الصعيدين الإقليمي والعالمي بين المعسكرين: الثوري/التحرري/الاشتراكي من جهة، والمحافظ/الإمبريالي/الرأسمالي من جهة ثانية. فزيادة على مُحاولتَي الانقلابين العسكريين الفاشلين اللذين كانا يندرجان بدورهما في إطار سلسلة الانقلابات والانقلابات المضادة كأسلوب لعبة المعسكرين الجيوسياسية في تلك الفترة، ذينك الانقلابين اللذين تداخل فيهما العسكريون والسياسيون في ارتباطاتهم الدولية والإقليمية، كانت هناك أحداث ثوريّي مارس 1973 بارتباطاتها الإقليمية خصوصا. ففي ذلك المناخ الذي لم يكن فيه العمل السياسي لدى الأغلبية الفاعلة بالمغرب يُتصور إلا كعمل ثوري ("الحقيقة دائما ثورية" كما كان يقول الشعار)، أدت مجموعة من التدابير السياسية والأمنية المندرجة بدورها حينئذ في إطار ذلك التقاطب الأيديولوجي العام وانعكاسه السياسي الداخلي الخاص، إلى ارتماء مجموعة من الشباب الثوري المغربي ارتماء عضويا نهائيا في أحضان القوى الإقليمية المصنفة بدورها آنذاك ك"قوى ثورية للتغيير" على "الصعيد القومي العربي" الذي كان حينئذ بعدا أساسيا من أبعاد تصور التغيير، وذلك على غرار ما كانت قد فعلته فصائل أخرى من اليسار الثوري للجيل السابق ممن كانوا محسوبين بشكل أو بآخر على سديم "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية" لتلك الفترة، والذين كانوا قد حجوا إلى سوريا والجزائر وليبيا، حيث أخذوا يتدربون على السلاح (محمد أحمد باهي 2010)، ويعدّون لنقله إلى المغرب، ويعملون على تعبئة المغاربة للثورة عبر المنشورات، وخصوصا من خلال برنامج "صوت التحرير" بإذاعة ليبيا ابتداء من سنة 1971 بعد محاولة انقلاب الصخيرات التي كانت قد باركتها الثورة الليبية التي كانت حينئذ في سنتها الثالثة والتي وسمت ذلك الانقلاب ب"ثورة الضباط الأحرار" إسقاطا منها عليه لمرجعية "القائد المعلم"، جمال عبد الناصر، الذي كان الزعيم القدافي يرى نفسه حينئذ وريثا سياسيا لزعامته الثورية القومية.
فبعد تخاذل المغرب، الرسمي والمعارض، أمام القمع الدموي الاسباني لانتفاضة العيون سنة 1970 (انظر مجلة "أنفاس"، ومحمد أحمد باهي 2010)، واختطاف أقدم سجين تحرري إلى اليوم من طرف الأمن الإسبانية، المناضل الصحراوي والصحفي المغربي، محمد بصير، ابن زاوية "سيدي ابراهيم بصير" ب"بني عياط" بإقليم بني ملال (محمد أحمد باهي 2010)، تَمّ حظر منظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (ديسمبر 1972) لثلاثة أشهر فقط بعد وصول شباب سديم اليسار الثوري المركسي إلى قيادتها من خلال مؤتمرها الخامس عشر، مع العلم بأن قضية الصحراء كانت محورية في برنامج ذلك اليسار، وشكلت لديه موضوع مقترحات وتصورات ثورية عدة، من بينها تصوُّر اتخاذِ دينامية تحرير الصحراء ميدانيا من الاستعمار الإسباني ك"بؤرة ثورية" ينطلق منها "التغيير الثوري" إلى بقية المغرب في تكامل مع بقية "البؤر الثورية العربية" حينئذ، بفلسطين الجبهة الشعبية الديموقراطية، وباليمن، وظفار، الخ. بالإضافة إلى ثورات المستعمرات البرتغالية في موزمبيق وأنكولا، في ربط لذلك كله بالأممية الثورية بمختلف تصوراتها، من لينينية أورتودوكسية "سُنّية"، إلى تروتسكية، إلى ماوية، إلى غيفارية.(2).
ففي هذا الإطار، وفي أفق تلك "البؤرة الثورية"، كان الشباب الطلابي الصحراوي، وعلى رأسه المرحوم الوالي مصطفى السيد، مؤسس جبهة البوليساريو بعد أشهر من المؤتمر الطلابي المذكور، من بين المشاركين في اللجنة المكلفة في المؤتمر الطلابي المذكور بإعداد وثيقة حول "تقرير المصير"، وهي المسماة حينئذ ب"لجنة فلسطين"، تغطيةً في الأسلوب، وتكاملاً في التصور. ذلك ال"تقرير المصير"، الذي لم يكن حينئذ، على لسان حال ذلك اليسار، إلا شعارا تاكتيكيا من باب التقيّة السياسية لاستراتيجية "البؤرة الثورية"؛ وذلك بنفس الشكل الذي لم يكن به نفسُ ذلك الشعار على لسان حال الدولة الجزائرية بعد ذلك وإلى الآن، إلا تغليفا ديبلوماسيا، باسم المبادئ، لمطامحها الإقليمية في المنطقة. ولقد تلا حظرَ المنظمة الطلابية زجّ بكافة قادتها (أعضاء المجلس الإداري واللجنة التنفيذية) في السجن لعدة سنوات تتراوح ما بين خمسٍ، وخمس عشرة، مما عدا ثلاثة أو أربعة من بينهم أنا شخصيا باعتباري عضوا في المجلس الإداري المنبثق عن المؤتمر. ثم كان هناك قمع شرس سنة 1972 لمظاهرة وطنية للشباب الصحراوي بطانطان طالبت بالعمل ميدانيا على تحرير الأقاليم الجنوبية بدل الاستمرار في لعبة تفاهم جيوسياسي مقصود لذاته مع نظام فرانكو الإسباني وبقية الأنظمة المجاورة لغايات أمنية داخلية في إطار ما كان يسمى حينئذ في السياسة الجهوية المغربية بسياسة "حسن الجوار".(3) ثم امتدت الاعتقالات لتشمل كافة أطر اليسار الثوري الراديكالي بعد أحداث مارس 1973 في مولاي بوعزة وخنيفرة. إذ ذاك تم القضاء نهائيا على كل الإمكانيات التأطيرية الداخلية للعمل الذي يربط بين استكمال التحرر من الاستعمار وبين التغيير على المستوى السياسي، فحصل إذن ذلك الارتماء العضوي النهائي، لمن أفلتوا من الاعتقال، في أحضان ليبيا، ومن خلالها ألمانيا الشرقية، ثم الجزائر، ومن خلالها كوبا وغيرها من أنظمة المعسكر الشرقي وامتداداته في إفريقيا.
هذه باختصار قصة الطرف البشري والسياسي الأساسي كما أراها في قضية الصحراء، وذلك في مقابل الطرف الجيوسياسي الأساسي الذي هو اليوم الجزائر دون التباس ولا ريب منذ 35 سنة. ذلك الطرف البشري هم الصحراويون، الذين عملَت ظروف استقلال المغرب عبر مراحل، وكذا الظروف الخاصة التي تم فيها استرداده لأقاليمه الجنوبية، وما تولد عن تلك الظروف من انقسام المجتمع الصحرواي جغرافيا وجيوسياسيا ما بين بلاده ومخيمات تيندوف، بشكل يخترق في أحيان كثيرة الأسرة الصغرى الواحدة، وعلى رأسها أسرة زعيم البوليزاريو الحالي، محمد عبد العزيز، الذي يوجد أبوه بقصبة تادلة وأسرة آل بيد الله، إذا اقتصرنا في التمثيل على مجرد مستوى الأطر السياسية العليا. كل ذلك عمِل على تعميق خصوصيات أولئك الصحراويين الاجتماعية والثقافية الموروثة، وكذا المرتبطة بالطبيعة الخاصة للمجال، وذلك بإضافة خصوصيات سياسية هذه المرة، ناتجة عن تجربة وتبعات العقود الأربعة الأخيرة.
