لابد من الإشارة إلى أن ما سمي (بإلغاء) (بيداغوجيا) الإدماج كان أمرا ملتبسا لأن المذكرة الصادرة في الأمر تنص على توقيفها في السلك الثانوي الإعدادي ، بينما تترك المجال مفتوحا أمام التأويل في السلك الابتدائي لاقتران الاشتغال بها بمجلس المؤسسة. لقد كان و ما يزال السؤال مفتوحا حول تبنيها أو إلغائها، وحول ماهيتها ما إذا كانت بيداغوجيا في ذاتها أم لا. صحيح أنها خلقت حولها بلبلة بين الرافض لها و القابل بها و المتبني لها و المريد لشيوخها و المستفيد من إمكاناتها ...إلخ؛ غير أن الأمر لم يبلغ إلى درجة الحوار الفكري بشأنها، و لربما أنها أصبحت الحل الوحيد والتصور الوحيد بالنسبة للكثيرين من أشياعها و غير مشايعيها فبدا النقد كأنه جرما أو كفرا. نشير إلى أننا حاورناها منذ 2006 و نشرنا بصددها مقالات كثيرة ، ثم واصلنا نقدنا لها في سنة 2008 و 2009 و 2011/2012 . و الخلاصات الكبرى التي استخلصناها كانت كثيرة. و لعلم القارئ أن التفكير التربوي في علوم التربية يتوقف عند تصور كبير يقول بأن التفكير في التربية يتقاسمه توجهان؛ واحد من بينهما يهتم بالتفكير في التربية مثل فلسفة التربية و سوسيولوجيا التربية و السيكولوجيا من خلال الحقول المعروفة كالتعلم و النمو مهما كانت المدرسة السيكولوجية. و التوجه الثاني يهتم بالتفكير حول التربية و هنا نجد التقويم والاقتصاد التربوي و السياسات التربوية ...إلخ. والباحث في (بيداغوجيا) الإدماج سيجدها من الصنف الثاني لا الصنف الأول للأسباب الفكرية التالية: أولا: لا تنطلق (بيداغوجيا) من أي أساس فلسفي أو سوسيولوجي أو سيكولوجي واضح رغم ادعائها بأنها تنتمي إلى السوسيوبنائية؛ ومعنى ذلك أن براديغمها الفكري سيظل اختباريا تجريبيا بالضرورة: عدة تقويمية تجرب في هذا البلد أو ذاك بنفس الطريقة. ثانيا: التنميط و الشمولية، وهي خاصية تلازمها أينما حلت و ارتحلت ، فهي لا تقيم الفوارق بين البلدان والأطفال و الثقافات ؛ بل تنتج و تعيد عدتها وتصورها الفوق دولتي حيثما كانت. إنها بيداغوجيا فوق دولتية، فوق الأوطان وعابرة للبلدان لا تميز بين هذا وذاك من حيث آلية التقويم و التصنيف التقويمي. وذلك ما جعل المدرسين والمدرسات و المديرين والمديرات منشغلين بملء الجداول و المبيانات، أي تحولوا إلى مصانع للتقويم كما يقول البيداغوجي الفرنسي دوفتشي، بدل الانشغال بالبناء وتنمية الذات و البعد الانساني والعلائقي و التواصلي و القيمي. ثالثا: إن هم (بيداغوجيا) الإدماج الوحيد و الأوحد هو التقويم، وهذا معناه انها لا تمتلك سؤال التربية و لا سؤال البيداغوجيا. فهي لا تعي نفسها كتصور للتربية أو في التربية ، و بالتالي لن تكون بيداغوجيا تعمل العلم في التربية ، أي تستحضر السيكولوجيا (التعلم والنمو و تنمية الذكاء...) أو السوسيولوجيا (التنشئة الاجتماعية والفوارق و تكافؤ الفرص و الأنظمة الثقافية ...إلخ) أو الفلسفة ( سؤال الإنسان و المصير و الغاية و القيم ...