يناقش تريتا بارْزي الخبير في السياسة الخارجية الأمريكية في كتابه «حلف المصالح المشتركة: التعاملات السرية بين إسرائيل وإيرانوالولاياتالمتحدة» الذي ترجمه إلى اللغة العربية أمين الأيوبي، وصدر عن الدار العربية للعلوم ناشرون سنة 2007، السياسة الخارجية حيث يركّز فيه على العلاقات بين هذه الدول (إيران، إسرائيل، الولاياتالمتحدة) وليس على التطورات الداخلية التي لها - حسبما يقول - تأثير ضئيل أولا تأثير لها - بالرغم من أهميتها - في السياسات الخارجية لهذه الدول. كما أنه لم يَسْعَ إلى تقديم تفسير عميق للإيديولوجيات التي يعتنقها قادة هذه الدول. بدلا من ذلك، اقتصر على دراسة الأفكار ووجهات النظر العالمية هذه فقط فيما يتعلق بمدى تأثيرها في السياسة الخارجية لكل من إسرائيل وإيران. لكن هذه المقارنة لا تعني عدم وجود صلة بين الإيديولوجيات وهذا الصراع على الإطلاق أو أنّ اعتناقها محل تساؤل. بل على العكس من ذلك، يتمسك كل من القادة الإسرائيليين والإيرانيين بقوة بإيديولوجيات ووجهات نظر عالمية، ويتعاملون معها على محمل الجد. غير أن القول بأن هذه الإيديولوجيات هي العامل الرئيسي المحدد في العلاقات الإسرائيلية الإيرانية مسألة مختلفة تماما. ومن خلال مقابلات المؤلف المباشرة مع صنّاع القرار، حصل على روايات للأحداث وطريقة التفكير التي أنتجت القرارات الاستراتيجية من مصادر عليمة. ويقول إنه لم يسبق أن توفر العديد من هذه الروايات والتعليلات المنطقية لعامة الناس من قبل. إن المقابلات التي أُجريت مع المسؤولين الإيرانيين على وجه الخصوص كشفت بواطن الأمور، واخترقت جوانب نادرا ما كانت تُناقش من قبل - في حال ما إذا نوقشت أصلا - بشكل علني في إيران، مع توخي الحذر من أجهزة الرقابة التي تواجهها وسائل الإعلام المطبوعة في ما يتعلق بقضايا حساسة مثل إسرائيل، الأمر نفسه ينطبق إلى حد معيّن على إسرائيل، حيث المشكلة هناك ليست في الرقابة الحكومية - كما يقول المؤلف - وإنما في السرد الذي ركّز بشكل شبه حصري على التهديد العسكري المتصوَّر من إيران والذي أهمل الحسابات الاستراتيجية الأساسية لدى صنّاع القرار الإسرائيليين والإيرانيين. ومن أجل ضمان إمكانية التعويل على هذه المقابلات والروايات أجرى المؤلف مقابلات مع عدد كبير على نحو غير عادي من الأشخاص، وأجرى مقارنة بين الروايات التي رووها. وتم اختيار الأشخاص الذين أجرى مقابلات معهم بناء على مشاركاتهم الخاصة في رسم السياسة الخارجية الإيرانية، أو الإسرائيلية أو الأمريكية، أو بناء على اطلاعهم على تلك العملية. وأحال الروايات المقتبسة إلى المسؤولين والمحللين في كافة الحالات عدا النزر اليسير منها. بالإضافة إلى ذلك تمكّن المؤلف، بصفته مستشارا لدى أحد أعضاء الكونغريس الأمريكي، من الاطلاع على بعض التعاملات السرية بين هذه البلدان والتي تحفل بها الفصول الأخيرة من هذا الكتاب الذي يعالج طبيعة العلاقات الإسرائيلية الإيرانية منذ إنشاء الكيان الصهيوني في العام 1948 وحتى وقت صدوره، وقد قام بذلك في ثلاثة أقسام. عالج في القسم الأول السياق التاريخي للمثلث الأمريكي الإسرائيلي الإيراني أثناء الحرب الباردة. كما ناقش في القسم الأول الاتفاق التفاهمي الإسرائيلي الإيراني في أيام الشاه، إضافة إلى روابط الطرفين السرية في أيام الجمهورية الإسلامية. وقام بتفحّص المعلومات الخاصة بالاتفاق التفاهمي الإسرائيلي