وإذ الحكم على الشيء يتفرع منطقيا عن صحة تصوره، فإن هذا الاستجماع المتكامل لأوجه الملف هو الذي يحدد، بحُكم تصورِه، مَن هو الطرفُ الأساسي الذي يتعين التفاوض معه على مستوى التدبير السياسي للملف، ومن هو الطرف الأساسي الذي يتعين التعامل معه على المستوى الجيوسياسي بالأساليب الخاصة بذلك المستوى، وهذا خلاصة جوابي عن سؤالكم. وأعتقد بأن ما أقدم عليه المغرب في السنين الأخيرة منذ أن دشن تجربة "الإنصاف والمصالحة" بأوجهها السياسية والثقافية والجهوية (جبر الضرر الجماعي على الخصوص)، وتجربة رهان "التحدي الديموقراطي"، وتجربة الرهان على "التنمية البشرية"، يوفر إطرا سياسية للتعامل مع الطرف البشري الأساسي للقضية كما تم تحديده، وأن أي تقدم يتراكم على مستوى هذا التعامل هو ما سيؤهل المغرب ويمكنه من أدوات التعامل على المستوى الثاني؛ ذلك لأن الجزائر، كما قلنا، أنما ركبت على موجة سنحت، وذلك باصطيادها ذلك العنصر البشري كحصان برّي للركوب، قويِّ الشكيمة وصعبِ المراس، جادت به عليها الظروف، فتعهدته بالترويض الشاقّ وما تزال.
بعض الخبراء ،وهم كثر، يرجعون هذا التورط الجزائري في ملف الصحراء إلى سباق بين المغرب والجزائر نحو الزعامة الجيو-سياسية والإقليمية في شمال إفريقيا .إلى أي حد أنتم مع هذا التأويل؟
ليس ضروريا أن يستحضر المرء فلسفة التاريخ ونظريات الدولة، عند ابن خلدون أو هيجل، ولا دراساتِ التحولات الاستراتيجية الظرفية، لكي يؤمن بهذا التأويل، الذي يطابق منطق التاريخ. الدولة، كمؤسسة، كيان ميّال بحكم طبيعته إلى الهيمنة؛ وموازين القوى هي التي تحسم، في كل ظرفية تاريخية، وتحدد درجة توازن العلاقات بين الدول المتعالقة على مستوى معين (جغرافي مباشر، أو نفوذي غير مباشر)؛ فيتحالف بعضها مع بعضها الآخر أو يتصادم، وتختفي دولٌ إما كنظام أو حتى ككيان قطري، وتنصهر أخرى، وتُعمّر أخرى أقل أو أكثر وتتوسع على شكل اتحادات، وتظهر أخرى، الخ. فوضع الأقطار المغاربية لا يشكل، في هذا التصور، حالة خاصة ولا وضعا جديدا. الجديد، كما هو الشأن في كل زمان ومكان، هو تبدل أحوال معطيات موازين القوى. وهذه الموازين محكومة بمعطيات الرصيد التاريخي والتطورات الداخلية للدول المعينة من جهة، وبتداخل تلك المعطيات مع مستجدات المعطيات الجهوية، ولنقل الكونية في الأزمنة المعاصرة، من جهة ثانية.
فدولة الجزائر الحالية دولة حديثة؛ لكن لها رصيد حربٍ للتحرير ضد الاستعمار قد حصل لها إشعاعٌ كوني على طول فترة تاريخية كونية كاملة، هي فترة تصفية الاستعمار في الخمسينات والستينات والسبعينات، أي فترة ما يسمى في قاموس ذلك الوقت بمقاومة الإمبريالية والرجعية. ولقد وظفت الدولة الجزائرية ذلك الرصيد الرمزي كقيمة إيديولوجية أيما توظيف في الداخل والخارج. وفيما يتعلق بموضوع هذا الحوار بالضبط، وظفت الجزائر ذلك الرصيد داخليا وخارجيا في إطار الميل الطبيعي للدولة بصفة عامة نحو الهيمنة، وطموحاتِ الجزائر الإقليمية بصفة خاصة في التصنيع والتعدين وبسط النفوذ على الصحراء، والانفتاح الجغرافي من خلال ذلك على الأطلسي, وقد احتلت الدولة الجزائرية بفضل ذلك الرصيد موقعا متميزا في حظيرة أحد معسكري التقاطب الثنائي المذكور ضمن لعبة الأمم خلال تلك الفترة، معسكر التحرر والتقدم والإشتراكية ومقاومة الرجعية والإمبريالة، ووظفت ذلك الموقع في خدمة طموحاتها. ولقد عمل على تدعيم موقعها الرمزي ذاك عاملٌ آخرُ طبيعيّ مادي أهّلَه التقدم الصناعي والتوسع الاقتصادي العالمي الحديث لأن يصبح عاملا فعالا، بعد أن لم يكن كذلك لأمد من الدهر أينما كان، ألا وهو عامل ثروة النفط والغاز، التي مكنت تلك الميولات من الوسائل المادية، المالية والعسكرية اللازمة لأي تحويلٍ ممكن للأيديولوجيا إلى إنجازات سياسية وعسكرية وجيوسياسية وديبلوماسية على أرض الواقع.
أما المغرب، من حيث هو دولة مركزية، فهو يتوفر من الناحية الرمزية على عمق تاريخي ضارب في القدم، ولا أقول بأن عمره اثنا عشر قرنا كما يقول المُقزِّمون الذين يقفون على "ويل للمصلين"؛ كما يتوفر على موقع جغرافي واستراتيجي واقتصادي هام جدا على الإحداثيات القديمة والحديثة. أما من حيث هو استمرارية تاريخية كنظام حكم، فإنه من أقدم الدول القائمة اليوم، إن لم يكن أقدمها. وهو بدوره يوظف رصيد تلك القيمة ويستفيد من تقاليدها في التدبير، ومن إشعاعها التاريخي في التعامل مع محيطَيه، الجهوي والعالمي. إلا أن هذا البعد الرمزي الماضوي لا يستطيع لوحده أن يشكل مصدرَ قوة فعلية في ميزان القوى أمام القوة المادية الملموسة، ما لم يتوفر بدوره على ركائز مادية. وفي هذا الإطار، وإذ لم يُرزق المغرب موارد للريع من حجم ومستوى هبة المحروقات، فإن التنوع الطبيعي والتنويع التدبيري لمصادر خيراته المحدودة، وإن كانت غير قابلة للتصريف كعملةِ صفقاتٍ مباشرة لمراكمة قوةٍ عسكرية مادية وعتادية، وقوةِ نفوذ ديبلوماسي لوباوي مصلحي مباشر، قد جعلا هذه الخيرات مع ذلك - وربما بفضل ذلك - خيراتٍ في خدمة التنمية البشرية في نهاية المطاف أكثرَ بكثير مما هو متيسر مع طبيعة عائدات ريع المحروقات، المتمثل في مجرد تراكم ملايير الدلاورات في خزينة الدولة (43 مليار دولار سنة 2009 بالجزائر). ولعل الألطاف الربانية قد جنبت المغرب كابوس "تالسينت" في مرحلة لم يتأهل بعدُ فيها اقتصادُه لتجنب مخاطر تحول إي ثروة من ذلك النوع إلى تعميم كلي لاقتصاد الريع العمومي، بكل المفاسد التعطيلية والتخريبية المرتبطة به عضويا كما تشهد بذلك تجارب التنمية الاقتصادية والبشرية حيثما يسود.