إلخ). فنزعتها التقويمية تغيب كل شيء شيء من أجل تصنيف مسبق وضع قبل أن يلج الطفل إلى المدرسة. رابعا: تقدم بيداغوجيا الإدماج نفسها كاستراتيجية في محاربة الأمية الوظيفية ، ومرة تقول بأنها استراتيجية في تعلم الكتابة والقراءة والحساب، وهي بذلك تصنف نفسها بنفسها في خانة المشتغلين على التسرب الدراسي و محاربة الأمية . و يتضح ذلك بكونها تضع نفسها كأداة في يد منظمات دولية تشتغل على محاربة الامية الوظيفية. و قد عينت نفسها كبيداغوجيا للفقراء، كبيداغوجيا لدول لم تعمم التمدرس و لا تتوفر على نظام تربوي قائم. خامسا: يجلنا هذا التصور الأخير الذي عينت به نفسها إلى أنها تتلاءم و اقتصاد الهشاشة، هذا الاقتصاد الذي يقوم على l'insertion وليس l'intégration . و لعل هذين المفهومين هما لحمة بيداغوجيا الإدماج. سادسا: إن الانشغال بالهشاشة والكتابة والقراءة و الحساب ، و الانشغال بالعدة التقويمية و التخطيط الشامل و الأحادية و النمطية جعلها تغفل القيم و السؤال حول الإنسان؛ وذلك ما جعلها تتعرى أمام وضعيات قيمية و ثقافية و ذهنية و مخيالية لأنها ببساطة تنزع نحو المهارة اليديوية و الإنجازية القابلة للملاحظة ، وبالتالي القابلة للتقويم ، وهو ما جعلنا نصنفها ضمن السلوكية الواطسنية الجديدة. فالكائن الذي يتعلم هو هو في المغرب أو غيره من البلدان مطلوب منه أن يبلغ سلما إنجازيا معينا لتحكم عليه هي بالتعلم. سابعا: ما يلاحظ أن (بيداغوجيا) الإدماج لا تعير اهتماما بالنمو و لا بالذكاءات المتعددة و لا باستراتيجيات التعلم لدى الأطفال و لا بالموقع الاجتماعي و الثقافي الذي ينحدرون منه. كما لا تفكر في المعاقين و لا المتأخرين ذهنيا و لا الذين لا يملكون أي رأسمال ثقافي ...إلخ. لقد كان و ما يزال همها هو بناء وضعية تقويمية، وضعية مستهدفة، وضعية إدماجية واحدة موحدة بالنسبة للجميع حيثما كانوا ، وكان العلاج واحدا موحدا. ثامنا: إن لغة بيداغوجيا الإدماج و جهازها المفاهيمي بعيد عن لغة التربية لأنه يمتح من التدبير والاقتصاد و الهندسة أكثر مما يمتح من النظريات السيكولوجية و السوسيولوجية و الفلسفية. فأنت تجد لغتها تتحدث بحيادية عن المعرفة و اللغة و القيم ، كما تجعل المعرفة و الأشخاص موارد كباقي الموارد العينية ...إلخ. و لعل هذا الجانب وحده يجعلها موضوع تأمل فكري يعري عن وجهها اللاتربوي و اللابيداغوجي بشكل عام. تلكم أهم انتقاداتنا لها منذ 2006 إلى اليوم.فكم كلفتنا هذه الآلة التقويمية؟ وماذا كلفتنا بالتحديد؟ إن التكلفة في التربية على وجه التحديد ،كما يقول كانط، تكون زمنية ، أي أن زمن التكلفة هو زمن مستقبلي. هل كان المغرب حقل تجربة؟ هل كان أبناء المغرب فئران واطسن؟ من نحن المغاربة ونحن نتبنى (بيداغوجيا) الإدماج؟ عن أي مستقبل تربوي نتحدث و نحن نشتغل بها؟ عن أي إنسان مغربي نتحدث ونحن نجعلها جزء من تصوراتنا للمغربي؟...