شغلت الثورة الإيرانية منذ اندلاعها في أواخر سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن اهتمام العديد من الدوائر الأكاديمية والسياسية والإعلامية. فقد شكلت الثورة كنموذج جديد في السياسة والأيديولوجيا للبعض تحدّيا على كل من المستوى السياسي والأيديولوجي وشكلت للبعض الآخر نموذجاً وقدوة تحتذى. ومن ناحية أخرى، شكل النظام السياسي الإيراني الذي تشكلت لبناته الأولى منذ اليوم الأوّل لنجاح الثورة مادة خصبة لدراسات العلوم السياسية سواء في مجال نظم الحكم أو العلاقات الخارجية. فقد طرح النظام السياسي الإيراني خبرة جديدة للعلاقة بين الدّيني والسياسي في وقت استقرّ فيه على الفصل بينهما انطلاقا من أنّ هذا الفصل يسمح بنموّ وتطوّر أفضل لكليهما بعيداً عن الآخر. وجاء النظام الإيراني ليرسم شكلاً جديداً لنظام سياسي يضع فيه الديني في قلب النظام، والفقيه على رأسه، ويرسم شكلا متمايزا للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الخارجية للمجتمع الإيراني. فقد اتخذت السياسات الخارجية للنظام الجديد منحى مختلفاً عن سياسات نظام الشاه؛ فبعد علاقات متمايزة واستراتيجية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية والقوى التقليدية في المنطقة العربية جاء النظام الجديد حاملاً معه خطاباً راديكالياً هاجم فيه قوى الاستكبار وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية وإسرائيل، وتعهّد - لفظيا - بالدفاع والتحالف مع قوى المستضعفين في الأرض. تبدأ الدراسة التي تناولت فيها الدكتورة أمل حمادة «الخبرة الإيرانية، الانتقال من الثورة إلى الدولة» والصادرة [عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في يونيو 2008] والتي نقدم خطوطها العريضة في حلقتين، من عام 1979 - عام نجاح الثورة الإسلامية في إيران وإعلان الجمهورية الإسلامية في فبراير من العام نفسه، باعتبار أن هذا التاريخ هو النقطة الفاصلة التي تحوّلت فيها الثورة من عملية (Process) إلى حدث (Event) محدد بذاته ومنقطع على بعض المستويات عن النظام السياسي الاقتصادي الاجتماعي السابق. وتستمر الدراسة إلى ما بعد وفاة الإمام الخميني لتشمل فترتي رئاسة رفسنجاني وخاتمي على اعتبار أن تينك المرحلتين شهدتا الانتقال التدريجي من الثورة إلى الدولة؛ وإن كان هناك حديث عن أن هذه المرحلة قد بدأت قبيل وفاة الإمام، وذلك منذ قبوله بقرار الأممالمتحدة بوقف القتال مع العراق لينهي بذلك ثماني سنوات من الصّراع المسلح بين الدولتين استهلك خلال هذه السنوات الطوال العديد من موارد الدولتين، واستغلت من جانبهما أيضا لتدعيم الجبهة الداخلية لكل منهما. وتتمثل إشكالية هذه الدراسة في محاولة دراسة عملية التحول من الثورة إلى الدولة؛ أي دراسة الفترة ما بعد عام 1979. هذا لاينفي بالطبع أن المؤلفة حاولت التعرّض، بقليل من التفصيل، لدراسة مرحلة التحول من الدولة إلى الثورة؛ أي دراسة عملية الانتقال الذي حدث في المجتمع الإيراني قبيل عام 1979. عملية الانتقال هذه، من الدولة إلى الثورة، ومن الثورة إلى الدولة، هي عملية متصل بعضها ببعض، وإن لم تكن تكراراً تاريخياً. تحاول الدراسة تتبع العديد من التغيّرات في النظام في الفترة من عام 1979 وحتى الآن بهدف التعرف إلى التغيّر على كل من مستوى القواعد السياسية والقانونية والمؤسسات والتفاعلات والتي تثبت أولا تثبت فرضية تحوّل النظام السياسي الإيراني من الثورة إلى الدولة، ومن ثم فإنه يمكن بلورة إشكالية الدراسة في