وفي ارتباط بتلك التنمية البشرية النسبية التي مكن منها ذلك التنوع والتنويع (تطوير اقتصاد منتج، متنوع ومتكامل القطاعات) بما ترتب على ذلك من ظهور شغيلة، ونقابات، وطبقة وسطى متنامية ومستقلة نسبيا عن ريع الدولة، تمكّن المغرب سياسيا واقتصاديا من التوفر على إمكانيات بشرية هائلة بالمقارنة مع غيره في محيطه، وذلك على مستوى التعددية النقابية والسياسية والثقافية والمدنية؛ وهوما أهله، في إطار التنمية البشرية دائما، لخوض رهان "التحدي الديموقراطي"، الذي هو قيمة تتجه هذه المرة نحو المستقبل، والذي أخذ يؤهله للانخراط العضوي في الاقتصاد العالمي الحر والمنتج. وبذلك تَوفَر المغربُ على حظوظ استقطابية مستقبلية تتكامل مع رصيده الماضوي وتعطيه معنى إيجابيا وفعالية رمزية، وتتجاوز حظوظ النظام الجزائري الحالي الذي أصبح قائما من الناحية الرمزية على مجرد ذكرى رصيد قد أصبح ماضويا ينتمي إلى فترة التقاطب وتصفية الاستعمار، و المعتمد من حيث إمكانيات وأساليب الإنماء على مجرد الإمكانيات التعبوية البيروقراطية لعائدات الريع النفطي، والذي لم يعد، بسبب تلك المحدوديات، مقنعا حتى على مستوى الاستهلاك الداخلي كما دلت على ذلك المنازعة المسلحة للشرعية السياسية منذ بداية التسعينات من القرن الماضي. فبفضل هذه القوة الاستقطابية على المستويين السياسي والاقتصادي في الداخل والخارج، يمكن للمغرب أن يجرد الجزائر، فيما يتعلق بالصحراء على الصعيد الجيوسياسي، من حصانها البري المذكور، أي العنصر البشري الصحراوي الذي ما فتئت تروضه في الظروف التي أشرنا إلى بعضها للركوب عليه نحو تحقيق مطامحها كدولة.
الدكتور المدلاوي، أريد أن أعود معك شيئا ما إلى الوراء؛ سبق أن صرحتم أنكم كنتم من تكلف في بداية السبعينات، وتحديدا منتصف غشت عام 1972 بتحرير أول وثيقة لما يسمى "تقرير المصير" بالصحراء الغربية؛ وكان ذلك بإحدى قاعات كلية العلوم بالرباط خلال أعمال المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. فما الذي تغير بين الأمس واليوم في قناعاتكم حول المشكل وحيثياته؟
لعلك بهذا تشير إلى ذلك المقال المطول الذي أشرتُ إليه سابقا، أو إلى مقال آخر لي بالفرنسية كان قد نشر بدوره،(4) أو إلى المقالين معا. على كل حال، أقول بأن لا شيء قد تغير بين الأمس واليوم، وريما غدا بالنسبة إليّ شخصيا، في مقاصديات الجوهر، وإن كان كل شيء قد تغير في أشكال التصور والصياغة بمقتضى قوة المستجدات الحية على أرض الواقع. ففي أمور السياسة، التي تنتمي إلى عالم فلسفة الأخلاق والمدينة، على مستويي التصور والممارسة، يبقى الفكر الدوغمائي وحده هو العاجز عن التمييز بين ثبات روح أو جوهر مقاصدية القناعات من جهة، وتبدل أشكال الصياغات التصورية وأساليب الممارسة مما هو متجدد ضرورةً بمقتضى تجدُّد الظرفيات من جهة ثانية. ولعل جدلية هذا التمييز والربط، في نفس الوقت بين المستويين، هو ما كنت شخصيا أفهمه من عبارة كانت كثيرة التردد في افتتاحيات جريدة "المحرر" ("الاتحاد الاشتراكي"، لاحقا) بعد خروج قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (عمر بن جلون ومحمد اليازغي) من السجن وانخراط الحزب مباشرة في قضية الصحراء بشكل طرحها الرسمي في خطاب صيف 1974 (المهمة المكلية لعبد الرحيم بوعبيد) معتبرا إياها قضية وطنية، ولكن كذلك "أداة لإعادة بناء الحزب" على أسس جديدة (5)، وذلك ما تم بعد أشهر من خلال عقد "المؤتمر الاستثنائي" (1975)، "مؤتمر الوضوح الأيديولوجي"، الذي أقرّ "الاختيار الديموقراطي" كبديل مناسب للظروف الجديدة، يحل محل "الاختيار الثوري"، وذلك بسرعة قياسية، ذلك المؤتمر الذي انخرطت على إثره (وبالضبط بعد زيارة المرحومين بوعبيد وبنجلون للمدينة وعرضيهما العمومين حول قضية الصحراء) كمناضل في صفوف فرع هذا الحزب بمدينة وجدة أيام السيدين بن شواط ثم بزغود. إنها العبارة الكثيرة الورود، التي كانت تقول حينئذ، في تبرير لكل ذلك: ب"الربط الجدلي بين الموقف المبدئي، والتطور الحتمي"، هذا التطور المحكوم بحتمية المستجدات الموضوعية التاريخية العامة، لا بإرادية التصورات القبلية لصيغ تحقيق المقاصد.
فقد رأينا من خلال الربط بين فقرات ما سبقت الإشارة إليه، كيف أن مسيرة التحرير الوطني واستكمال الوحدة الترابية متداخلةٌ عمليا بشكل جدلي، وبأوجه متنوعة ومختلفة، مع مسيرة التغيير السياسي (أي الانتقال من دولة المخزن إلى دولة المؤسسات، على اختلاف في تصور تلك المؤسسات). فإذا كان اليسار الماركسي قد ابتدع فكرة ولفظ "البؤرة الثورية" كفكرة استراتيجية تربط في التصور بين المسيرتين، فإن فكرة الربط بين الانخراط في الطرح الرسمي لمسألة استكمال الوحدة الترابية من جهة، ومهمة بناء "أداة الحزب الديموقراطي" من جهة ثانية لدى اليسار الذي أصبح ديموقراطيا، صيغةٌ أخرى مماثلة لنفس الفكرة، مع فارق تمثُّل هذه الصيغة الأخيرة للمستجدات المتمثلة حينئذ في فشل الانقلابين، وفشل مغامرة أحداث مارس 1973، وتأسيس جبهة البوليزاريو، واحتضان ليبيا لها على حساب المعارضة الثورية الكلاسيكية التي اتضح حينئذ بأنها فشلت فشلا نهائيا. ويمكن أن يقال نفس الشيء بالنسبة للطرح الرسمي نفسه للقضية الوطنية من منظوره الخاص للمتغيرات المستجدة. ف"المسيرة الخضراء" التي هي إبداعٌ حصري للمرحوم الملك الحسن الثاني بدون منازع، عملٌ وطني كما أكد التاريخ ذلك؛ ولكنها كانت في نفس الوقت استعادة لشرعية سياسة كانت قد اهتزت كثيرا بفعل انقلابين ومغامرة ثورية على الطريقة الكوبية في ظرف لا يتعدى ثلاث سنوات (1971-1973)؛ (6) ولقد كانت هذه القراءة الأخيرة للأحداث بالضبط من بين أهم ما قسّم اليسار الماركسي داخل السجون في موضوع التعامل مع مبادرة الخطاب الملكي لعيد الشباب (10 يوليوز 1974) الذي أعلن "السنة المقبلة سنة استكمال الوحدة الترابية" على إثر تأسيس جبهة البوليساريو (في 10 ماي 1973) واحتضانها من طرف ليبيا، ثم إعلان "المسيرة الخضراء" (في 16 أكتوبر 1975) بعد صدور رأي محكمة العدل الدولية بلاهاي ثم انتشار نبأ مرض الكاوديو الجينرال فرانكو. ثم إنه كان من النتائج السياسية لبداية حرب الصحراء بعد المسيرة الخضراء، وعلى الأخص منها تورطُ الجزائر وليبيا وكوبا فيها، وما تخلل ذلك من طرد الجزائر لعشرات الآلاف من المغاربة، إعادةُ ترميم "الجبهة الداخيلة" حول إجماع وطني. فكان من نتائج التفاعل ما بين استراتيجيات الحكم والمعارضة - على اختلاف المنطلقات - انطلاقُ دينامية عامة للتغيير في نهاية الأمر على شكل تمرس تدريجي على التجريب الديموقراطي في إطار ذلك الإجماع الوطني، ابتداء من صناعة طبخ النتائج من جانب، والطعن المنهجي جملة وتفصيلا في نزاهتها من جانب آخر، إلى إدراك الجانب الأول لجدوى جدية ومصداقية تلك الانتخابات على المدى البعيد، وشروع الجانب الثاني في القبول التدريجي بالنتائج، إلى الشروع في مسلسل العفو عن سجناء اليسار الماركسي، وتتويج كل ذلك بتجربة "التناوب التوافقي" وما وازاها من برنامج "الإنصاف والمصالحة"، ثم عودة رموز المنفيين (السرفاتي، البصري، الخ,). وبهذا توازت في النهاية وتكاملت مسيرة "استكمال الوحدة الترابية" مع مسيرة "التغيير السياسي"، الذي اتخذ في النهاية صيغة "التحدي الديموقراطي" بمفهوم "الديموقراطية" وكفى، لا بمفهوم ما كان يسميه الموحوم مولاي حفيظ العلوي ب"الديموقراطية الحسنية" نسبة إلى الملك الحسن الثاني الذي أحب كثيرا مفهوم "التحدي" في التاريخ، كما هو مستعمل في فلسفة تويمبي التاريخية التي كان قد أحال عليها الملك صراحة ذات يوم في إحدى ندواته الصحفية. فليس إذن في الأمر من مفارقة متناقضة؛ إنها مفارقة، لكنها جدلية من حيث إن لحظات التاريخ لا تكون مجرد حاصل كمي لمجموع للنيات والإرادات والاستراتيجيات الفردية أو الجماعية المتعارضة، وإنما تكون حصيلة نوعية لتفاعلها الجدلي فيما بينها من جهة باعتبار موازين قوى أصحابها، وللتفاعل الكلي لها جميعا مع معطيات ومستجدات المحيط العام من جهة ثانية.