الإيراني، والجهود الإسرائيلية المكثفة لترقيع العلاقات الأمريكيةالإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي وسياسة إيران في تعاملها مع إسرائيل. وبيّن في القسم الثاني من الكتاب كيف غيّرت الهزة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي وهزيمة العراق في حرب الخليج في العام 1991 بشكل جذري العلاقات بين الولاياتالمتحدةوإيران وإسرائيل. ففي الشرق الأوسط الذي برز بعد هذا التصدّع الجيوسياسي، لم تعد إيران وإسرائيل تنظران إلى بعضهما كشريكين محتملين في موضوع الأمن، بل كمتنافسَيْن في تحديد التوازن في الشرق الأوسط، وهنا ناقش تحوّل إيران إلى خصم نشِطٍ لإسرائيل والتحوّل الكلي لتل أبيب إلى معارضة التقارب الأمريكي الإيراني بدلا من دعمه، إضافة إلى الجهود التي تبذلها كل من إيران وإسرائيل لإجهاض السياسات الأمريكية في المنطقة التي يعتبرها كل من الطرفيْن تصب في مصلحة الآخر. وناقش المؤلف، في القسم الأخير من هذا الكتاب الخيارات التي تفكر فيها واشنطن في الوقت الحالي. محمود أحمدي نجاد: إزالة نظام إسرائيل «يتعيّن إزالة هذا النظام الذي يحتلّ القدس من صفحات التاريخ». بهذه الكلمات، التي قيلت في طهران في أكتوبر / تشرين الأول 2005، رفع محمود أحمدي نجاد، الرئيس الإيراني، حدّة المنافسة بين إيران وإسرائيل التي كانت تغلي - حسب عبارة المؤلف - على نار هادئة منذ أكثر من خمسة عشر عاما، إلى درجة الغليان. غالبا ما كان يجري تفادي بحث التوترات الإسرائيلية الإيرانية، التي تُعامل دائما على أنها ثمرة صراع هامشي، من قِبل صنّاع القرار في واشنطن، والذين ركّزوا على النزاع الإسرائيلي الفلسطيني أو على الإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين. ويرى المؤلف أن صنّاع القرار في واشنطن بقيامهم بذلك، فشلوا في الاعتراف بأن التنافس الجيوسياسي بين إسرائيل وإيران هو الصراع الأساسي - منذ انتهاء الحرب الباردة - الذي رسم سياق كافة المسائل الأخرى تقريبا في المنطقة. يقول: «بعد انتهاء الحرب الباردة وهزيمة العراق في حرب الخليج في العام 1991، تبخّرت الاعتبارات الإستراتيجية التي كانت قد وضعت إيران وإسرائيل على الجانب الجيوسياسي نفسه في القسم الأخير من القرن العشرين. وسرعان ما وجدت إسرائيل وإيران نفسيْهما، في غياب أي أعداء مشتركين، في منافس على إعادة رسم النظام الإقليمي بعد الإجهاز على الجيش العراقي. وخشية اختلال الوزن الاستراتيجي الإسرائيلي في حال برزت إيران كقوة عظمى في الشرق الأوسط، بدأ السياسيون الإسرائيليون بوصف النظام في طهران بالمتعصّب وغير العقلاني. من الواضح أنهم أصروا على أن التوصل إلى تسوية مع الملالي أمر ميؤوس منه. بدلا من ذلك، طالبوا الولاياتالمتحدة بتصنيف إيران، إلى جانب العراق الخاضع تحت حكم صدام، بالدولة الشريرة التي يتعين احتواؤها، في البداية، قوبل تغيير مزاج إسرائيل تجاه إيران بالتشكيك في واشنطن بالرغم من أن الإسرائيليين عرضوا الحجة نفسها اليوم، وتحديدا قولهم إن البرنامج النووي الإيراني سيوفر للملالي... إمكانية الحصول على قنبلة، وكتب كلايد هبرمان في النيويورك تايمز في نوفمبر / تشرين الثاني 1992، «لماذا انتظر الإسرائيليون حتى وقت قريب لكي يطلقوا إنذارا قويا، هذا سؤال محيّر؟» وتابع هبرمان حديثه فقال: «ظلت إسرائيل على مدى عدة سنوات على استعداد للتعامل مع إيران، حتى