شغلت الثورة الإيرانية منذ اندلاعها في أواخر سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن اهتمام العديد من الدوائر الأكاديمية والسياسية والإعلامية. فقد شكلت الثورة كنموذج جديد في السياسة والإيديولوجيا للبعض تحدّياً على كل من المستوى السياسي والإيديولوجي، وشكلت للبعض الآخر نموذجاً وقدوة تحتذى. ومن ناحية أخرى، شكل النظام السياسي الإيراني الذي تشكلت لبناته الأولى منذ اليوم الأول لنجاح الثورة مادة خصبة لدراسات العلوم السياسية سواء في مجال نظم الحكم أو العلاقات الخارجية ، فقد طرح النظام السياسي الإيراني خبرة جديدة للعلاقة بين الدّيني والسياسي في وقت استقرّ فيه على الفصل بينهما انطلاقا من أن هذا الفصل يسمح بنموّ وتطوّر أفضل لكليهما بعيداً عن الآخر. وجاء النظام الإيراني ليرسم شكلاً جديداً لنظام سياسي يضع فيه الديني في قلب النظام، والفقيه على رأسه، ويرسم شكلا متمايزاً للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الخارجية للمجتمع الإيراني. فقد اتخذت السياسات الخارجية للنظام الجديد منحى مختلفاً عن سياسات نظام الشاه، فبعد علاقات متمايزة واستراتيجية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والقوى التقليدية في المنطقة العربية جاء النظام الجديد حاملاً معه خطاباً راديكالياً هاجم فيه قوى الاستكبار وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، وتعهد لفظيا بالدفاع والتحالف مع قوى المستضعفين في الأرض. تبدأ الدراسة التي تناولت فيها الدكتورة أمل حمادة «الخبرة الإيرانية، الانتقال من الثورة إلى الدولة» والصادرة عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في يونيو 2008] تبدأ الدراسة والتي نقدم خطوطها العريضة في حلقتين، من عام 1979 عام نجاح الثورة الإسلامية في إيران وإعلان الجمهورية الإسلامية في فبراير من العام نفسه، باعتبار أن هذا التاريخ هو النقطة الفاصلة التي تحوّلت فيها الثورة من عملية ( Process) إلى حدث (Event ) محدد بذاته ومنقطع على بعض المستويات عن النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي السابق. وتستمر الدراسة إلى ما بعد وفاة الإمام الخميني لتشمل فترتي رئاسة رفسنجاني وخاتمي على اعتبار أن تينك المرحلتين شهدتا الانتقال التدريجي من الثورة إلى الدولة، وإن كان هناك حديث عن أن هذه المرحلة قد بدأت قبيل وفاة الإمام، وذلك منذ قبوله بقرار الأممالمتحدة بوقف القتال مع العراق لينهي بذلك ثماني سنوات من الصّراع المسلح بين الدولتين استهلك خلال هذه السنوات الطوال العديد من موارد الدولتيْن، واستغلت من جانبهما أيضا لتدعيم الجبهة الداخلية لكل منهما. وتتمثل إشكالية هذه الدراسة في محاولة دراسة عملية التحوّل من الثورة إلى الدولة، أي دراسة الفترة ما بعد عام 1979. هذا لاينفي بالطبع أن المؤلفة حاولت التعرّض، بقليل من التفصيل، إلى دراسة مرحلة التحوّل من الدولة إلى الثورة، أي دراسة عملية الانتقال الذي حدث في المجتمع الإيراني قبيل عام 1979، عملية الانتقال هذه، من الدولة إلى الثورة، ومن الثورة إلى الدولة، هي عملية متصل بعضها ببعض، وإن لم تكن تكراراً تاريخياً. تحاول الدراسة تتبع العديد من التغيّرات في النظام في الفترة منذ عام 1979 وحتى الآن بهدف