التالي: ضرورة البحث في الأدوات والآليات والسياسات والمؤسسات التي أسهمت في عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة في الحالة الإيرانية. انتهت المؤلفة في الفصول السابقة الى توافر الظروف الموضوعية والمادية للثورة ضد نظام الشاه. وقد ساهم الفكر السياسي الإيراني من داخل المؤسسة الدينية ومن خارجها في توفير بيئة الحركة اللازمة للثورة، بالإضافة إلى توفير القيادة السياسية، والتي انعقدت للتيار الديني برئاسة الإمام الخميني. ومن خلال دراسة أدبيات كل من الثورة و الدولة تبيّنت أهمية دراسة الفترة الانتقالية مابين الظاهرتيْن، أو ما اصطلحت بعض الدراسات على تسميته ب «المجتمع الانتقالي». ولذلك خصّصت الباحثة الفصل الثالث من هذا الكتاب للحديث عن الإطار الدستوري والمؤسسي للجمهورية الإسلامية الإيرانية. ففيما يتعلق بالإطار الدستوري أكدت أنّ مسألة إنهاء حالة الفراغ السياسي والدستوري التي تلي الثورة تعد من أولى المهام «التي يبدأ بها النظام الجديد. وتنتهي هذه الحالة مع نجاح التحالف الذي قاد الثورة في تشكيل حكومة جديدة لتولّي الحكم، والتي تواجه عدداً من التحديات. التحدي الأول يتعلق بالتحالف الذي قاد الثورة والذي يعاني عملية إعادة فرز داخلية لصالح القوة السياسية الأقدر على حسم الصراعات الداخلية التحالف، حيث تتميز الفترة الأولى بالسيولة وتقوم بعض القوى بإعادة تقييم لمواقفها وعلاقاتها بالأطراف الأخرى بشكل متغيّر بما يسمح لها بالتعاون أو كسر التعاون مع قوّة ما لتحقيق أغراض معينة. التحدّي الثالث يتعلق بالسياسات التي تتبناها النخبة الحاكمة الجديدة والتي تمارس من خلالها عمليات تطهير في داخل المؤسسات المهمة في المجتمع كالجيش والمؤسسات التعليمية والوزارات السيادية، بالإضافة إلى قيامها بتشكيل عدد جديد من المؤسسات التي يمكنها تبني السياسات الجديدة للنظام وتنفيذها» (ص136). أشارت المؤلفة إلى دستور 1979 حيث اهتم الإمام الخميني بتحديد الإطار القانوني الذي يمكن من خلاله ضبط كل من الحكومة والمجتمع في ظل الأيديولوجيا الحاكمة الجديدة، ومن ثم قامت الحكومة الانتقالية بزعامة مهدي بازرجان بالدعوة لانتخاب مجلس الأوصياء (الخبراء) لصياغة الدستور الجديد في غشت 1979. وقد سبق هذه الدعوة كثير من الجدل والمناقشات بين مختلف التيارات الفكرية في إيران حول شكل الدستور الجديد. وقدّمت المسودّة الأولى للنقاش العام الخالية من النصّ على ولاية الفقيه بالشكل الذي اقترحه الإمام الخميني، وأقرب ماتكون إلى الدستور الفرنسي والدستور الإيراني 1906. ولكن هذه النسخة لم تحظ بقبول عام نتيجة رغبة الأقليات الإثنية في ضمان حصة أكبر من الحقوق، بالإضافة إلى اعتراض بعض العلماء على الدور المقرر لهم في ضوء الدستور، والذي لم يضمن لهم دوراً محوريا في الشأن السياسي. من ثم تم العمل على نسخة منقحة من الدستور قدمت للمجلس المنتخب في غشت للتداول بشأنها وتقديم الصياغة النهائية للدستور. وتكون هذا المجلس من 73 عضوا من كافة القوى الوطنية الإيرانية للعمل على وضع مسودة للدستور الجديد تطرح للاستفتاء على الشعب في مرحلة لاحقة ووجه الإمام الخميني خطابا للمجلس بعد تكوينه كلّفه فيه بالعمل على صياغة دستور يتوافق مائة بالمائة مع الإسلام، ويقنن مبدأ ولاية الفقيه (ص 164). استهل الدستور الإيراني بالتأكيد على أن سبب فشل الثورات الإيرانية السابقة كان «عدم عقائدية هذه الحركات» لذلك تقوم الثورة الاسلامية على أكتاف علماء الاسلام المجاهدين ومعهم