وبذلك يكون ملف استكمال الوحدة الترابية باسترجاع الأقاليم الصحراوية، بوجهه الجديد منذ السبعينات، قد فتح موضوعيا، ومن حيث لم تتفق النيات الذاتية للفرقاء بالضرورة، ك"ورشة للتغير السياسي"؛ وذلك مهما اختلفت صيغ وتصورات واستراتيجيات البدء عند الفاعلين. فمن المنطقي إذن إلا يتم طيّ ذلك الملف إلا بالذهاب نحو الأمام في منطق هذه الورشة الكبرى. وأعتقد أن المغرب يتوفر اليوم - في كثير من التجديد، لكن في إطار درجة من الاستمرارية - على الأطر الفكرية والسياسية للسير قدما في هذا الاتجاه. فثقافة التعددية، التي بدأت تنسخ، في الفكر والسياسية، ثقافةَ الوحدانيات على كل صعيد (الحزب الواحد، اللغة الواحدة، الثقافة الواحدة، الخ.)، قد ترسخت مؤسّسيا لدى الجميع من خلال تجربة المسلسل الديموقراطي رغم كل علاّته على مستوى كافة الفرقاء، وتجربة الإنصاف والمصالحة وحقوق الإنسان المسترجِعة لكرامة المواطن، بكل ما لا يزال يُنتظر من تلك التجربة في باب موضوع هذا الحوار بالضبط، وتجربة التعددية اللغوية والثقافية التي أخذ نطاق عريض من المغاربة يسترد بفضلها تدريجيا مقومات المواطنة بعد نصف قرن من الإنكار والنفي في عين المكان، وتجربة المجالس الاستشارية للشؤون الصحراوية بما ينتظرها من زيادة هيكلة وتفعيل وتنسيق، وتجربة مدونة الأسرة التي حررت طاقات جديدة، وأخيرا مشروع الحكم الذاتي بالأقاليم الصحراوية، ومشروع الجهوية بصفة عامة، في ارتباط المشروعين بسياسة العناية بتنمية العنصر البشري. وهكذا يتضح أنه بفضل تضافر وتفاعل عدة تصورات وممارسات مرحلية مختلفة متفاعلة مع ظروفها الموضوعية القائمة لدى مختلف القوى الحية، بما في ذلك بالضبط مرحلة تصور "البؤرة الثورية" بالنسبة لتصور التغيير في المغرب، أمسى هذا المغرب اليوم في طريقه لأن يصبح "بؤرة ديموقراطية" استقطابية في محيطه. فهل تغيّر شيء في جوهر المقاصد بين الأمس واليوم، كما يستفاد الجواب عليه بالإيجاب من سؤالكم المصوغ بصيغة استفهام التعيين ("ما الذي؟") بدل صيغة استفهام التصديق ("هل تغير شيء؟")؟ سؤالي هذا استفهامٌ إنكاري طبعا.
ويتضح موضوعيا بالمناسبة، بمقتضى المنطق الرابط بين كل هذه التجارب، بأن مشروع الحكم الذاتي ليس مجرد خطوة ديبلوماسية مصطنعة يقصد منها تسجيل نقط على مستوى تطور الملف على الصعيد الأممي، وإنما هو غاية مقصودة لذاتها، ولنتائجها، على المستوى السياسي الداخلى من حيث العناية بالعنصر البشري وبخصوصياته الجهوية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ونضيف السياسية باعتبار التجربة الخاصة لمغاربة الصحراء مما أشرنا إليه سابقا، وذلك في إطار منطق محطات الارتباط الجدلي بين مسيرتي التغيير السياسي استكمال الوحدة الترابية. إنه غاية تندرج تمام الاندراج في منطق منظومة التجارب المذكورة على التو؛ ويتعين أن يتضح ذلك الاندراج في أذهان المغاربة وأن يُسوّقوا، رسميين وحزبيين ومدنيين، مشروعَ الحكم الذاتي ذاك بوجهيه الاثنين معا: الوجه الديبلوماسي الأممي المراعي للشرعية الدولية، والوجه الديموقراطي التنموي الذي يتغيّى العنصرَ البشري المعنيّ بالدرجة الأولى، في إطار الترقية العامة لمستوى المواطنة والديموقراطية. وبخصوص هذا الوجه الأخير، يتعين التذكير بأن لا عسلَ بدون لسعِ نحلٍ، ولا وردَ بدون أشواك كما يقال؛ فلوُرود الديموقراطية وعسلها أشواكٌ ولسعٌ، كما هو شأن الديموقراطية في كل البلدان التي تطورت فيها. فإذا ما وضعنا جانبا ما يتعينُ بديهيا من تفعيلٍ للقانون باعتبار ذلك التفعيل من باب تحصيلَ حاصل في أي منظومة ديموقراطية، فلا معنى لما يردده البعض، من حين لآخر بمناسبة حدثٍ من الأحداث (تغطية صحفية لا تروق، زيارة هذا الوفد أو ذاك لهذا الطرف أو ذاك)، مِن أن المغرب يقع، مع مثل تلك الأحداث، "ضحية لانفتاحه الديموقراطي". لا معنى لمثل تلك الأقوال إلا معنى واحد، هو عدم التشبع بعد بجوهر قيم الديموقراطية لذاتها وليس فقط حينما تكون شكلياتها في صالح الطرف المعني، وكذا عدمُ الثقة لا في القوة التحصينية البعيدة المدى والأمد للديموقراطية، ولا في صلابة المبادئ الوطنية بما أن من يقول بذلك يسعى إلى تأكيد قيم الوطنية والمواطنة بمجرد الاستعداء على الآخر باللجوء إلى القوة الخام عوض العمل على تحييده ديموقراطيا.
سبق لكم أيضا أن طعنتم في سياسة تدبير الكثير من الأطراف للملف، وقلتم بعدم نجاعة خطاب الشكوى من السلوكات اللاأخلاقية والمستفزة للجزائر، ودعوتم إلى التأمل فيما أسميتموه هرمية أطراف النزاع وسياقاته الظرفية والزمنية التي بدأت مع الدور الليبي في القضية .هل ما زلتم مع هذا الطرح التحليلي للمشكل؟
ليس لي لا معرفةٌ بالدوائر التي تدبر الملف، ولا إلمامٌ بتفاصيل كيفية تدبيره، وذلك بحكم صميم اهتمامتي المهنية. ما تحدثتُ عنه في المقالات التي أشرتم إليها هو نوعية ومضمون الخطابين، السياسي والإعلامي، المواكبين لذلك التدبير ولتطورات الملف. ولقد قلت فعلا بأن التركيز على بكائيات الشكوى المملة من "عدوانية الجزائر"، وعلى هجائيات نعت البوليساريو بكونه مجرد عصابة من المرتزقة، إلى آخر ما هناك من عناصر قاموس ذلك الخطاب، أمرٌ غير ذي جدوى؛ بل إنه عكسي النتائج من حيث إنه تبسيط شعبوي اختزالي يحجب عن المغاربة عامة كل إمكانيات الإدراك الفعلي لتداخلات المشكل، ولا يساعد أبدا الطرف الصحراوي على الخصوص، المغيب ضمنيا بالنكران المتعجرف لذلك الخطاب، من تبيُّن جسور سُبلٍ أخرى غير النفق الذي تدفع به الجزائر في غياهبه. إن إغناء النقاش السياسي والإعلامي بالمغرب بأسئلة جديدة وأصيلة في الموضوع هو الكفيل بتمكين شرائح واسعة من الصحراويين في الداخل والخارج من تبيّن مثل تلك الجسور، وبخلق ديناميات جديدة في صفوفهم يتخلصون تدريجيا بفضلها من ربقة قبضة الوصاية الجزائرية بالضبط.