التعرف إلى التغيّر على كل من مستوى القواعد السياسية والقانونية والمؤسسات والتفاعلات والتي تثبتُ أولا تثبت فرضية تحول النظام السياسي الإيراني من الثورة إلى الدولة، ومن ثم فإنه يمكن بلورة إشكالية الدراسة في التالي: ضرورة البحث في الأدوات والآليات والسياسات والمؤسسات التي أسهمت في عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة في الحالة الإيرانية. الصديق بوعلام الإطار النظري والمنهج العلمي وأما الإطار النظري لهذه الدراسة، فيتجلى في الاهتمام برصد وتحليل المجتمع الانتقالي في الخبرة السياسية الإيرانية بهدف دراسة عملية الانتقال، وذلك على مستويات ثلاثة: 1 التغير في القواعد القانونية التي تحكم حركة النظام. 2 التغير في المؤسسات. 3 التغير في شبكة العلاقات التي تربط القوى السياسية المختلفة والمؤسسات المرتبطة بها. ومن ثم اهتمت الدراسة بالأدبيات المختلفة في بحث كل من الثورة والدولة، بالإضافة إلى المرحلة الانتقالية بينهما. وكذلك تركز بحثها في الفكر السياسي الإيراني حول ظاهرتي الثورة والدولة انطلاقا من الدور الذي قام به هذا الفكر في الخبرة الإيرانية في الانتقال من الثورة إلى الدولة. واعتمدت المؤلفة بشكل أساسي على كل من منهج دراسة الحالة والمنهج المقارن ، ويفيد منهج دراسة الحالة في التعرف إلى كافة الجوانب المختلفة في الظاهرة موضع الدراسة، وفي حالة هذا البحث تكون المؤسسات السياسية في النظام الإيراني منذ ما بعد الثورة، بالإضافة إلى دراسة حالات الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي مرّ بها النظام في الفترة نفسها بغرض التعرف إلى مختلف التفاعلات السياسية التي حكمت نشأة هذه المؤسسات وطريقة عملها، بالإضافة إلى الكيفية التي أدار بها النظام الانتخابات ومدى قربها أو بعدها عن الثورة أو الدولة. أما بالنسبة إلى المنهج المقارن فتتعرض الدراسة لتحليل حالتيْن في التجربة الإيرانية وهما حالة الثورة وحالة الدولة ومرحلة الانتقال فيما بينهما من خلال دراسة التغير في السياسات والمؤسسات والتفاعلات. ومن ثم يفيد المنهج المقارن في دراسة التحوّل والتغيّر إما على مستوى المؤسسة عبر الفترات الزمنية المختلفة أو بين عدد من المؤسسات في الفترة الزمنية نفسها، وإن كانت الدراسة تركزّ على المقارنة بين الفترات الزمنية بغرض رصد التحوّل من الثورة إلى الدولة. وتستفيد المؤلفة من المدخل المؤسسي الذي يوفّر أرضية منهجية ضرورية ولازمة لدراسة نشأة المؤسسات السياسية بصفة عامة وتطوّرها وتغيّرها، ما يفيد في دراسة الحالة الإيرانية، ولكن مع التحفظ على أن التغير المفترض حدوثه في الحالة الإيرانية هو عملية وليست حالة، كما أنه تمّ في أثناء الانتقال المجتمعي والسياسي والايديولوجي من الثورة إلى الدولة. تنقسم هذه الدراسة إلى أربعة فصول تسبقها مقدمة وتعقبها خاتمة. يتناول الفصل الأول مناقشة الإطار النظري من خلال التركيز على الأدبيات التي تناولت بالدراسة الثورة والدولة والمرحلة الانتقالية. ويناقش القسم الأوّل الاقترابات المختلفة التي تمّ من خلالها العرض لدراسة الثورة والمفاهيم الفرعية المرتبطة بها كالايديولوجيا والجماعة الثورية. أما الثاني فيركز على مفهوم الانتقال أو المرحلة الانتقالية التي تفصل بين لحظة قيام الثورة