عندما كان الملالي في طهران يصرخون مطالبين بإزالة الكيان الصهيوني» (...) تمثلت الاستراتيجية الإسرائيلية في إقناع العالم - وواشنطن على الخصوص - بأن الصراع الإسرائيلي الإيراني ليس صراعا بين متنافسَيْن على التفوق العسكري في منطقة مختلة النظام بشكل أساسي، وتفتقر إلى التدرج في السلطة. بالمقابل، حصرت إسرائيل الصراع كما لو أنه صراع بين ديموقراطية وحيدة في الشرق الأوسط! وحكم ديني توتاليتاري يكره كل ما يمثله الغرب! بتصوير الوضع بتلك العبارات، جادلت إسرائيل بأن ولاء الدول الغربية لإسرائيل لم يعد مسألة خيار أو مجرد مصلحة سياسية، بل مسألة بقاء أو صراع بين الخير والشر على أقلّ تقدير!» (ص 19/18)، ويعلق المؤلّف على تصريح نائب وزير الدفاع الاسرائيلي إفرايم سنيه في مؤتمر انعقد في جنوب أوروبا في 28 يوليوز 2006 في منتصف الحرب اللبنانية الإسرائيلية: «الحرب مع إيران حتمية. فلبنان ليس سوى توطئة للحرب الكبرى مع إيران» بقوله: «في أعقاب حرب خلّفت أكثر من ألف وخمسمائة قتيل، جلّهم من المدنيين اللبنانيين، وأدت إلى نزوح تسعمائة ألف لبناني وثلاثمائة ألف إسرائيلي، وألحقت أضرارا جسيمة بالبنية التحتية اللبنانية، وعرقلت الحياة الطبيعية في كافة الأراضي اللبنانية وفي شمال إسرائيل، تبقى توقعات «سنيه» تحذيرا ينذر بالشؤم، لكن في حال صدقت توقعاته، فالنزاع لن يقتصر على إسرائل وإيران، بل سيكون حربا إقليمية، يجرّ الدول والجهات الفاعلة من غير الدول على حدّ سواء. كما أنها ستكون حرب أمريكا أيضا، تماما كما يرغب في ذلك المحافظون الجدد بشدة. على العكس من العراق يمكن لإيران أن تلحق أذى مدمّراً بالولاياتالمتحدة بسبب القدرات العسكرية غير النظامية المنتشرة في مختلف أرجاء المنطقة. مرحلة الحرب الباردة يشير المؤلف إلى أن إيران، بوصفها الدولة الأقوى في محيط إسرائيل، كانت عاملا حاسما في الاستراتيجية السياسية الكلية لتل أبيب. لكنّ إسرائيل لم تكن ذات أهمية مماثلة بالنسبة لإيران على الرغم من حاجة إيران إلى التكنولوجيا الاسرائيلية. لقد ظلت إيران طوال عقد الخمسينيات تنظر إلى إسرائيل أساسا كوسيلة لمنع السوفيات - وليس العرب - من إحراز تقدم في المنطقة. فقد شكل الاتحاد السوفياتي الخطر الرئيسي على إيران لأنه كان ينظر إلى احتياطيات النفط في المنطقة ويستخدم مصر في زمن عبد الناصر كوكيل له لاختراق الخليج العربي (ص 48). ومن الواضح أن مخاوف الإيرانيين من الاتحاد السوفياتي أفادت الولاياتالمتحدة لأنها جعلت إيران أكثر تلهّفا لحماية القوى العظمى الغربية. يرى المؤلف أنه مع مرور الوقت بات الخطر العربي يلعب دورا أعظم في التفكير الاستراتيجي الإيراني. ومع تزايد الخطر العربي على إيران، زادت حاجة إيران العسكرية إلى إسرائيل - بشكل يوحي بالتناقض - وزادت حاجتها إلى إبقاء تعاملاتها مع إسرائيل سرا. ويقول إن إيران آثرت إبقاء معظم أوجه تعاونها مع إسرائيل بعيدة عن مسامع الرأي العام، فقد اعتقد الشاه بأن العلاقات العلنية مع إسرائيل ستضر بعلاقات إيران مع الدول العربية وتذكي المعارضة العربية للسياسات الإيرانية في الخليج العربي. من ناحية أخرى كان بحاجة إلى إسرائيل لموازنة الخطر الذي يشكّله السوفيات والدول العربية الموالية لهم. «لكن طهران أبقت زيارات مسؤوليها لإسرائيل سرّاً، فكان الإيرانيون يسافرون إلى إسرائيل عبر تركيا من غير تختيم جوازات سفرهم