أما في ما يتعلق بالآفاق العامة لتدبير الملف على الصعيد الديبلوماسي، فإن أهم ما يبدو لي جوهريا في هذه المرحلة هو الحرص على عدم سلوك المسلك السهل، كما حصل ذلك في فترة أواخر الحرب الباردة، حين تم تضخيم حجم الرهان على مفعول إدارج الملف في إطار لعبة الأمم المتقاطبة بين المعسكرين الشرقي والغربي. صحيح أن أوجها أخرى جديدة للعبة الأمم قد ظهرت وامتدت ظلالها بكثافة إلى المنطقة، وأعني بها أوجه الإرهاب ومحاربة الإرهاب خاصة، وكذلك الهجرة، والتهريب، والمخدرات. إلا أن قيام المغرب بدوره الذي تفرضه عليه جغرافية متطلباته الأمنية يجب ألا يختزل من جديد جوهرَ ملفٍ لا يعني في صدق جوهره إلا المغرب، وذلك بأن لا يتخذ منه من جديد مجرد ورقة للسُخرة في نادي الأمم، سرعان ما يتم الاستغناء عنها بتبدل الظروف، كما حصل لنفس القبيل من السخرة مع اختفاء الحرب الباردة.
أما فيما يتعلق بمبدأ صلاحيات التدبير في حد ذاتها، فإن الأمر قد تغير اليوم عما كان عليه في السبعينات وما قبلها لما كانت العلاقة ما بين مسيرتي استكمال التحرر من جهة والتغيير السياسي من جهة ثانية، علاقةً يغلب فيها التناقض على التكامل الجدلي، باعتبار مواقف فرقاء سياسيين لم يكونوا قد استوعبوا بعد ثقافة مبدإ التعايش. لقد ترسخ اليومَ مفهوم "التحدي الديموقراطي" لدى كافة الفرقاء كقيمة وغاية في حد ذاته، وكوسيلة في نفس الوقت لاستكمال هياكل الوحدة الترابية. بعد هذا تبقى الصلاحيات الرسمية واضحة بحكم الدستور والقانون، وهو نفس القانون الذي يحدد صلاحيات الهيئات السياسية وهيئات المجتمع المدني وواجباتهما التأطيرية التي تشكل في هذا الباب وفي أمثاله دعما قويا وحاسما لعمل الصلاحيات الرسمية. فلنأخذ المثال الأخير لنازلة السيد مصطفى سلمى ولد سيدي مولود. فمَن، وما الذي كان يمنع مثلا مختلفَ المنابر الصحفية منذ سنوات، بعد ترسخ مفهوم التحدي الديموقراطي، من أن تصنع الحدث مع مختلف النوازل في أوج جذوتها (وآخرها مثلا سيناريو السيدة أميناتو حيدر) كما فعلت جريدة "الصحراء الأسبوعية" اليومَ مع نازلة مصطفى سلمى؟ ومَن، وما الذي كان يمنع الهيئات السياسية والمجتمع المدني من أن يحررا من الطاقات مثلَ ما فجراه فشهدناه وشهده العالم مما فاجأ به ذلك المجتمع المدني الجميعَ على إثر هذه النازلة؟ إن التدبير الرسمي لملف أيّ نزاع، ترابيا كان، أم سياديا، أم مائيا، أم تجاريا، في حاجة دائم، في جميع الدول، إلى ثقل سياسي ومدني تضغط به الأوساط الرسمية على فرقائها في النزاع، ويشكل في نفس الوقت ضغطا عليها للخروج عن غفلة السلبية كيفما كانت حساباتها. وفي هذا الإطار، لا حدود لما يمكن أو يتعين أن تقوم به الجماعات وحتى الأفراد مهما اختلفت القطاعات والمستويات.
وأستسمحكم لأذكر هنا على سبيل المثال، من باب الجزئيات والتفاصيل - وأنا الذي انحصر ميدان عملي منذ ثلاثين سنة في إطار بحث أكاديمي تقني محض - أني كنت قد انطلقت سنة 2004 بمعية شريكي في البحث اللساني الفرنسي فرانسوا ديل (من CNRS) على إثر تفاهم مبدئي أولي مع الباحث الهولندي هاري شترومر باعتباره مشرفا على نشر إحدى سلسلات الأبحاث (Berber Studies)، انطلقنا في ورشة إنجاز كتاب حول العروض الأمازيغي في علاقته بالموسيقى. لكنني تنبهت في المراحل التي تقدم فيها االعمل وجاء وقت توقيع عقد النشر، بأن غلاف السلسلة القار أصبح يتمثل في خريطة لشمال إفريقيا ترسم حدودا سياسية بين المغرب وصحرائه. فشرحت للناشر بأنه لا يمكن لي أن أقبل غلافا من ذلك القبيل كغلاف لكتابنا؛ لكن لم يتطلب الأمر إعادة طرح المسألة على محكمة لاهاي لكي أقنع زميلي شترومر بأن الأمر خلافيٌّ في أقصى الأحوال، وبأن من مصلحة السلسلة الأكاديمية، في تسهيل انتشارها بالأقطار المغاربية، أن تتجنب إقحام نفسها في مسائل خلافية لا تعنيها في شيء؛ وكذلك كان: احتفظت السلسة بالغلاف المميز لها تجاريا، لكن مع إزالة الحدود السياسية بين الأقطار منذ 2007. ويمكن لمن يريد ذلك، أن يقارن، من خلال الشبكة، بين صور الغلاف القديمة والجديدة للسلسلة، بما فيها صورة غلاف كتابنا المذكور (Poetic Meter and Musical Form in Tashlhiyt Berber) الصادر سنة 2008.