واستعادة النظام السياسي لمظاهر الاستقرار السياسي المرتبط بالدولة. وناقشت المؤلفة الخصائص الرئيسية لهذه المرحلة من سيولة التحالفات والتنظيمات السياسية، وازدواجية المؤسسات السياسية، بالإضافة إلى مهامّ بناء ونقل المؤسسات في تلك المجتمعات. ويتعرّض القسم الثالث لمناقشة الدولة بالنظر إليها على أنها مرحلة في التطوّر التاريخي للمجتمعات واستئناف للمرحلة التي سبقت الثورة في المجتمع المعني. ويناقش الفصل الثاني في قسمه الأوّل عوامل قيام الثورة الإيرانية، فيقسمها إلى عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ويصل إلى أنّ العوامل الثقافية كان لها الثقل الأكبر في قيام الثورة، ولذلك يركز القسمان الثاني والثالث من هذا الفصل على الجهود الفكرية التي قدمها عدد من المفكرين الإيرانيين في الإعداد للثورة أو لشكل الدولة الي تلت عملية تغيير نظام الشاه، فيركز القسم الثاني على مفكري الثورة، وفيه مناقشة أفكار آية الله الخميني، وآية الله طالقاني، وعلي شريعتي، ونواب صفوي. والقسم الثالث يسلط الضوء على مفكري الدولة بالتركيز على أفكار الرئيس خاتمي وعبد الكريم سروش. أما الفصل الثالث فيبحث من خلال قسمين رئيسيين الإطار الدستوري والمؤسساتي للنظام الجديد. ويركز القسم الأول على عملية وضع الدستور في عام 1979 والظروف السياسية التي صاحبت وضعه، بالإضافة إلى مناقشة التعديلات الدستورية التي أقرت في عام 1989 والتغييرات التي نتجت من هذه التعديلات. ويركز القسم الثاني على عملية بناء المؤسسات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على اعتبار أنها من المؤشّرات التي تدلّ على استقرار التحوّل إلى الدولة. في هذا الإطار يتم تقسيم هذه المؤسسات إلى مؤسسات استحدثتها الثورة كترجمة لبرنامجها الايديولوجي ومؤسسات موروثة من نظام الشاه أدخل عليها عدد من التعديلات سواء على الاسم أو آليات العمل أو الوظائف المنوطة بها. أما الفصل الرابع فيرصد الانتقال إلى الدولة من خلال التفاعل بين مؤسسات الثورة ومؤسسات الدولة. فيحدد أقساما ثلاثة لرصد هذا التطوّر. القسم الأول يرصد التطور الذي طال عدداً من مؤسسات الثورة على رأسها الحرس الثوري ومجلس الرقابة على القوانين الذي عرف في بعض الأحيان بمجلس صيانة الدستور، أما القسم الثاني فيركز على التطوّر الذي طال البرلمان والرئاسة من خلال مناقشة الانتخابات البرلمانية والرئاسية على اعتبار دلالتها بالنسبة إلى شكل النخبة الحاكمة وآليات الدوران فيها. ويركز القسم الأخير على تطوّر ولاية الفقيه على المستوى الفكري والسياسي، وتعتبر ولاية الفقيه من أهم المؤسسات في الدلالة على جدلية العلاقة بين الثورة والدولة في إيران. فمنصب الولي الفقيه والسلطات المرتبطة به تعتبر الترجمة الحقيقية لفكرة الثورة ودور العلماء فيها كما ارتآها الإمام الخميني، وهي بهذا المنطق مؤسسة ثورة. ولكن في الوقت نفسه، حرص الإمام الخميني على وضع مجموعة من القواعد الدستورية والقانونية التي قننت وضع الفقيه بشكل يتجاوز شخص الإمام الخميني، ويؤسس للمنصب بشكل مستقر ومستمر، وبهذا فهي تنتمي إلى الدولة. وذلك ما نجح فيه النظام الإيراني، وانطلاقا من ذلك يدرس هذا القسم تطوّر العلاقة بين المرشد خامنئي وكل من الرئيس رفسنجاني والرئيس خاتمي