كافة فئات الشعب الإيراني الملتزم بالاسلام كما تضمنت الديباجة التطورات السياسية التي عاشها الشعب الإيراني في ظل حكومة الشاه، والدور الذي قام به الإمام الخميني في قيادة الجماهير، وفي تأصيل الحكومة الاسلامية وولاية الفقيه وتحدد الديباجة عددا من المسائل التمهيدية قبل الدخول في تفصيلات مواد الدستور، فالحكومة الإسلامية لا تنبني على الطبقية أو سلطة الفرد، ولكنها تشكل تجميعا للأهداف السياسية لشعب متحد يهدف لنيل رضوان الله تعالى، ومن ثم فيجب أن يكون حكم هذا الشعب من خلال «الأشخاص الصالحين» الذين يعملون على تهيئة الظروف المناسبة لتتحقق مشاركة جميع الأفراد في مسؤوليات التنمية والرقي ومسؤوليات القيادة. وتحدد الديباجة مسؤولية الدستور لإعداد الظروف المناسبة لتحقق قيادة الفقيه جامع الشرائط والذي يعترف به الناس، قائدا لهم حتى لا يحدث انحراف عن الوظائف الاسلامية للحكومة، وتحاول الحكومة الإسلامية من خلال كل مؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية تحقيق توافق المجتمع مع قيم الإسلام المتمايزة، لذا فالاقتصاد لا يصبح وسيلة لجمع الربح والثروات ولكن لسدّ حاجيات الإنسان الأساسية ولتشجيع ظهور المواهب المختلفة، ويتحوّل الجيش إلى جهاز يقوم علي العقيدة الإسلامية والإيمان، وتتجاوز مهامه الحدود الوطنية ليقوم بمهام الجهاد ونشر أحكام الشريعة الإلهية في العالم (ص 166). وبعد أن استعرضت المؤلفة مضامين فصول الدستور الإيراني، انتقلت إلى الحديث عن التعديلات الدستورية لعام 1989. «وعلى الرغم من أنّ الإمام الخميني كان هو القوة الدافعة وراء مسألة تغيير الدستور إلا أنه لم يعش ليشهد صدور هذا الدستور الجديد، وإن كان أصدر توجيهاته إلى اللجنة للبحث في عدد من المسائل التي تحتاج إلى مراجعة، على رأس هذه المسائل جاءت مسألة ولاية الفقيه من حيث المواصفات التي يجب أن تتوافر في القائد، وكذلك الآلية التي يجب التصرّف من خلالها في حال تعدد الفقهاء حائزي الشرائط اللازمة للقيادة. المسألة الثانية تعلقت بإنهاء حالة الثنائية في الاختصاصات بين منصب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية وكذلك مراجعة عدد أعضاء مجلس الشورى الإسلامي بناء على التغيرات الديمغرافية التي حدثت في إيران خلال الأعوام العشرة المنصرمة. وفي تموز/ يوليو 1989 وبعد وفاة الإمام الخميني طرح الدستور للتصويت حيث حصل على 97,3 في المائة من أصوات الناخبين الإيرانيين» (ص 171 172). وسجلت المؤلفة ملاحظات حول الدستور الجديد، يمكن تلخيصها في ما يلي: أن التغيير طال ما يقرب من خمسين مادة، أي ثلث مواد الدستور القديم، وكان أحد أهداف التغيير هو إلغاء الثنائية في المؤسسة التنفيذية بين منصب رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية، وبخاصة بعد خبرة السنوات العشر الأولى التي رمت بظلالها السلبية على العلاقة بين رئيس الجمهورية خامنئي ورئيس الوزراء موسوي. والملاحظة الثانية تتعلق بالمؤسسات الجديدة التي استحدثها الدستور الإيراني، وهي بالأساس المجلس الأعلى للأمن القومي، وكذلك مجلس إعادة النظر في الدستور، بالإضافة إلى تقنين وضع مجلس تشخيص مصلحة النظام وتتعلق الملاحظة الثالثة بحدود هذا التغيير. فالعديد من الأدبيات ناقشت هذا التعديل الدستوري من منطلق أنه هدف إلى خلق صلاحيات أكثر لرئيس الجمهورية، وبخاصة بعد إلغاء منصب رئيس الوزراء الذي كان سمة مميزة لثنائية الجهاز التنفيذي، وتسبب في عدد من الأزمات بين رئيس الجمهورية آنذاك (خامنئي) ورئيس وزرائه (مير حسني موسوي) وأعطى انطباعا بعدم إمكانية استمرار الوضع على ما كان عليه. تقول المؤلفة: «وتكشف لنا خبرة وضع الدستور الإيراني وحتى التعديلات التي أدخلت عليه بعد نهاية الحرب مع العراق ووفاة الإمام الخميني قدرة عالية للتيار الديني على ترجمة تصوّره للدور الذي يجب أن يقوم به كل من الفقيه، على رأس الدولة، والمؤسسة الدينية، بتغلغلها في كل مؤسسات الدولة، في مقابل عجز باقي القوى عن ترجمة أفكارها عن المجتمع المدني أو ضرورة صيانة الحريات العامة والحريات السياسية سواء في داخل الدستور أم حتى المؤسسات الايرانية الفاعلة في داخل النظام» (ص 181). وأما الإطار المؤسسي فتناولت فيه المؤلفة جهود بناء المؤسسات بعد الثورة. ف «عملية بناء المؤسسات التي ارتبطت بالثورة تعدّ من أهمّ الإجراءات التي قامت هذه الأخيرة باتخاذها منذ الأيام الأولى، فقد بدأ مؤسسو النظام الجديد قبل سنوات طويلة من نجاح الثورة في عملية هدم لشرعية النظام البهلوي عبر مقاطعات واعتصامات وهروب من التجنيد ومظاهرات وصدامات مع قوات الأمن. في الوقت نفسه كانوا واعين وعلى رأسهم الإمام الخميني، بأن الأساس الديني لشرعية النظام الجديد لا يكفي لاستمرار النظام وأنه لابد من تدعيم شرعية النظام الجديد من خلال إنشاء وتدعيم بناء مؤسسات جديدة تتوافق مع الأيديولوجيات الجديدة للنظام السياسي وفي قلبه تقع فكرة ولاية الفقيه (...) وأسهم نجاح التيار الديني في إدارة أزمة التحالف الذي قاد الثورة في مزيد من تقويته وقدرته على فرض رؤيته لشكل المؤسسات التي يتم من خلالها إدارة الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام الجديد، فقد قام هذا النظام بعمليات منظمة في مسارين متوازيين، الأول كان عن طريق تدعيم مبدأ ولاية الفقيه كما رآها الإمام الخميني وتقوية منصب الولي الفقيه كما قننها الدستور الإيراني وتم هذا من خلال وسائل الإعلام وخطب الجمعة والمؤسسات المختلفة للدولة، بالإضافة إلى تدريسها في المدارس واعتبار الالتزام بها من متطلبات التعيين في الوظائف العامة أو الجيش أو البوليس أو حتى الدخول إلى الجامعة. أما المسار الثاني فتمثل في عملية بناء وتعديل وهدم المؤسسات الكبرى في المجتمع» (ص 182). ومن هنا تحدثت الباحثة عن ثلاثة أنواع من المؤسسات الإيرانية: مؤسسات مستحدثة بالكامل، ومؤسسات موروثة، ومؤسسات معدلة. والمؤسسات المستحدثة إما اقتصادية أو سياسية أمنية، وكذلك الشأن بالنسبة للمؤسسات الموروثة والمعدلة بالإضافة إلى مؤسسات التنشئة. ثم تطرقت لأثر الحرب العراقية الإيرانية في المؤسسات، وخلصت الى أن النظام الجديد في إيران، استطاع «خلال الأعوام الثلاثة الأولى من عمره تثبيت دعائمه، وإرساء قواعد جديدة للتفاعلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من خلال الدستور والمؤسسات المستحدثة والموروثة والمعدلةو لكن هناك ملاحظات أشارت إليها وهي تتعلق بجدة هذه المؤسسات، «فليس صحيحا إطلاق القول إن كل المؤسسات والقوانين التي جاءت بها الثورة في إيران جديدة بشكل كامل، بل إن بعضها اعتبر استكمالا لماضي هذه المؤسسات، على الأقل من ناحية الشكل والهيكل، وإن اختلف المضمون والهدف» (ص 226). وتتعلق الملاحظة الثانية بمصداقية هذه المؤسسات (فعلى الرغم من التأكيد الدائم من جانب رجال الثورة وصانعي القرار فيها على الطبيعة الأيديولوجية للنظام السياسي الجديد، والتي كان لابد من أن تنعكس على شكل المؤسسة وطريقة تفاعلها، إلا أنه في بعض