وفي باب دور المجتمع المدني بالمناسبة وبصفة عامة، تحضرني ملاحظة أخرى. فعلى إثر ما كان قد كتبه السيد رشيد نيني يوما في عموده بيومية "المساء" مؤاخذا على القناة الثانية تغطيتها لحادث تعذيب خادمة فيليبينية من طرف مشغليها في الدار البيضاء في نفس الوقت الذي يسود فيه صمت مطبق على قضية الخادمين المغربيين اللذين تولت سويسرا الدفاع عنهما في وجه تجاوزات مشغلهما، حنى بعل القدافي، كتبت ما يلي في أحد مقالاتي:
((لا أتفق مع جل ما يورده السيد نيني في عموده "شوف تشوف" بجريدة "المساء". ولكني أحيّي فيه هذه الالتفاتة هذه المرة، التي تعرّي مرة أخرى انفصاما مازوشيا فظيعا في الشخصية المغربية على جميع مستوياتها. فالمسألة ليست مسألة القناة الثانية فقط، التي لم تزد على أن ترجمت من موقعها واقعا عاما. فالمغاربة عودونا في الأربعين سنة الأخيرة التي واكبنا فيها الأحداث بنصيب من الوعي، على التضامن في الصحافة، والبلاغات الحزبية، والمظاهرات المليونية، مع جميع القضايا بما فيها القضايا الخلافية حينما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، أو حتى أفغانستان، أو الشيشان، أو صيربيا، أو الدانمارك، ولكنهم لم ينتفضوا يوما لعدوان خارجي يلحق كرامة مواطن مغربي، أو جماعة مغربية، بل حتى الكيان الوطني والسيادة في السنوات الأخيرة. فلم نشهد مثلا مظاهرة أمام السفارة الاسبانية، ولا في مجرد الشارع العمومي لما أهين الجنود المغاربة أمام كاميرات العالم في جزيرة "تورا" المغربية من طرف الحرس المدني الاسباني في يوليوز 2002 ؛ ولم يفعلوا شيئا من مثل ذلك كلما قام الإسبان، دفاعا عن طماطمهم، بإتلاف عشرات شاحنات الطماطم المغربية المتجه إلى أوروبا، مع أن اتفاقا تجاريا يربط بين المغرب والاتحاد الأوروبي؛ ولم يتظاهروا أمام السفارة الاسبانية ولا في شارع العاصمة لما أقدم العاهل الاسباني، خوان كارلوس، على القيام بأول زيارة لمدينتي سبة ومليلية المحتلتين يومي 5-6 نوفمبر 2007؛ ولم نكن قد رأينا شيئا من ذلك القبيل يتم أمام السفارة الفرنسية لما قام متظاهرو "الجبهة الوطنية" للعنصري الفرنسي "جان ماري لوبين" بإلقاء المواطن المغربي ابراهيم بوعمّار في نهر السين بباريس حيث لفظ أنفاسه على التو في فاتح ماي 1995؛ ولم يفعلوا شيئا من ذلك القبيل لما اختُطف المواطنان المغربيان، عبد الرحيم بوعلام وعبد الكريم محافظي، في العراق في 20 أكتوبر 2005، في حين أنهم كانوا قد أسسوا تجمعا دائما للتضامن مع العراق وفلسطين، ونظموا المظاهرات المليونية تلو الأخرى، واستغلوا بالضبط مناسبة ذلك الاختطاف بالأحرى لإصدار بيانات إدانات ورقية صفراء، لا يفوتها أن تُدين بالمناسبة في نفس الوقت وعلى الخصوص - وهو بيت القصيد لديها - "استمرار وإصرار الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الحكومات التابعة لهما على احتلال العراق واستنزاف خيراته وتمزيق وحدته".)).
إنه ليُشبّه لي اليوم، على إثر الطاقات الهائلة التي فجرها المجتمع المدني المغربي من صحراويين وغير صحراويين، ومن الجنسين بمختلف الأعمار في الداخل والخارج (فرنسا، بلجيكا، هولندا، بريطانيا، ألمانيا، النرويج، أمريكا)، وما فاجأ به ذلك المجتمعُ الجميعَ في الداخل والخارج على إثر نازلة ولد سيدي مولود، بأن كاطارسيسيّة سيكولوجية مطهِّرة مفاجئة قد شفت أخيرا الوعي المغربي بغثةً من شقاء صرَعِ استلابي دفين في أعماق اللاوعي الجمعي منذ أجيال، وذلك بشكل لا يتأتى لمفعول الخطابات "التوعوية" مهما كانت درجة قوتها الإقناعية. ولا غرابة في تقديري أن يحصل ذلك بعد الصدمة الكهرو-أخلاقية العنيفة التي وخز بها أحد "الميخّيات" الكارتونية (على حد تعبير السيد رشيد نيني) من مكبوتي شياطين الإنس "السيرو-بوزيتيفيّين" صميمَ عزّة المغاربة في عمقها الأنثروبولوجي الخام على اختلاف إثنياتهم على مستوى السطح، وذلك حينما استلهم ذلك الميخّي البانكَواني المكبوت أحلامَ ذلك الصِفر الأخلاقي الذي يتوِّج به ويزيّن ويميز نافوخَ عُلبةِ دماغه الأنعامي حيث يحُل العِقال محل العَقل ("إن همُ إلا كالأنعام، بل همُ أضلّ سبيلاّ"ق.ك.)، فقال مُطلاّ من شاشة فضائية "وطنية"، بأنه يفضّل في مهمته "الجهادية" الاستيهامية "التعريجَ على مدينة أكادير"، عاصمة سوس العالمة في الذكرى الخمسين لنكبتها، "بدل الأندلس"، للقيام ب"الجهاد على طريقته الخاصة". فلعل المغاربة قد اكتشفوا حينئذ، مع كابوس ذلك الشيطان الإنسي، ما كان قد اكتشفه أبواهم، آدم وحواء، في حُلم الجنة حين أغواهما شيطان الجنّ بأكل فاكهة شجرة المعرفة المحظورة؛ لقد تفتحت أعينهما ليدركا الخيرَ والشر بقوة مفعول شجرة المعرفة، فاكتشفا بذلك ذاتيهما في تجردها وعريها الأول، وخرجا بسبب تلك الصدمة من حلم الجنة ليكسبا قوتهما بعرق جبينهما معتمدين على النفس في كبَد كما يرمز إلى ذلك التنزيل، الناسخ منه والمنسوخ. أكيدٌ إذن أنه، إذا كان سيكون هناك ما قبل نازلة مصطفى سلمى وما بعدها بالنسبة لملف الصحراء، فإنه سيكون هناك كذلك ما قبل مُزحة الميخّي وما بعدها بالنسبة لوعي المغاربة في ترشيد هرمية توزيع طاقاتهم ما بين القضايا الوطنية وبقية القضايا، كما أكدت ذلك للساني والمفكر السعودي، الصديق حمزة بن قبلان المزيني، خلال تبادل إليكتروني دار بيننا على إثر تلك المزحة السخيفة التي كانت قَشّة قصمَت ظهرَ البعير.
أشرتم في أحد تصريحاتكم إلى أن الديبلوماسية المغربية في بداية السبعينات تحملت مسؤولية كبرى في تدبير بواكير المشكل، خصوصا في تعاملها مع بعض الثوريين الذين انضووا تحت ما أسميته "البؤرة الثورية" التي عرفت انطلاقتها في الجنوب (تارودانت) في صورة معارضة راديكالية قادها المرحوم الوالي مصطفى السيد الذي كان زميلا لكم في الدراسة. نود أن تلقي بعض الضوء على هذه المرحلة؟
لا يتعلق الأمر في ما أشرتم إليه بالديبلوماسية على وجه الخصوص، إنما يتعلق بالسياسة الرسمية العامة لتدبير ذلك الملف الخاص، في علاقتها بالتدبير الساياسي العام في تلك الفترة. وعلى كل حال، فإن تلك حقبة قد خلَت؛ والتذكيرُ بها من خلال المقالات التي أشرتُ إليها سابقا إنما كان من أجل رسم خطاطة صورة تاريخية تقريبية لكيفية إعادة فتح الملف بعد مرحلة جيش التحرير، وذلك قصد إبراز حقيقية استمرارية مسيرة استكمال الوحد الترابية في ارتباطها بمسيرة التغيير السياسي في المغرب. وإذا كنتُ قد أشرتُ خلال ذلك إلى تارودانت، وطانطان، ووقائع المؤتمر الطلابي الخامس عشر بكلية العلوم بالرباط على وجه الخصوص، والزميلين، المرحوم الوالي مصطفى السيد الركيبي والليلي محمود الطانطاني (محمد الأمين ولد أحمد، كاسم حركي)، فإن ذلك مرتبط بتجربة شخصية، وليس بحال من الأحوال على سبيل الحصر؛ فإذا ما تناول أشخاص آخرون رسمَ عناصر أخرى من تلك الصورة بناء على تجاربهم الشخصية المختلفة والمتفاوتة، فإن أماكن أخرى مختلفة عبر أرجاء الوطن بجهاته الأربع، وشخصيات أخرى كثيرة ستذكر لا محالة. ولعل كتابات محمد أحمد باهي من أهم ما كتب في الميدان (انظر لائحة لها في ص 112 من كتابه الجديد 2010 "محمد بصير أقدم سجين في العالم"). أما خيوط تدبير الملف كما هو قائم اليوم، فإن العناصر المشار إليها سابقا هي التي تشكل رؤوسَها في رأيي. وعلى كل حال، فحتى ما يتصل بتلك التجربة الشخصية نفسها، فيه جزئيات أخرى لا يتناسب موضوع هذا الحديث، ولا طبيعته كحوار في صحيفة، مع الدخول في تفصيلها الذي ربما يقتضي نوعا أدبيا آخر.