لاستكشاف مدى التطور والاستقرار في التحوّل من الثورة إلى الدولة. أما خاتمة هذه الدراسة فتركز على مناقشة التحوّل من الثورة إلى الدولة من خلال إعادة قراءة الأسئلة الرئيسية للدراسة، بالإضافة إلى الخبرة التي تقدمها إيران بشكل خاص في إطار هذا الانتقال. عرّفت المؤلفة «الثورة» والاتجاهات المختلفة في دراستها ومنها الاتجاه الوظيفي، والاتجاه الاجتماعي النفسي، واتجاه التاريخ المقارن. ثم تطرقت للعلاقة بين الثورة والأيديولوجيا حيث «تقدم الأيديولوجيا مجموعة من القيم التي تتعلق بالوضع المراد تحقيقه والمعلومات حول وضع المجتمع المعني والفروض حول السبيل الأمثل لتحقق القيم على أرض الواقع العملي، وهي بهذا التعريف تمثل القوّة الدّافعة لكل من الجماعة الثورية والجماهير التي يتم تسيسها في مرحلة الإعداد للثورة» (ص 38 39). وبعد ذلك، حللت المؤلفة مفهوم «المرحلة الانتقالية» حيث تعتبر مسألة سيولة التنظيم السياسي والتحالفات المتغيّرة داخله وخارجه من أهمّ المشكلات التي يعانيها المجتمع في المراحل التي تلي نجاح الثورة وتغيير النظام السياسي، ما يجعل المرحلة الانتقالية التي يعيشها المجتمع فترة ما بعد نجاح الثورة إلى أن تستقر الأوضاع للنظام الجديد تتميز بسمات خاصة على مستوى المؤسسات والعلاقات الداخلية والخارجية، بالإضافة إلى الشكل الذي تستقر عليه تحالفات النظام الجديد» (ص 45 - 46). «إنّ بناء المؤسسة الجديدة لابد أن يبدأ بتحديد القيم والوظائف المرتبطة بهذه المؤسسة، وكذلك الهدف المرد تحقيقه من خلال استحداث مؤسسة جديدة بدلا من محاولة تحقيق هذه الأهداف من خلال مؤسسات قائمة بالفعل. فعملية قبول المؤسسات في تلك المجتمعات التي شهدت ثورة عنيفة لابد من أن تستغرق بعض الوقت نظرا إلى المقاومة التي قد تلقاها تلك المؤسسة الجديدة من أنصار المؤسسات القديمة، والذين يميلون لاعتبار هذه المؤسسة الجديدة منافسة ومهددة لهم، بالإضافة إلى الوقت الذي تحتاجه تلك المؤسسة الجديدة حتى تتمكن من تعبئة الموارد المادية والبشرية والتأييد اللازم لنجاح عملها» (ص 49 / 50). وبعد دراسة مفهوم الثورة، انتقلت المؤلفة لبحث مفهوم الدولة، فبيّنت أن الدولة تعتبر «من أقدم المفاهيم في العلوم السياسية، وقد ارتبطت غالبية البحوث في علم السياسة بتعريفها وتحديد نطاقها ووظائفها ودورة حياتها والدور الذي يجب أن تؤديه أو لا تؤديه الدولة في حياة الأفراد» (ص 57). وتهتم الدراسة، في هذا الجزء، بالدولة باعتبارها استكمالا أو رجوعا للنمط الذي سبق الثورة، بمعنى: النظام السياسي، وإن تغيرت أسس شرعيته وطبيعة العلاقات التي تحكم أطرافه الداخلية والخارجية، فالجزء السابق عرض دراسة المرحلة الانتقالية كمرحلة مؤقتة بين اللحظة الثورية التي انهار فيها النظام القديم وتولت فيها نخبة سياسية جديدة مقاليد الحكم، وبين الدولة بما هو معروف عنها من استقرار للمؤسسات والسياسات والعلاقات بين مختلف القوى السياسية المتفاعلة بداخلها، ويمكن رصد مؤشرات التحول إلى الدولة على مستمر الانتقال من خلال المؤسسات، والآليات، والخطاب السياسي. وتقول المؤلفة: «وفي ما يخص إيران فإن هناك عددا من القضايا ذات الأهمية التي تجب مناقشتها في إطار دراستنا الانتقال من الثورة إلى الدولة. إيران دولة تنتمي إلى العالم