في غياب المثال لا يعود للمعنى صلاحية…تغتني مُجمل الدروس بنزعات اسكاتولوجية مُغلَّفة بخطابات النهايات؛ نهايات السرديات الكبرى…يتعين إعادة بناء نَقدية للمثال، تُخلص المعرفة من سجون المُطلقات، وتُحررها التطابقات المعيبة. على النقدية أن تنهض كما يقول آلان باديو ب"فعل التثوير"، والأمر، يطال تغيير بِنيات التفكير وذهنيات العيش والمعاش…يتعلق الأمر، باستعادة عِشق الأفكار، ومَديح اليوتوبيا، وممارسة الحق في الممكن، في الحلم…والحلقة الأهم في هذا المشروع، هو المُدرس، المُدرس يشبه طائر الفينيق، كائن يحترق يوميا لتولد من رحم رماده ثورة معرفة، ومفاهيم تستجلب من سياقات مشابهة لتبصر الواقع، يموت المُدرس لكي ينعم الآخرون بنعيم أفكاره. لا يمكن أجرأة الدرس التربوي من دون استحضار عميق لتحولات البنى العامة، في أمادها الثلاث، القصير والمتوسط والطويل…من دون إلمام بالسياق الابستمولوجي الحاضن…للأسف، مُدرس اليوم يُشبه الأجير، صاحب ملف مطلبي، لكنه، لا يستند على قاعدة فكرية يرسو عليها، ويناضل من أجلها. بالأمس، كان المُدرس يتسربل بتلاوين متعددة من الشعر والأدب والسياسة والفن وما يتصل بهما ويفترق عنهما…لقد أفقدت المدرسة المتعلمين الحق في الحلم، الحق في الخيال، الحلم بالفكرة، الحلم بالتغيير، الحلم بالإنسان كشعار استراتيجي من أجل رقيه ونهضته وأنسنته…لم تعد مدرسة اليوم، فضاء للحلم، بسبب استحكام المرجعية البراغماتية الليبرالية المتوحشة، التي خنقت المدرسة في رؤية: "ورش للتشغيل". مدرسة اليوم تُنعت ب "مدرسة النجاح أو الإنجاح" لا يهم… الأهم، أنها تُعلم الحِقد والكراهية، تُلقن الجهل بالمجان كما يقول المفكر جاك أتالي. "كل مؤسسة تعيش صراعا من أجل البقاء فإنها مؤسسة مُنتجة للبؤس" كما يطرح المفكر الألماني نيتشه. مشروع مدرسة النجاح يُشعل فتيل الفشل الاجتماعي، إذ النجاح بالنهاية نجاح نخبوي، والهاجس الأكبر داخلها الحصول على النقطة. تمجيد النقطة يصبح غاية وليس عمق الإبداع وجوهر الفكرة. يحرق التلميذ جواز سفره داخل المدرسة، ويشعر بأنه منبوذ، لأنه، لا يبني علاقة ود ومحبة مع ما يَدرسه، ومع ما ينتمي إليه. الفشل الدراسي هو من يُنتج سيكولوجيا اليأس الاجتماعي، ويُولد الهشاشة الاجتماعية والشرخ الطبقي…مدرستنا بالأمس كانت رافدا لتحقق الصعود الاجتماعي لمن هم تحت، واليوم لم تعد تنتج إمكانية الحق في الحلم، لأنها انسحبت من الفضاء العام، وصارت جزيرة معزولة، فقدت جذورها التي تربطها بالمجتمع، وأصبحت مصنعا لتوليد قيم الكراهية والحقد والغش… وحتى درس الاجتماعيات، من حيث مضمونه الحقوقي ظل خطابا شعاراتيا لم يترسخ في البِنيات الاجتماعية، ولم يتم التقعير له في باقي البنيات الموازية…التربية على حقوق الانسان هي تمرين يومي، وبناء تراكمي، يبدأ من البيت وينتقل إلى باقي الفضاءات، ينضج مع وجود جدال عمومي، وبِنية حاضنة