لدى وصولهم إلى الدولة اليهودية. (...) شكلت الزيارة الأولى التي قام بها بن غوريون لإيران في العام 1961 سابقة في البروتوكول السري. فقد أبقيت الزيارة سرا، واتبعت الرحلات المتتالية التي قام بها رؤساء الوزراء الإسرائيليون لإيران البروتوكول نفسه. بعد ذلك بسنين قليلة، حث الدبلوماسيون الإسرائيليون في طهران رئيسة الوزراء غولدا مئير على انتهاج خط هجومي أكثر مع الشاه في هذه المسألة وعلى تغيير البروتوكول. فقد تصوّر صنّاع السياسة في تل أبيب أنه مع الإعلان عن علاقات إسرائيل مع إيران على الملأ، لن يكون أمام إيران أي خيار سوى الاعتراف بإسرائيل بطريقة رسمية. في الواقع، كان الإسرائيليون ينتهزون كل فرصة لجعل تعاملاتهم مع إيران علنية» (ص 51/50). ويستنتج المؤلف أنه إذا ضعفت إيران بسبب مصر والعراق، سيتعزز موقف الجانب العربي وسيتحرر الجيش العراقي مما يسمح له بالمشاركة في هجوم عربي محتمل على إسرائيل. لكن طالما أن إيران توازن العراق، وتحوّل انتباه القوّات المسلّحة العراقية نحو الشرق وبعيدا عن الدولة اليهودية، كان يتوفر لإسرائيل نافذة أمن صغيرة ولكنها هامة، ولذلك قدّمت الاستخبارات الإسرائيلية لإيران - التي كان جيشها يستعدّ بشكل متواصل لمواجهة هجمات مصرية أو عراقية محتملة - معلومات استخباراتية مكثفة عن التحركات والمخططات العسكرية المصرية (ص 53). بعد هزيمة 1967 التفت الإيرانيون إلى الأمريكيين للضغط على إسرائيل لحملها على تبنّي موقف أكثر مرونة في تعاملها مع العرب. فقد اعتقدت إيران بأن إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة لن يعمل سوى على تأجيج الصراع وإطالة أمده. لكن الشاه كان يفكر أيضا في المصالح الخاصة بإيران والنتائج الاستراتيجية بعيدة المدى للأعمال الإسرائلية، فكما استفادت مصر سابقا من التقارب السياسي بين إيران وإسرائيل في الدفع بمصالحها في المنطقة على حساب إيران، مهّد انتقاد إيران للسياسات التوسعية التي تنتهجها إسرائيل الطريق أمام إعادة الدفء إلى العلاقات الإيرانية العربية. ويقول المؤلف إن هزيمة 1967 أجبرت القاهرة على مراجعة استراتيجية الترويج لقيادتها في العالم العربي عبر الوقوف في جانب موسكو وتحدّي الولاياتالمتحدةوإيران فقد تحطمت أحلام عبد الناصر وأُجبر على التقليل من طموحاته الإقليمية. وفيما كانت مصر تستكشف طريقا لإعادة توجيه سياستها بحيث يبعدها عن الاتحاد السوفياتي في ظل أنوار السادات - خليفة عبد الناصر - فُتحت كُوّة بين إيران ومصر كان لها أثر عميق في علاقات إيران بإسرائيل: فقد تبنّت مصر سياسة خارجية معتدلة، واعترفت بدعم إيران العلني لموقف العرب في ما يتعلق بالقرار 242. وشكل ذلك خطوة في اتجاه التخفيف من التوتّرات العربية الإيرانية. بعد القطيعة التي وقعت بين السادات والاتحاد السوفياتي، حوّلت موسكو تركيزها إلى العراق، وسرعان ما حلّ العراق محل مصر بوصفه العدو العربي الرئيسي، وأدى رفض السادات للنزعة الوحدوية العربية المسلحة التي كان يؤمن بها عبد الناصر إلى وقف إيران كافة خططها العسكرية التي تستهدف مصر. وبالمقابل استمر التخطيط الموجّه ضد العراق وزادت كثافته. وفي الوقت الذي كان فيه التقارب الإيراني العربي يولّد احتكاكا بين طهران وتل أبيب، ساعد بروز الخطر العراقي على توفير أرضية جيوسياسية صلبة لاستمرار الاتفاق التفاهمي الإيراني الإسرائيلي السري (ص 63). ويرى