الثالث من حيث الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد، فهي تقع في الجزء الغربي من قارة آسيا، وتتاخم حدودها حدود الوطن العربي، وتشترك مع دول الخليج العربي في أن النمط هو السلعة الاقتصادية الأولى التي تنتجها وتصدّرها إلى العالم الخارجي، بالإضافة إلى اشتراكها في تراث الإسلام الطويل سياسيا وثقافيا واجتماعيا، من ثم فالخبرة الإيرانية تمتلك كثيرا من السمات المشتركة مع خبرة الدول العربية، وإن افترقت عنها في نقطتين أساسيتين: الأولى: تتعلق بالمذهب الشيعي، وهو المذهب الرسمي لإيران الذي يتمايز عن المذهب السني، والذي هو مذهب الدول العربية، والنقطة الثانية: تتعلق بشكل التغيير السياسي الذي مرّت به إيران مقارنة بالدول العربية الأخرى. فالدول العربية مرّت من خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين بتجربة تحرر وطني من الاستعمار الأوروبي جاءت بنخب وطنية للحكم محل النخب القديمة الاستعمارية أو المرتبطة بالاستعمار فكرا ومصلحة. في الوقت الذي حكمت إيران فيه نخبة سياسية رأت في الارتباط بالغرب من الناحية السياسية والاقتصادية والثقافية طريقا للانتقال إلى الحضارة العظيمة. وحملت نهايات القرن العشرين خبرة مخالفة للتغيير السياسي ارتبطت بتجربة ثورية تُعدّ من الثورات الكبرى في التاريخ البشري نظرا إلى حجم التغيير والتأثير الذي أحدثته في نظامها وفي التجارب المحيطة بها، ولذلك هناك عدد من الملاحظات التي تتعلق بالدولة العربية بشكل عام، وأخرى تتعلق بالخبرة الإيرانية بشكل خاص»(ص 59 - 60). الملاحظة الأولى تتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة في الوطن العربي والعالم الإسلامي. والملاحظة الثانية تتعلق بخبرة بناء الدولة في الوطن العربي المراحل التي تلت التحرر من الاستعمار التقليدي، والتي يمكن - حسب المؤلفة - أن نسحبها بقدر من التحفظ على الخبرة الإيرانية في ما بعد الثورة على نظام الشاه. الثورة والدولة في الفكر السياسي الإيراني: ركّزت المؤلفة في الفصل الثاني من هذا الكتاب على دراسة المرحلة التي سبقت قيام الثورة الإيرانية من خلال مناقشة العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي حكمت التفاعلات في السنوات الأخيرة لنظام الشاه. وانتقلت، بعد ذلك، إلى دراسة الفكر السياسي الإيراني في ما يتعلق بمسألتي الثورة والدولة انطلاقا من اعتبار أن العوامل الثقافية والمجتمعية لها الدور الأكبر في قيام الثورة، وفي شكل القيادة السياسية التي ارتبطت بها. ثم اهتمت الباحثة بدراسة فكرة الثورة عند عدد من مفكري إيران المحدثين من داخل المؤسسة الدينية ومن خارجها. ولأسباب تتعلق بتسهيل الدراسة، فقد تم تقسيمهم إلى قسمين رئيسيين: - القسم الأول: هم المفكرون الذين أسهموا في تطوير الفكر السياسي الإيراني بما سهّل الثورة، ولكن لم تتح لهم فرصة الاشتراك في التغيير الثوري الذي حدث عام 1949، ونموذجهم علي شريعتي ونواب صفوي. - القسم الثاني: هم المفكرون الذين أسهموا في كل من الفكر والحركة السياسية (الخميني وطالقاني). وتؤكد المؤلفة أن النماذج التي تعاملت معها في هذا الجزء لا تنفي وجود آخرين على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي كان لهم تأثير في نجاح الثورة أو في تطوير فكرة