تقبل المعارضة والاحتجاج. لم ينجح درس الاجتماعيات في تجذير التربية على المواطنة والقيم…معارف ومتون مستعرضة لا أقل ولا أكثر…على درس الاجتماعيات أن يناضل يوميا من أجل عودة ثقافة القانون إلى المدرسة، على تحرير المدرسة من النزعة الداروينية المتوحشة…يجب أن يُوطن الوعي التاريخي والجغرافي والحقوقي كإواليات من أجل بناء المشروع المجتمعي… القائم على الجدال والنقد وفكر المغايرة… استراتيجية النقد هي الرهان الأكبر لتجذير ديداكتيك الاجتماعيات، عبر المساءلة الدائمة، والتحليل المتعدد، وممارسة التعليل والسجال والمناقشة…قد يخسر التاريخ وظيفته إذا لم يكن درسا للحياة وموطنا لاستقبال الحفاوة وكرم الضيافة. بدوره تخلى مُدرس اليوم عن الأسئلة الكبرى، وعن الانشغالات الحارقة، وعن قضايا المُعذبين والمهمشين…صار بلا بوصلة، وأفق فكري، وبلا تطلع، وتحول التعليم إلى حِرفة، إلى مورد رزق، لم يعد قضية انسانية، وغاية في حد ذاته، وربما هذا ما جعلنا نخسر الرهان الفكري والسياسي والمجتمعي لمجتمع لم يبلور بعد مشروعه المجتمعي. مُدرس الاجتماعيات عليه أن يكون مُنقذا بالمعنى العميق للكلمة، عوض أن يرمى به إلى جحيم الضحية أو جحيم الجلاد التي صنعها كيمياء المخيال الاجتماعي عنه… وضعية المُصحح والمراقب والعدو الذي يُرسب الأبناء، فهو إما جلاد وإما ضحية، وكلاهما صورتان مأساويتان لا تليقان بوضع المُدرس المنقذ والرسول. صحيح أن الواقع التربوي سلطة قائمة في حد ذاته، قد تعلو فوق كل السلط الأخرى، تتعالى عن كل محاولة لنمذجة التعلمات في قالب موحد، واقع مُغلق من فرط واقعيته حسب جون بودريار، يسخر من نفسه، ويتحول إلى سراب، وإلى استراتيجية افتراضية…من هنا تأتي مأساة المُدرسين في الإحاطة بعالم متغير ومتحول، في الإحاطة ب"عالم ما فوق الواقع"، الذي حوَّل حياة الانسانية إلى صورة نقلا عن صورة نقلا عن صورة.. لم تعد المعرفة رغبة انسانية تمتح مجدها من إفراز نخبة تحمل على عاتقها تغيير الأفق الانساني (المعرفة كأنسنة للعالم)، بل أصبحت مهووسة بالصراع من أجل الهيمنة؛ ربط المعرفة بالمنفعة حولها إلى أداة لإشباع حاجات…مدرسة مُصادرة من طرف الأغورا الميديائية الافتراضية، التي خلقت وعيا جديدا، صار يسحب البساط من سلطة المدرسين. لربما أهمل التعليم المغربي أن يُكوِّن المغربي إنسانا، وأهمل تكوين الانسان، تكوين العقل والوجدان، وخلق التصالح مع الحياة، وخلق مناعة ذاتية داخلية من كل الانزلاقات التي تطفح على المشهد الانساني. وبما أن الهوية والذات والذاكرة والمواطنة…بناءات مستمرة، وبما أن مُهمة درس الاجتماعيات هي تفكيكية بالأساس، تسعى إلى فهم وتفكيك انطولوجيا الحاضر انطلاقا من الماضي، فإن درس الاجتماعيات عليه أن يخوض يوميا "صراعا حيويا من أجل الوضوح"، في عالم مليء بالجروح والندوب، وحاضر ليس على ما يرام بإفادة من الفيلسوف جاك دريدا.