لننتقل الآن إلى بعض المستجدات في ملف الصحراء المغربية. تصريح المبعوث الأممي الأخير كريستوفر روس حول ضرورة تدخل القوى الكبرى لممارسة ضغط على أطراف النزاع اُعتبر مؤشرا قويا على فشل مجهودات الأمم المتحدة في إيجاد تسوية نهائية .هل مازال بوسعنا فعلا المراهنة على دور فعال لهذه الهيئة لحل المشكل؟
حسب علمي، الأمم المتحدة لا تفرض حلولا في فض النزاعات، وإنما تعمل ما في وسعها لتفادي المواجهات المباشرة، في انتظار أن تبارك وتصادق على الحل عندما تتوصل إليه الأطراف المتنازعة. فالكرة بالأساس بين أطراف النزاع، وليس بين طرف معين منها وبين الأمم المتحدة، التي هي بمثابة مجرد حكم؛ لكنه حكم لا يَطرُد ولا يوقف المقابلة. أما القوى الكبرى (وكذلك إسبانيا التي يتعين عدم نسيانها) التي لا يمكن الاستهانة بمصالحها في المنطقة وبفائدة استثمارها في تدبير الملف على المستوى الدولي، فقد سبق أن قلت بأن القاعدة الذهبية هي الحرص على عدم الرهان على مجرد اتخاذ القضية كورقة سخرة في لعبة الأمم لأن المصالح متحركة بطبعها.
عودة إلى الدور الجزائري في الملف. ألا ترون أن العداء المتواصل للجزائر تجاه المغرب، بدءا من طرد الجالية المغربية عام 1975، وانتهاء بحدث اعتقال مصطفى ولد سيدي مولود، مرورا بدعوة بوتفليقة إلى تقسيم الصحراء، واستعداء المجتمع الدولي عبر الركوب على ملف حقوق الإنسان، وتوظيف عناصر انفصالية لزعزعة الأمن الداخلي. أليست كلها مؤشرات خطيرة على سياسة ممنهجة هدفها إضعاف المغرب واستهدافه؟
سبق أن أجبت على عناصر هذا السؤال أثناء الحديث عن ميل الدولة إلى الهيمنة وبيان كيف يتجلى ذلك في سياسة الدولة الجزائرية. أما محاولة الركوب في السنوات الأخيرة على ملف حقوق الإنسان، فأعتقد شخصيا بأنه من الأخطاء القاتلة لسياسة الدولة الجزائرية وقيادة البوليساريو في هذه القضية، لأن ميدان حقوق الإنسان ميدانٌ هُما آخر من هو مؤهل للعب فيه؛ والنازلة الأخيرة لمصطفى ولد سيدي مولود شاهد ملموس على ذلك، إذ هي من باب انقلاب السحر على الساحر. فشتان مثلا ما بين سيناريو الدفع بالسيدة أميناتو حيدر، المعَدة سلفا كنجم ميدياتي، إلى استدراج موظفي أمنيي مطار العيون بافتعالِ رفضِ ما ينص عليه القانون في كل أقطار العالم من تعبئة لبطاقة الدخول حسب المعلومات المطابقة لجواز السفر، ثم اتخاذ الإجراءات الإدارية المتخذة في حقها إثر ذلك كمطية للركوب على شعارات حقوق الإنسان، شتان ما بين ذلك السيناريو وبين أن ياتي مسؤول من البوليساريو من مخيمات تيندوف لزيارة قسم من أقاربه في السمارة، وهو غير معروف قبل ذلك، فيصرح برأيه في فيما يتعلق برأيه في آفاق حل القضية الصحراوية، فيكون الرد هو اعتقاله عند رجوعه إلى المخيمات بسبب ما صرح به في غير مناورة ولا تعامل سري مزدوج من وراء حجاب. فالمغرب لم يصنع ولد سيدي مولود، ولا كان قد لمّعه إعلاميا بشكل مسبق ليكلفه بعد ذلك بإنجاز سيناريو، وإنما اكتشفه في اللحظة التي اكتشفه فيها العالم. فشتان ما بين قضيته وسيناريو السيدة أميناتو حيدر في معايير موازين حقوق الإنسان.
المقترح المغربي لمنح الأقاليم الجنوبية حكما ذاتيا قوبل بموافقة صريحة وأخرى ضمنية من قبل مجموعة من الأطراف الدولية. هل أنتم مع إنزال هذا المقترح على أرض الواقع وتنفيذه بغض النظر عن مواقف الطرف الآخر؟
كما قلت سابقا بشأن تسويق هذا المشروع، واعتبارا لمحدودية صلاحيات الأمم المتحدة في المساعدة على فض النزاعات كما ذكرت على التو، فإنه إذا كان من المهم تسويق ذلك المشروع تسويقا ديبلوماسيا على مستوى الشرعية الدولية والأممية كمساهمة في إيجاد مخرج لمن يلوّحون بالمبادئ، فإن الأهم من ذلك هو تسويقه كقيمة استقطاب لدى المعنيين الأولين بالأمر، المواطنين الصحراويين في الداخل والخارج. فبقدر ما يتم رواج هذا الوجه الأخير من التسويق ويحوز الثقة، تسلُك السبُل آليا في سلاسة أمام الوجه الأول.
من المرتقب أن يصدر في الشهور القادمة تقرير اللجنة المكلفة بإعداد تصور وطني عام للجهوية، ومن الممكن أن تكون ألأقاليم الجنوبية أول جهة تشهد تطبيق هذا المخطط. ما هي الانعكاسات التي ستكون لهذا التصور على الملف ؟
كما سبق أن قلت مرة أخرى، إذا كان مشروع الحكم الذاتي يندرج عضويا في إطار الاتجاه العام نحو تعميق الديموقراطية، خصوصا في أوجهها اللامركزية واللاتمركزية، وما يتعلق منها بالعناية بتنمية العنصر البشري على مستويات الخصوصيات الجغرافية والاقتصادية والثقافية، بما في ذلك سياسة جبر أضرار الإفقار الاقتصادي أنّى كان، وأضرار القهر السياسي حيثما حصل ومن أي طرف كان، فلا شك أن اللجنة التي أشرتم إليها ستأخذ كل عناصر الخصوصية الصحراوية بعين الاعتبار بالشكل الذي أشرت سابقا إلى بعض مظاهره؛ فبقدر ما يتم ذلك الأخذ بعين الاعتبار بشكل أكمل، سيكتسب المشروع قوة استقطابية أكثرَ لدى المعنيين المباشرين، ويتماشى مع روح المبادرة في مجملها على مستوى الوطن بأسره. والمقصود هنا بالوجه الأكمل هو إضفاء الطابع المؤسسي على سياسة جبر الضرر الجماعي أيّما كان مصدر ذلك الضرر، واطّراح سياسة الإغراءات الانتهازية السياسوية، التي لا تولّد في صفوف الصحراويين إلا طبقة من الانتفاعيين المبتزّين للدولة وللمواطنين، بما يترتب عن ذلك من مشاعر غبن تلحق أضرارا بليغة بإحساس المواطنة لدى بقية المواطنين من صحراويين وغير صحراويين.
من المشهود لكم على الساحة الثقافية والفكرية تواصلُكم المتجدد مع أهم القضايا والأحداث بالبلد. كيف تقيمون مساهمة البحث العلمي والجامعي بالخصوص في مسألة الوحدة الترابية خصوصا في ظل انحسار حضور البحث المذكور في بلورة تصورات تنموية في هذا المجال.