الدولة وتقويمها، ولكنها اقتصرت على هذه النماذج لأسباب تتعلق بوجود إسهام فكري مكتوب يتعلق بالتأصيل للثورة. تقول: «وفي الوقت الذي يبدو اختيار فكر وإسهام الإمام الخميني في الثورة والدولة مبررا، حيث إنه قاد تحالف المعارضة ضد الشاه وصولا إلى المراحل الأخيرة من الثورة، وبعدها قاد الدولة الجديدة عبر سنوات عشر. لابد أن نفسر لماذا تم اختيار كل من آية الله طالقاني وعلي شريعتي ونواب صفوي. فأما آية الله طالقاني فقد ارتبط دوره بحركة المعارضة ضد الشاه لفترة طويلة قبل نجاح ثورة 1979. واختلف عن الإمام الخميني بتعاونه حركيا مع جماعة من خارج المؤسسة الدينية (جماعة مجاهدي خلق)، بالإضافة إلى الدور الذي قام به في إنشاء مؤسسات تعليمية أسهمت في تعبئة أعداد من الشباب الإيراني المتعلم...» (ص 88/87). «وحظي علي شريعتي باهتمام المراقبين والمهتمين بدراسة الثورة الإيرانية ما قد يغني عن المزيد في هذا الإطار» (ص 88). «أما نواب صفوي الذي لم يحظ بكثير من الاهتمام في الكتابات عن الإعداد الفكري للثورة فقد استحق بعض الاهتمام (...) وقد ارتبط نواب صفوي بالمؤسسة الحاكمة الإيرانية ونظام الشاه في إحدى مراحل تطوره الفكري وانقلب عليه في مرحلة تالية، وهو بهذا يقدم طرحا ونموذجا مختلفا عن شريعتي والخميني وآية الله طالقاني، فكل منهم لم يتم استيعابه أو محاولة التوفيق بينه وبين النظام السياسي، على العكس من ذلك كانت المعارضة والعداء بين الطرفين مستمرة» (ص 89/88). وتضيف الباحثة: «ومن ناحية ثانية، فإن المفكرين التي سبقت الإشارة إليهم سنحت لهم فرصة محاولة تطبيق أفكارهم على الواقع العملي سواء عندما نجحوا في قيادة حركة مجتمعية تهدف إلى التغيير السياسي (الخميني وطالقاني)، أو عندما تبنى آخرون قادرون على التأثير هذه الأفكار (شريعتي ونواب صفوي)، وإن كان من الضروري أن نشير إلى البعد الزمني، حيث أعدم نواب صفوي من جانب نظام الشاه قبل تفجر الثورة بسنوات طويلة، واغتيل شريعتي في النصف الثاني من السبعينيات، وتوفي آية الله طالقاني بعد نجاح الثورة بسنوات قليلة، بينما شهد الإمام الخميني العقد الأول من عمر النظام الجديد بكل ما حملته هذه السنوات من تحديات وفرص» (ص 89). وتقصد المؤلفة بمفكري الدولة المفكرين والمثقفين الإيرانيين الذين عاصروا دولة النظام الجديد الذي نجح في ثورته وبدأ يحاول تدعيم أسس جديدة للتفاعل داخل المجتمع على كل المستويات القانونية والحياتية. ومن ثم ركزت على كل من الرئيس خاتمي وعبد الكريم سروش. فقد «حظي خاتمي باهتمام كبير من وسائل الإعلام والمراقبين منذ توليه الرئاسة في عام 1997، واعتبر بعضهم أن توليه مقدمة لتحوّل دراماتيكي في السياسة الداخلية والخارجية الإيرانية، وتمهيدا لمزيد من الديمقراطية والليبرالية وانحسارا لسيطرة الفقهاء على النظام الإيراني. هذه التوقعات - وإن لم تصدق - إلا أنه يمكننا إهمال التأثير الذي أحدثته أفكار خاتمي في إيران من أكثر من ناحية، فقد أشر عهد خاتمي لمرحلة جديدة من الانفتاح الاجتماعي في مجال الحريات بعد أن ظل المجتمع منغلقا طوال فترة الثمانينيات والتسعينيات وهو الأمر الذي ترجم نفسه في الشعبية الطاغية التي تمتع بها بين أوساط الشباب والنساء. ومن ناحية ثانية، فإن خاتمي، الذي بدأ حياته العملية من