الأحيان اقتصر الطابع الإسلامي على مجرد الاسم من دون أن ينسحب على حقيقة أسلوب العمل في داخل المؤسسة المعنية» (ص 227). وتتعلق الملاحظة الثالثة بالقضايا التي تبنتها مؤسسات معينة، «فهناك بعض المجالات التي تحولت الى مناطق وقضايا للصراع بين مختلف الأجنحة السياسية في فترة معينة ولكن سرعان ما اختلفت أجندة الصراع أو تغيرت» (ص 228) تفاعلات الانتقال الى الدولة يهدف الفصل الرابع من هذا الكتاب الى استكشاف تطورات عملية التحول من الثورة الى الدولة من خلال الكشف عن العلاقات التي حكمت التفاعلات والسياسات بغرض الإجابة عن السؤال: هل تشهد إيران تحولا ناحية الدولة؟ والى أي درجة يمكن أن نقدر أن إيران تقف عند نقطة محددة من مستمر الانتقال من الثورة الى الدولة؟ ويأتي ذلك من خلال ثلاثة أقسام رئيسية. يناقش الأول مؤسسات الثورة: الحرس الثوري ومجلس صيانة الدستور. ويناقش الثاني: مؤسسات الدولة من خلال رصد التغير الذي طال كلا من مؤسسة الرئاسة والبرلمان خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية. أما القسم الأخير فيركز على رصد تطور العلاقة بين المرشد باعتباره رأس النظام السياسي ورئيس الجمهورية المكلف بتنفيذ الدستور، والذي يعتبر الشخص الثاني في سلم القيادة بحسب نص الدستور. فقد أدى الحرس الثوري ثلاثة أدوار في التفاعلات السياسية الداخلية خلال السنوات الأولى الحاسمة. «الدور الأول كان التدخل في لحظات معينة لحسم التنافسات السياسية داخل النخبة السياسية. الدور الثاني كان في حفظ ليس فقط أمن الثورة الداخلي كالدور الذي قام به الحرس في قمع التظاهرات المعارضة والاضطرابات الإثنية ولكن في تأدية دور المعبئ والضابط للسلوك الإجتماعي حتى يتفق مع قيم الثورة الجديدة، والتي بذلت جهود من جانب الحرس، بالاضافة الى مؤسسات أخرى لفرضها على المجتمع الإيراني. الدور الثالث الذي أسهم في زيادة قوة الحرس هو دور الموازن للجيش النظامي الموروث من نظام الشاه» (ص 239 240). وأما مجلس صيانة الدستور فقد أنشأه الدستور الإيراني في نسخته الأولى لعام 1979 وفي التعديلات التي أدخلت عليه عام 1987 باعتباره «كيانا تشريعيا يشترك مع البرلمان في صياغة القواعد التشريعية الضابطة لحركة المجتمع السياسية والاقتصادية، وكلف أعضاء المجلس من الفقهاء ورجال القانون ببحث وفحص كافة القوانين التي يصدرها البرلمان الإيراني، في خلال عشرة أيام من رفعها إليه، لتقرير توافقها مع كل من الدستور والشريعة الإسلامية، في دور قد يقارب البعض بينه وبين المحاكم الدستورية العليا في بعض التجارب، ولكن واقع الأمر يميز مجلس صيانة الدستور عن تلك المحاكم بشكل يجعله ينتمي بشكل أكبر الى مؤسسات الثورة» (ص 248). وقد أدى هذا المجس الدور الرقابي، وتفسير مواد الدستور ومهمة الإشراف على كل الانتخابات التي تجري في الجمهورية الإسلامية، التشريعية والتنفيذية والاستفتاء العام. «في ضوء ماسبق يمكننا القول إن الإطار الدستوري الذي حكم دور مجلس صيانة الدستور في الرقابة على القوانين وتفسير مواد الدستور، والإشراف على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، قد جعل منه مجلسا مشرفا على المجلس التشريعي. ولكن الإطار السياسي الذي مارس من خلاله مجلس الصيانة هذا الدور جعل منه مجلسا يتجاوز دور المجلس التشريعي الى ضابط ومتحكم في هيكل العلاقات السياسية من خلال قدرته على منع شخصيات أو تيارات بعينها من خوض التجربة الانتخابية برمتها، أو تمرير قوانين تخدم مصالح فئة بعينها»(ص 