ليست لدي معلومات ذات بال في هذا الميدان الذي ليس ميدان تخصصي الأكادمي؛ فمجال بحثي الأكاديمي منذ ثلاثين سنة ميدان تقني ضيق هو اللسانيات والعروض، وبشكل ثانوي الموسيقى ومقارنة الأديان. إنك ترى إذن مدى الهوة التي تفصل اليوم بيني وبين إمكانية الحكم على مدى حضور البحث الأكادمي في ميدان مسألة الوحدة الترابية والشؤون الصحراوية. فما يخصني في هذا الموضوع لا يتعدى اليوم باب الشهادة والرأي، انطلاقا من عناصر تجربةِ تقاطعٍ عابرٍ مع القضية، وليس اهتماما ذا طبيعة أكادمية. صحيح أني كنت قد ألفت حول القضية في النصف الثاني من السبعينات كتابا مخطوطا من حوالي 250 صفحة على أساس المنطلقات التصورية لتلك الحقبة مما أشرت إلى بعض أوجهه، ولكنه قد ضاع مني مع الأسف إلى الأبد في ظروف خاصة قبل أن تتوفر ظروف نشره؛ وقد كان ضياع ذلك المخطوط الذي كانت قد شاءت سُخرية الرمزيات أن أعنونه حينئذ مؤقتا ب"كتاب الموتى" من بين المؤشرات التي حدت بي إلى إعادة تقويم الأمور، واستخلاص النتائج، والعدول – على مستوى التجربة الشخصية – نحو الانقطاع إلى مجال البحث العلمي الصرف لتوظيف ما لدي من طاقة. وأخيرا، فإن كل ما أعلم، عن طريق مجرد العشرة المهنية، بخصوص صميم سؤالكم، هو أن زميلي، مصطفى النعيمي، الباحث بالمعهد الجامعي للبحث العلمي، وعضو المجلس الاستشاري للشؤون الصحراوية، يقوم بمجهودات محترمة في هذا الباب من خلال الأبحاث الانثروبولوجية الميدانية التي ينجزها "فريق الأبحاث الصحراوية المتعددة التخصصات" الذي يرأسه. ويقال نفس الشيء عن زملاء آخرين بمعهد الدراسات الإفريقية، التابع بدوره لجامعة محمد الخامس-السويسي. أما كتابات الشهادات والمذكرات أو الرأي والمتابعة الصحفية لمن عايشوا الأمر من الداخل بكثير من المراس، فإن كتابات أمثال المقاوم والزعيم السياسي، محمد بنسعيد أيت يدر، والصحفي المناضل، محمد أحمد باهي هي أبرز مثال في حدود ما أعلم وما يحضرني الآن.
***
(1) نشر هذا المقال في يوميتي الصباح (نوفمبر 2004) و الأحداث المغربية (ع 2122؛ 17 نوفمبر 2004) ، ثم أعيد نشره محيّنا في كل من صوت الناس، ع: 91 (28 مارس 2006) والنهار المغربية، بعددي 571-574 (01-05 أبريل 2006)؛ وهو الآن مشهر بموقعي الفرعي من الحوار المتمدن منذ 2007، وفي مدونتي OrBinah على إثر نازلة مصطفى سلمى ولد سيدي مولود.
(2) خلال انعقاد المؤتمر الخامس عشر المذكور للمنظة الطلابية بكلية العلوم بالرباط، الذي حصل أن انفرطت إحدى جلساته في هلع إثر قعقعة مروعة مفائجة لقصف الطائرات للقصر الملكي المجاور في انقلاب 16 غشت 1972، والذي شارك فيه الطلبة الصحراويون وعلى رأسهم الوالي مصطفى السيد ، كان المؤتمرون يغنون جماعة كل يوم على موائد الوجبات بمطعم ثانوية الليمون أغنية "الصينية" لناس الغيوان، التي كان المخيال الشعبي اليساري حينئذ يؤولها كتغنٍّ مقنع لتلك المجموعة بالثورة الصينية الماوية (قبل أن يبين عمر السيّد بعد سنوات بأن "ناس الغيوان" كانت من المجموعات المفضلة لدى الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يدعوها لإحياء سهرات)، ثم يتبع المؤتمرون أغنية "الصينية" بأممية زعيم الثورة الكوبية، تشي غيفارا: (تشي، يا بطل الجبال – غدا، سنلتقي - في أنكولا - في موزمبيق - وفي الرباط، وفي الرباط).
(3) من بين النتائج الجيوسياسية ل"سياسية حسن الجوار" التي كان قد سلكها المرحوم الملك الحسن الثاني حينئذ كوجه من أساليبه الخاصة لإعادة بناء الدولة المركزية بعد الاستقلال على أسس مخزنية، في خضم التقلبات والتجاذبات والتناقضات المعروفة (معركة إيكوفيون وحل جيش التحرير، أحداث الريف، أحداث جناح شيخ العرب، سلسلة المؤامرات الواقعية أو المصطنعة وما ارتبط بها من محاكمات واختطافات وتصفيات في الداخل والخارج)، أنه بعد الاعتراف المغرب الرسمي في سبتمبر 1969 بموريطانيا التي كان يسميها ب"إقليم شنقيط" في خرائط الخمسينات وبداية الستينات من القرن الماضي، وزيارة وزير خارجية نظام فرانكو الإسباني، السيد لوبيز برافو للرباط في يونيو سنة 1970، وتوقيع اتفاقية الحدود بإفران في 15 يونيو 1972 بين الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين، لم يمر إلا شهران على هذا التوقيع الأخير، حينما حاول بعض منفذي انقلاب الطائرة الفاشل في 16 غشت 1972 اللجوءَ إلى الخارج بطائرتهم بعد فشل المحاولة، فلم يجدا مهربا، لا جنوبا، ولا شرقا، ولا شمالا، إلا صخرة جبل طارق التابعة لبريطانيا، فحطّا فيها، وتم تسليمهم مباشرة بعد ذلك.
(4) إنه مقال بعنوان (En guise de réponse à la lettre du camarade Mohamed Abdelaziz, chef du Polisario) كان قد كتب في يونيو 2005 على إثر الرسالة المفتوحة التي وجهها زعيم البوليساريو، السيد محمد عبد العزيز، إلى من أسماهم ب"النخبة المغربية"؛ وقد نشر في 31 مارس 2006 بأسبوعية La Vérité (31 mars 2006) وهو الآن مشهر في مدونة OrBinah.
(5) مسألة اتخاذ مختلف القضايا القريبة والبعيدة والأبعد كأداة لممارسة السياسة الداخلية تكاد تكون من ثوابت سياسة المعارضة الحديثة في المغرب. فحتى القضية الفلسطينية، التي كانت من خلالها جريدة "فسطين" مثلا التي كان يصدرها المرحوم عمر بنجلون في بداية السبعينات وسيلة إعلامية للحفاظ على الوجود، قد رُسخت في أدبيات الحِجر السياسي المتعدد الأطراف الممارس على الشعب الفلسطيني وأحقيته في دولته ووطنه المستقلين قبل مؤتمر القمة العربي بفاس (1982)، ك"قضية وطنية" مغرية في أدبيات تلك المعارضة.
(6) كانت قد تمثلت الخطوة الأولى في إعادة تأكيد الشرعية السياسية، بعد محاولتي الانقلابين (197، 1972)، ثم أحداث خنيفرة ومولاي بوعزة (مارس 1973)، في مبادرة المغرب مباشرة بعد هذه الأحداث الأخيرة - وفي إطار ما كان يزايد فيه اليسار بشأن قضية فلسطين - بالمبادرة الذكية المزدوجة المرامي السياسية بالإعلان عن إرسال تجريدة من القوات المسلحة الملكية إلى كل من سيناء والجولان في إطار تحضير غير معلن عن "حرب أكتوبر" لسنة 1973 ضد إسرائيل، تلك الحرب التي سميت كذلك "حرب رمضان المباركة التي نصر الله فيها أمة القرآن"، أو حرب "كيبّور" حسب موقع المسمّي، والتي كانت ليبيا معمر القدافي والجنيرال المصري، الشاذلي، اللاجئ إليها منشقا عن أنور السادات مدشن سياسة "الانفتاح"، يسميانها "حرب تحريك لا حرب تحرير". تلك الحرب التي شاركت فيها القوات المسلحة الملكية فعلا وبشراسة في معارك سيناء والجولان، وتوجت فيها مهمتها بالتخلي هناك عن عتادها الثقيل لفائدة الجبهتين؛ وذلك بخلاف حرب يونيو لسنة 1967 أو "حرب الستة أيام"، أيام عبد الناصر، التي لم تتمكن تلك القوات من اللحاق فيها بأي جبه، فبقيت في ليبيا الملك السنوسي لفترة تحت قيادة الجينيرال البوهالي، ثم لم يعلن بعد ذلك عن متى عادت، كما كان قد حظي ذهابها بتغطية إعلامية كُبرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.