تتشفع هذه الورقة القيام بتحليل مزدوج، ماكروتربوي يُسائل الاختيارات التربوية الكبرى بالمغرب، منذ لحظة الاستقلال إلى لحظة بلورة الرؤية الاستراتيجية، وميكروتربوي يبتغي تفكيك سوسيولوجيا الميدان، الانغراس في الواقع اليومي. طيب، في ماذا يفيد تنويع زاوية الرؤية بالنسبة للمُلاحِظ والواقع الملاحَظ؟ ثمة ملاحظة بديهية تقول أن كل ملاحظة لنسق ما تعكس وجود رؤية وخلفية، انهجاس وقلق، تأمل وتفكير، يترجم إلى انشغالات بحثية وبراديغمات تفسيرية. تظل الإشكالية التي تهيكل النسق التربوي بمغرب الاستقلال تتلخص في شعار الأزمة، مفردة تتكرر كثيرا في أكثر من خطاب، هل يقصد بأزمة محايثة أم بمحايثة الأزمة؟ وحينما نرفع هذا السؤال قليلا يستتبعه بالضرورة سؤال آخر حارق، هل الأزمة عارضة أم بنيوية؟ وهل المخارج ممكنة أم طوباوية؟ بيد الفاعل التربوي أم خارجه؟ أعتقد أنه من أجل طرح تسويغات لهكذا سؤال، الأمر يقتضي بناء ترسيمة منهجية ونظرية وإجرائية، قادرة على حصر شبكة الفاعلين في منظومة التربية بالمغرب، وتحديد أداءاتها على الميدان، لا بد من معاينة الواقع التربوي الذي يتشكل ربما بعيدا عن مقاسات وحسابات آل السوسيولوجيا والتربية، وفي غفلة عنهم. كل دولة في العالم قد تلجأ إلى أحد الخيارات من أجل خلق الثروة، التنمية الجذرية، طلب الديون، أو فرض الضرائب على المواطنين، في الحالة المغربية لعل هذا ما يفسر الهجوم الشرس على القطاعات الاجتماعية، الدولة تقوم بعملية تفكيك جذري للخدمات الاجتماعية، تضع نفسها في واجهة النقد ومرمى الإدانة. الخيار التربوي الذي يجب أن نلتفت له ليس ما يعتمل داخل النصوص التربوية، وفي صالونات المعرفة العالمة، بل ذاك الخيار الذي يمشي في الأرض، يُلمس في الميدان، الذي يقربنا أكثر فأكثر من الارتطام بالحائط، من الهاوية، الخيار التربوي الذي يفصل بين عالمين مفصولين عن بعضهما: عالم المدرسة العمومية بأعطابها التربوية، وعالم مدرسة البعثات والمدارس الفائقة الخصوصية hyper-prive. في ستينيات وسبعينات القرن الماضي كانت المدرسة المغربية تُعبر عن قنطرة مرور نحو صناعة نخبة الغد، مدرسة واحدة يلتقي فيها بن القائد والطبيب والأستاذ والفلاح، الكل كان يؤمن بدور المدرسة العمومية في لعب دور المصعد الاجتماعي l'ascenseur sociale، في تحقيق الارتقاء الاجتماعي نحو الفوق، مع بداية التسعينات، وتحت تأثير تعملق النخب الاقتصادية التكنوقراطية، وتحكمها في دواليب المال والأعمال والسلطة، اعتبرت المدرسة عدوا استراتيجيا يجب تقويضه عن طريق خلق مدارس فائقة الخصوصية. شُنت على المدرسة العمومية حرب ضروس، تارة سياسية وتارة معرفية، كان الرهان الأساس هو محاولة هدم علاقة الطفل باللغة أولا حتى لا يتكمن من تطوير كفاياته اللغوية، ويصير خارج اللعبة، وثانيا هدم علاقته بالمعرفة عن طريق الإثقال المعرفي الذي لا يجعله يطور ملكة النقد والتحليل، ويصرفه عن التفكير. في الضفة الأخرى، مدرسة البعثات تراهن على صناعة التميز l'excellence، طفل مدرسة البعثات يمتلك زمام اللغة والمعرفة، يدرس الماركتينغ وقطاع الأبناك والعقار والتأمين، ما يمكن أن أسميه علوم النهب les sciences de chasse، في مقابل علوم تخماست التي يمارسها ممتهنو العلوم الإنسانية. الطفل المغربي يتعرض إلى كراش crash نفسي، عملية تفتيت وعزل عن الحلم والوجود، يستدخل عقلية ونفسية الخماس الذي يجب أن يتقاتل من أجل معركة البقاء، إذاك تصبح المدرسة تمارس دورا خطيرا في سياسة العزل الاجتماعي والنفسي والوجودي. فحينما لا تتوفر نفس نقط الانطلاق، تكون المسارات متضادة بالضرورة، من يملك القطاعات الاستراتيجية ليس من هو يلعب على إعادة إنتاج دور الخماس. يجب أن ننتبه إلى أن هذه الخيارات التربوية جد مكلفة، فحينما ننتج الطفل الخماس، نكون قد قتلنا فيه أبعادا أخرى، وحينما نكون قد أنتجنا طفل الافتراس نكون قد طورنا فيه بُعد الافتراس. الدولة بينهما ترسم عن سبق إصرار وترصد حلبة الصراع التي ستقود حتما نحو الارتطام بالحائط. أسوق لكم هنا حكاية ملياردير أمريكي كهل سأله أحد الصحفيين في برنامج تلفزي، ماهي طموحاتك وأنت في سن التسعين؟ أجابه الملياردير الأمريكي أن أجمع المال من أجل حياة أبنائي وأحفادي، فاجأه الصحفي ألا تعرف أنك في اللحظة التي تجمع المال في ضفة فإنك تخلق ضحايا وبؤساء في ضفة أخرى. الخيارات التربوية التي تبدو قائمة على الأرض تخلق شروط مغرب متفجر، أو قابل للتفجر، يجب أن ننتصر للحقيقة المرة بكون المدرسة المغربية تُدرِّس الجهل بالمجان، فالحة في انتتاج خماسة الضواري الرأسمالية بتعبير الجميل جون زيغلير، النخب الاقتصادية الجديدة انتقلت اليوم إلى المراهنة على علوم أخرى، كعلوم الإدارة من أجل استكمال لعبة الافتراس. حينما نقوم بتطوير بُعد الافتراس في نفسية الطفل فإننا ندفع الإنسان إلى قتل الإنسان لتحيا الجرثومة، بشرية القرن الواحد والعشرين لم تلد بعد الإنسانية، بشرية تدفع الأطفال إلى منطق البقاء وليس إلى بناء أنساق الحياة. الخيارات التربوية البديلة يجب أن تركز على ثلاث موجهات أساسية: الإدراك/ الإحساس/ الذكاء، هذه الموجهات تجب أن تكتمل بأربع مبادئ أساسية: الحلم/ الرؤية/ الإبداع والاجتماعية، في مناخ سياسي يجب أن يوفر حد أدنى من الديموقراطية الحقيقية لا التمثيلية، ومناخ اقتصادي قادر على بناء العدالة الاجتماعية. يُلح خبراء الاقتصاد على أن دولة القرن الواحد والعشرون من أجل أن تبقى قائمة عليها أن تتوفر على اقتصاد ذي محتوى تكنولوجي عالي وديموقراطية حقيقية تفرز نخب سياسية تجد نفسها محاصرة بترسانة من التشريعات والقوانين، مثلما يدعو الآن المناضل الفرنسي جون لوك ميلنشون في حملته الرئاسية لقصر الإليزيه، السياسة دائما موجهة للقرار التربوي. الخيار التربوي المغاير الذي جب أن نتجند من أجله هو ذاك الذي ينقلنا من مدرسة حارسة الطرائد gardien de chasse نحو المدرسة البستانية école jardinière، أو مدرسة الكوتشنيغ بتعبير جان زغلير، المدرسة البستانية التي تسقي الجميع بلا استثناء، أن ننتقل من مدرسة البقاء إلى مدرسة نظام الحياة. المدرسة المغربية تستدعي اليوم وقفة تأمل مع الذات، مُدارسة جريئة للخيارات التربوية الكبرى، إعادة النظر في رهانات الألفية الجديدة، بما يتساوق مع المتغيرات الماكرومعرفية الحادثة في فضاءات المعرفة، وإواليات المشروع المجتمعي المفتوح باستمرار، ضمن سياق شديد التحول والانعطاف، يشهد الجميع على دراميته في إنتاج اللامعنى الوجودي، في لجم نزوعات التطرف والاستقواء والمعاندة، في زمن الانهيار الناسف للمعنى والأخلاق. يجب أن نعترف بأن مدرستنا اليوم في عالم عولمة الأنساق الاقتصادية وتوغل القيم الداروينية المتوحشة التي تؤمن بالمعدلات الضخمة، التي ترمي بالفاشلين في غياهب الإقصاء تعيش مخاضا عسيرا، وتحولات قيمية عميقة جعلت منها مرتعا لتفريغ كل أنواع العنف المادي والرمزي، وفضاء سيكولوجيا منتجا للاستقواء وأخلاقيات الغاب. حينما ينضب العقل وتخفت محبة الحكمة، وتتفسخ الأخلاق، ويسترشي الفساد يصبح العنف ملاذا لإثبات الذات. مدرسة النجاح التي نتغنى بها اليوم، صارت تنتج الحقد والكراهية، تلقن بيداغوجيا الجهل والتجهيل، كل مؤسسة تعيش صراعا من أجل البقاء فإنها بالضرورة مؤسسة تنتج البؤس كما يقول بذلك نيتشه. مشروع مؤسسة النجاح يشرعن الفشل الاجتماعي، إذ النجاح بالنهاية نجاح نخبوي، حيث الهاجس الأكبر هو الحصول على النقطة والمعدلات السمينة، تمجيد النقطة يصبح غاية وليس الإبداع والفكرة، التلميذ يحرق جواز سفره داخل المدرسة، ويشعر بأنه منبوذ، مما يجعله لا يستطيع أن ينبني علاقة محبة مع ما يدرسه. جيل اليوم ربط بأشياء ولم يربط بأفكار، أستاذ اليوم يكاد يماثل تلميذ الأمس، حينما كان الانتماء إلى الحركة التلاميذية لوحده يقود نحو غياهب الاعتقال. كل فشل تربوي هو بالضرورة منتج لليأس الاجتماعي، مولد للهشاشة الاجتماعية، المدرسة المغربية لم تعد فضاءا للحلم، الحلم بالتغيير، الحلم من خارج النسق، انسحبت من الفضاء العام، صارت فضاء باردا، جزيرة معزولة، فقدت جذورها التي تربطها بالمجتمع، أصبحت تنتج مواطنا يحمل قيم الحقد والكراهية والغش، بدوره صار المدرس إما ضحية أو جلادا، الأستاذ المراقب والمصحح الذي يرسب الأبناء في المخيال الاجتماعي. بدوره الأستاذ صار أجيرا بلا أفق فكري ومعرفي، بالأمس كان الأستاذ يتسربل بتلاوين متعددة من الفكر والثقافة. *أستاذ باحث، مراكش