256). وحللت المؤلفة، بعد ذلك، التفاعلات السياسية من خلال مؤسسات الدولة (الانتخابات الرئاسية، الانتخابات التشريعية). حيث «تحتل الانتخابات الرئاسية الأولى في عمر النظام الإيراني أهمية خاصة من حيث كونها المرة الأولى في التاريخ الإيراني التي يختار فيها الشعب الإيراني رئيس السلطة التنفيذية، بعدما ظل عقودا طويلة يعيش في ظل نظام ملكي وراثي» (ص 258). (...) «وشكلت الانتخابات الرئاسية عام 1997 فرصة جديدة للتعامل داخل النظام الإيراني» فقد جرت الانتخابات في ظل تنافس بين عدد من الأشخاص الذين ينتمون بطبيعة الحال الى الثورة الإيرانية من حيث القيم والمؤسسات ، إلا أنهم ينتمون الى الصف الثاني للثورة. وقد قام مجلس الرقابة على القوانين بالاعتراض على حوالي 200 مرشح للانتخابات؛ بحجة عدم استيفائهم الشروط اللازمة» (ص 264). «وتقدم للترشح لمنصب رئيس الجمهورية في انتخابات 2001 ما يزيد على ثمانمائة مرشح، أجاز منهم مجلس الأوصياء عشرة مرشحين فقط. وحرص كل المرشحين على تقديم أنفسهم بمنطق المدافع عن الإصلاح الذي أضحى شعارا انتخابيا للجميع من دون الالتزام بأي من المعسكرين اللذين شكلا قطبي الحركة السياسية الإيرانية؛ معسكر المحافظين ومعسكر الإصلاحيين. إلا أن التيار الأول لم يستطع، أو لم يرد، حسم اختياراته والوقوف بقوة وراء أحد المرشحين التسعة (دون خاتمي المحسوب بالطبع على التيار الآخر)، ما أضعفه في المحصلة الإجمالية» (ص 270). وتضيف المؤلفة أن الجميع خاض الحملة الانتخابية تحت شعار الإصلاح، الذي أصبح ضرورة ملحة لتجاوز أزمات النظام سواء على مستوى الشرعية، أو الأزمات الاقتصادية التي كادت تعصف بكل ما تحقق في عهد الثورة. «وتحتل الانتخابات الرئاسية الأخيرة في هذا السياق والتي أجريت في عام 2005 أهمية خاصة في إطار دراسة العلاقة بين مؤسسات الدولة والثورة لأكثر من سبب ، حيث شكلت هذه الانتخابات لحظة اختبار حقيقية لكل التيارات خصوصا بعد احتدام شديد في العلاقة بين الرئاسة والبرلمان منذ نجاح التيار المحافظ في ضمان الأغلبية البرلمانية عقب انتخابات 2004؛ فمن ناحية كانت بمثابة قياس لقدرة التيار الاصلاحي على تقديم مرشح بديل من الرئيس خاتمي المنتهية ولايته والذي تمتع بدرجة عالية من الكاريزما بين أوساط الناخبين خصوصا من الشباب والنساء، وتحديدا في ظل التراجع الذي شهده التأييد الشعبي لمعسكر الإصلاحيين بعد فشلهم في تحقيق الجزء الأكبر من وعودهم الاقتصادية أو الاجتماعية فضلا عن السياسة» (ص 273). وتقول المؤلفة بخصوص الانتخابات التشريعية إن الدستور الإيراني عام 1979 حاول خلق مجلس تشريعي يمتلك سلطات أكبر من مثيله في ظل نظام الشاه. وعلى الرغم من الصلاحيات التي أعطيت للمجلس الجديد، إلا أن هذا لم يعن خلق نظام برلماني على شاكلة النظم البرلمانية المعروفة على مستوى العالم، وإنما ظلت سلطات البرلمان الإيراني وصلاحياته محكومة بتراتيبة القوى التي حافظت على دور أكبر للفقيه من خلال منصب المرشد الذي ظل حاكما ومتحكما في الخطوط العامة للسياسة الإيرانية. وكما سبقت الإشارة فقد أقر الدستور الإيراني جهازا تشريعيا من مجلس واحد أطلق عليه مجلس الشورى الاسلامي. وتقرر عقد الانتخابات البرلمانية كل أربع سنوات لاختيار 270 عضوا زيدوا حتى وصلوا الى 290 عضوا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام 2004» (ص 281). وتناولت المؤلفة، بالتحليل بعد هذا، الانتخابات البرلمانية التي مرت بها الجمهورية الاسلامية، مع التركيز بشكل أكبر