المؤلف أنه بموجب سياسة الدعامة المزدوجة، أوكلت الولاياتالمتحدة أمن الخليج العربي إلى الدولتين الأقوى في المنطقة، إيران والمملكة العربية السعودية. لكن بما أن إيران الدولة الأكثر كثافة بالسكان والأقوى عسكريا في المنطقة، وبما أنها البلد الرئيسي الذي يطل على مضيق هرمز الاستراتيجي، فقد وقع جل العبء الأمني على كاهلها، وهو ما كان مبعث ارتياح عظيم لدى الشاه (ص 64)، وفي نهاية الستينيات أصبحت حاجة الشاه - الذي انتهج سياسة أكثر استقلالية عن الولاياتالمتحدة - إلى واشنطن أقل من حاجة أمريكا إلى إيران. ويعود ذلك جزئيا إلى ارتفاع عائدات إيران النفطية من جهة، وإلى التوسع الأمريكي الزائد في جنوب شرق آسيا من جهة أخرى. وفي ذروة الضعف الذي اعترى أمريكا، رفع الشاه بطريقة حاذقة مصالح إيران ودورها إلى واشنطن، وفاز بتنازلات منها لم يكن يجرؤ أحد من حلفاء الولاياتالمتحدة على تخيلها. وابتداء من الستينيات، شهدت إيران نموا لم يسبق له مثيل في قدراتها العسكرية والاقتصادية. سعي إيران إلى الهيمنة يرى الإيرانيون أن بلادهم هي المهيمن الطبيعي في منطقة الخليج. فضعف جيران إيران يجعلهم غير مؤهلين للتطلع لمشروع احتلال ذلك الموقع. ويشرح غلام رضا أفخامي، المستشار السابق لدى الشاه، ذلك بقوله: «لا يمكن لأحد أن يضارع قوة إيران، أو ثقافة إيران، أو تاريخ إيران» (ص 68/67). كانت واشنطن على دراية تامة بطموح الشاه إلى العظمة الإمبراطورية ووجدت الحافز الإيراني مشروعا، بالرغم من أنه غالبا ما اصطدمت طموحاته بطموحات واشنطن. كانت الإصلاحات الاقتصادية الطموحة للشاه، وكذلك إنفاقه العسكري السخي، يهدفان إلى جعل إيران البلد الأقوى في المنطقة. ظهرت مؤشرات واضحة في مستهل سبعينيات القرن الماضي تدل على أن إيران بلغت ذلك الهدف. لكن تنامي قوة إيران أوجب إدخال تعديلات في سياستها الخارجية للفوز باعتراف الدول الأخرى التي كانت تربطها بإيران بشكل تقليدي علاقات غير متينة. فبدون هذا الاعتراف، لن تتمكن إيران من التمتع بثمار موقعها الجديد. واعتقد الشاه بأن الطريقة الوحيدة لكي يحدث ذلك ستكون في امتلاك إيران سيطرة سياسية ما على طريق نقل النفط، على غرار ما فعل الأمريكيون تماما. وأدرك الشاه أن إيران بحاجة الآن إلى دور سياسي يتناسب مع قوتها الاقتصادية المتنامية، لقد شعرت إيران بأنها ستصبح قويّة بما فيه الكفاية لوضع حد للعبة الموازنة وعقد صداقات مع أعدائها العرب من موقع قوة. وهنا برز الخيار العربي لإيران. أي التقرب من موقف العرب في صراعهم مع إسرائيل. وعنى ذلك أن الاعتراضات الإسرائيلية باتت غير ذات أهمية على نحو متزايد بالنسبة إلى إيران التي أظهرت مثلا حساسية متزايدة لمشاعر العرب حيال التعاون العسكري الإيراني الإسرائيلي. أفرزت حرب أكتوبر 1973 التي حقق فيها العرب نصرا واضحا على إسرائيل تحديات وفرصا لإيران، فمن ناحية، لم تكن إيران تريد أن ترى نصرا عربيا يسمح لتلك الدول بإهمال إسرائيل بالكامل والتركيز بالكامل على إيران. وفيما سعت إسرائيل إلى منع حدوث تحسّن في العلاقات العربية الإيرانية، أقرت تل أبيب بأن لإيران مصلحة في الإبقاء على مستوى معين من العداوة بين إسرائيل وجيرانها العرب. لم يكن الاتحاد السوفياتي المنافس الوحيد على القيادة في الخليج العربي، فحليفة إيران وداعمتها، الولاياتالمتحدة، كانت في نظر الشاه منافسا أيضا، وإن لم يكن