خلال إسهاماته في مجال الفكر، لديه العديد من الكتابات حول العلاقة بين الدين والحرية والدين والتنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى مقولاته الأشهر حول حوار الحضارات. هذه الكتابات يمكننا اعتبارها بمثابة الفتيل الذي أطلق العديد من الكتابات حول الموضوعات نفسها (...) كذلك يمثل خاتمي حالة التداخل بين المؤسسة الدينية ومن هم خارجها، فهو السيد المتحدر من نسل الأشراف، والمعمم المنتمي تعليما وثقافة إلى التعليم الديني التقليدي، ومن ناحية أخرى حصل على التعليم المدني في مجال علوم الاجتماع والفلسفة، وعاش في الغرب فترة طويلة بصفته مديرا للمركز الإسلامي في هامبورغ بألمانيا، ما أتاح له التعرض للأفكار والحضارة الغربية، السيد خاتمي، الذي أصبح بالفعل آخر رئيس معمم للجمهورية الإسلامية الإيرانية، أتاحت له خلفيته التعليمية تحليل الواقع السياسي الإيراني ومحاولة التعامل مع المشكلات الناتجة من تفاعلات السياسة اليومية، ومن ثم حول صياغة مجموعة من الأفكار في إطار الدولة الإسلامية تتمكن من مواجهة المشكلات والتحديات الجديدة» (ص 126 / 127). أما المفكر الأخير في هذا الجزء فهو سروش، وتبدو أهميته «من التحدي الذي يمثله للعلاقة الوثيقة بين الدين والسياسة، وهو ما حاولت الدولة الإيرانية مأسسته من خلال مبدأ ولاية الفقيه المنصوص عليها في الدستور الإيراني. سروش يمثل تيارا بدأ من داخل الثورة، كما سيتضح في الصفحات التالية، وتغير موقفه من الثورة إلى ابن لها ومدافِع عن توجّهها الأيديولوجي ضد الأفكار الماركسية، والتي اعتبرها أفكارا جامدة لا تتناسب مع العصر الحديث، تحوّل بعدها نتيجة لعدد من الظروف إلى أن يكون من أكبر منتقدي دور الفقهاء السياسي، ومطالبا بتدعيم مناخ الحريات وحقوق الإنسان. انطلاقا من عدم تعارض هذه الحقوق الإنسانية مع الدين الإسلامي. بطبيعة الحال لا يمكننا أن نقول إن أفكار سروش أحدثت أثرا مماثلا لما أحدثته أفكار علي شريعتي أو الإمام الخميني أو آية الله طالقاني أو خاتمي. فقد مكن الظرف التاريخي الذي عاش فيه كل منهم من جذب قطاعات عريضة مؤيدة لأفكاره، وهو الأمر الذي لم يتوافر لسروش، وعلى صعيد آخر، لا يمكننا إنكار الأثر السلبي الذي أحدثته حالة التشرذم التي عاناها التيار الإصلاحي (وهو التيار الأكبر الذي ينتمي إليه سروش)، على انتشار أفكاره، وكذلك التعقب والمنع الذي مورس ضده من جانب التيار المحافظ» (ص 128/127). إن هذه الدراسة حول الدولة الإيرانية لا ترتبط - كما تقول المؤلفة - بدراسة الدولة في حال الاستقرار ولكن في حال التغير، بعبارة أخرى بدراسة الدولة في حال البناء. هل تعني بهذا دراسة الدولة في حال مأسسة السلطة أو في حال البحث عن هوية؟ أو الأمرين سوياً؟ «الواقع أن التجربة الإيرانية تتعلق جزئيا بفرض مؤسسات جديدة وتعديل بعض منها وقبول بعض آخر، كما تتعلق بإعادة التأكيد على هوية يرى القائمون على الثورة أنه تم طمسها وتغييبها من جانب النظام السابق. وفي جزء ثالث تتعلق بنظرة إلى كيفية إدارة العملية السياسية بين مختلف القوى السياسية، أو بعبارة أخرى حول الحدود المسموحة التي يتم التعامل والتفاعل حولها من جانب مختلف القوى السياسية (لعبة الإقصاء والاحتواء لمن هم خارج المنظومة ومن هم داخلها)» (ص 148).