على بعض الحملات دون غيرها لتعبيرها بشكل أوضح عن الانتقال من الثورة الى الدولة. ثم استنتجت ما يلي: أولا حر النظام الإيراني بقطاعاته وتياراته السياسية كافة على الالتزام بالشكل الدستوري لموعد الانتخابات الرئاسية. ثانيا التزامه في كل الدورات الانتخابية بالإجراءات القانونية والدستورية اللازمة للترشح ولإدارة الحملة الانتخابية. ثالثا توجه المرشحين للتأكيد على قيم الدولة والقانون على أساس أنها الضمان الرئيس للعملية السياسية، مع الحرص على الالتزام بقيم الثورة. رابعا في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، فقد اعتبر الإقبال الجماهيري على الانتخابات بمثابة استفتاء مسبق على شرعية النظام ككل، أكثر من كونه تعبيرا عن مشاركة شعبية في إجراء انتخابي يهدف لتحديد رأس السلطة التنفيذية . خامسا لايعني ما سبق أن النظام الايراني التزم في مطلق الأحوال بالاجراءات والأساليب التي تدعم الانتقال الى الدولة. فمن المعروف الدور الذي قام به الإمام الخميني كموازن في داخل النظام الايراني. والخلاصة كما صاغتها المؤلفة «أنه لايمكن قراءة التحول من الثورة الى الدولة في ضوء تطور مؤسسات الثورة (مجلس صيانة الدستور والحرس أو مؤسسات الدولة (الرئاسة والبرلمان) بمعزل عن رصد التطور الذي طال منصب ولي الفقيه كمؤسسة ثورة وعلاقته بالرئيس. فهذا المنصب يعكس في حقيقة الأمر الطبيعة المتشابكة والمعقدة للنظام الإيراني. فهو شكل من ناحية جوهر وأساس فكرة مفجر الثورة؛ الإمام الخميني، ومن ثم فهو مؤسسة للثورة. ومن ناحية أخرى، فإن وجود مجموعة من القواعد الحاكمة للمنصب تولية ومراقبة وعزلا، بالإضافة الى حقوق شاغله في رسم السياسة العامة للدولة وفق القواعد الدستورية، تجعلنا ننظر إليه من منظور الدولة التي تعمل من خلال مؤسسات مستقرة ومستمرة. تطور ولاية الفقيه ومن ثم ركزت المؤلفة على دراسة تطور ولاية الفقيه على المستوى الفكري والعملي. حيث ميزت بين مرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة قيادة الإمام الخميني، والثانية مرحلة المرشد الحالي. «يضم التيار الرافض لولاية الفقهاء بالشكل الذي قدمه الإمام الخميني عددا من الفقهاء وعلماء الدين في داخل إيران وخارجها وعلى رأسهم آية الله منتظري، بالإضافة الى عدد من صغار العلماء، ومنهم محسن كديور» (ص 307) وركزت على كتابات كديور لانتمائه الى المؤسسة الدينية الرسمية، وإلى معسكر التيار الإصلاحي الواسع، وللتضييق عليه وسجنه من طرف الحكومة، وكذلك لتوقيت كتاباته حول حق الفقهاء في الحكم. ثم عرجت على موضوع تطور العلاقة بين المرشد والرئيس رفسنجاني، وخلاصة الأمر أن العلاقة بينهما «لايمكن أن نصفها بالتنافسية أو التعاونية بشكل مطلق. فعرض السنوات الثماني أو فترتي رئاسة رفسنجاني تكشف لنا عن مناطق خلاف ومناطق تعاون بين القطبين بحسب القضايا المثارة وأهميتها». (ص 332). كما تطرقت للعلاقة بين المرشد والرئيس خاتمي وتستنتج بهذا الصدد أن «نظرة مقارنة الى تطور العلاقة بين المرشد والرئيس رفسنجاني مقارنة بعلاقة المرشد بالرئيس خاتمي تكشف لنا عن نجاح الرئيس رفسنجاني والمرشد خامنئي في تكييف العلاقة بينهما بشكل قليل من مساحات التنافس، وأدى نجاح كل منهما في تحقيق أجندته دون الإفصاح عن التنافس الذي ظل محفوظا في حد الأدنى (...) وفي مواجهة هذا النجاح تقف العلاقة بين المرشد والرئيس خاتمي، والتي تميزت بدرجات عالية من التوتر الذي ترجم في لحظات معينة الى مواجهات عنيفة بين أنصارهما (ص 350)