معاديا! عارض الشاه علنا الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة لأنه لم يرد وجود قيود على طموحاته بالهيمنة على الخليج العربي. قدّمت طهران مساعدات مباشرة إلى الدول العربية المشاركة في الحرب، فقد اتصل السادات في الأيام الأولى للحرب طالبا إمدادات من النفط الخام، ووافق الشاه على ذلك، وفي غضون أربع وعشرين ساعة، تم تسليم شحنة ضخمة للقاهرة. وقد ترك كرم الشاه وبادرة الصداقة التي قام بها انطباعا عميقا لدى السادات. ووسعت إيران نطاق مساعدتها الطيّبة للعرب وقدمت للمملكة العربية السعودية طيّارين وطائرات إيرانية للمساعدة على حلّ المشكلات اللوجستية. ونقلت الطائرات الإيرانية كتيبة سعودية إلى الجانب السوري من مرتفعات الجولان. وهناك، نقلت الجنود السوريين الجرحى وأحضرتهم إلى طهران من أجل تلقي العلاج. حتى أن الشاه ساعد السوفيات على تقديم يد العون إلى الجانب العربي. لكن إيران رفضت في الوقت نفسه المشاركة في حظر النفط الذي فرضه العرب على إسرائيل وواصلت إمداد إسرائيل بالنفط طوال مدة الصراع. كان لإيران سياسة معلنة تتمثل في عدم السماح باستخدام النفط كسلاح سياسي. ولم يكد يمضي وقت طويل على وقف إطلاق النار في العام 1973 حتى بدأت واشنطن محادثات فك الاشتباك بين إسرائيل ومصر. ولعبت إيران دورا نشطا في تلك المفاوضات، بالرغم من شعور الإسرائيليين بالإحباط من الموقف الذي اتخذه الشاه. طوال فترة تلك المفاوضات، عبّرت إيران عن دعمها للموقف المصري إعادة كافة الأراضي المحتلة مقابل السلام، والتي أكد الشاه أنها تستند إلى المنطق والعدل - مع انتقادها الموقف الإسرائيلي الجامد وغير الحكيم الداعي إلى انتزاع الاعتراف من الدول العربية أولا. وضغطت طهران على تل أبيب عبر تجميد كافة أشكال المساعدات العسكرية، وأوقفت مشترياتها من الأسلحة الإسرائيلية، وأدت الأعمال الإيرانية التي زادت من انكشاف إسرائيل أمام العرب إلى زيادة حاجة إسرائيل إلى التعاون الأمني مع إيران. أصبحت إسرائيل أكثر اعتمادا على إيران لأن خسارة إيران فيما تقترب مصر من واشنطن وتتزايد قوة العراق ستكون بمثابة كارثة تنزل بالكيان الصهيوني. في نوفمبر 1975، أي بعد شهور على التوقيع على معاهدة الجزائر بين إيران والعراق، طرحت الدول العربية في الأممالمتحدة على التصويت قرارا يساوي بين الصهيونية - الإيديولوجية المؤسسة للكيان الصهيوني - والعنصرية بناء على أن الصهيونية تجيز التفرقة العنصرية. ومن دواعي خيبة إسرائيل أن إيران صوّتت لصالح القرار. إذ لا يمكن لدولة إسلامية مثل إيران أن تبقى صامتة حيال معاملة إسرائيل للفلسطينيين. بعد انتصار اليمين بإسرائيل، كان النهج العدواني لبيغن بمثابة أخبار سيئة لإيران. في مستهل العام 1977، أي قبل شهور معدودة من انتخاب بيغن، قام رئيس الوزراء الإيراني أمير عباس هويدة بجولة في الشرق الأوسط، وأصدر العديد من البيانات المشتركة مع نظرائه العرب في 11 فبراير 1979، حلّ محلّ الشاه نظام إسلامي. كانت الثورة حدثا بالغ الخطورة ليس بالنسبة إلى إيران وحسب، بل وأطلقت موجات طالت مختلف أرجاء العالم الإسلامي (ص 111) فمن خلال ثورة شعبية، تم استبدال ديكتاتورية موالية للأمريكيين في الشرق الأوسط الغني بالنفط بأول نظام ديني في العالم المعاصر، لقد أخذ سقوط الشاه المفاجئ الغرب على حين غرّة. فكيف سيكون رد فعله؟! ذلك ما سنراه في الحلقة القادمة.