إلخ إن التكلفة لن يجيب عنها الافتحاص لأن هناك زمن ضائع لا يدخل في خانات الافتحاصات إلا إذا كان للمسؤول وعيا بالزمن و بالمستقبل معا. وبناء عليه فإن الافتحاص لن يرد الزمن الضائع و لن يجعل المغاربة يعون المستقبل بوعيهم للقضية التربوية والبيداغوجية. يبدو لي أنه من ملامح الوعي بمصير المغرب، بمستقبل المغرب هو الاستدراك، استدراك الزمن الضائع لنلج الحاضر في حاضريته و المستقبل كزمن آت يمحو الحاضر و يعطيه معنى، وهو ما يغيب غيابا كليا منذ أن (ألغيت) هذه (البيداغوجيا). و بلغة أخرى إن زمن ما بعد (بيداغوجيا) الإدماج لم يكن ملحا و كأن المغاربة ينتظرون الإله المخلص ليوحي لهم بحل بيداغوجي جديد. إنهم ينتظرون، يقفون، يتوقفون دونما طرح السؤال: أي حالة بيداغوجية نحن عليها الآن في مؤسساتنا التعليمية و التكوينية و التفتيشية؟ ودون البحث عن المسؤول عن حالة الانتظار الكبرى هاته فإن السؤال حول المستقبل البيداغوجي لم يطرح بعد . فمنا من ينتظر كعادته ومنا من لا يبالي بخطورة الأمر ومنا يحارب الديناصورات بسيوف خشبية ومنا من يغترب في الحدائق، وحده الوطن ينتظر المحاربين من أجله. وخلاصة القول فإن غياب المستقبل التربوي والبيداغوجي يعني غياب الإنسان الذي نريده، بل غياب الإنسان المغربي. وانبعاث المستقبل التربوي والبيداغوجي لا يكون إلا بحوار بين مفكري ومفكرات و باحثي وباحثات المغرب ، فهؤلاء وحدهم هم من يعرف لماذا ينبغي أن نكون مغاربة و أن يكون للمغرب مستقبلا. *** لا يمكن بأي حال من الأحوال الحديث عن (بديل) بيداغوجي في المغرب هكذا بجرة قلم ، وبتسرع دون تأمل و تفكير عميق ونقاش أكاديمي و معرفي مستفز للجميع. فكل حديث عن البديل البيداغوجي دون تفكير طويل و عميق سيجعلنا نكرر أخطاء الماضي المتراكمة منذ عقود، بل سيجعل أمر البديل البيداغوجي كما لو كان سلعة تقتنى اقتناء كالأكلة الجاهزة و البناءات المفكك، ومن جانب آخر فإن أي حديث عن البديل البيداغوجي لا يطرح ضمن تصور تربوي إشكالي فلسفي عام سيختزل الأمر في الفهم التقنوي والتبسيطي و الاختزالي للقضية البيداغوجية، إن لم يكن هذا التصور الأداتي بالذات هو السائد في المغرب منذ بيداغوجيا الأهداف وصولا إلى (بيداغوجيا الإدماج). إن ما تغافلته التصورات البيداغوجية (إن وجدت) في المغرب منذ عهد بيداغوجيا الأهداف إلى اليوم هو البحث عن التصور الفلسفي و الإبستيمولوجي و البراديغمي الذي تستند إليه هذه البيداغوجيا أو تلك كي تتملكها من جهة الأسس و الخلفيات و الأفق و الغاية و الجانب الابيستيمولوجي. لقد جعل هذا الغياب أو هذا الفهم التقني من البيداغوجيا – كيفما كانت هذه البيداغوجيا- مجرد تقنية أو أداة محايدة تكون في متناول الجميع ، و بالتالي يمكن نقلها من مفتش(ة) إلى غيره ، ومن مكون(ة) إلى غيره، ومن مكون(ة) إلى طالب(ة) أستاذ(ة) وهكذا ودواليك. و بالإجمال يمكن نقلها من هنا إلى هناك بيسر و دون عناء كما تنقل الأشياء العينية من مكان إلى مكان. ولعل هذا الجانب هو ما جعل الكثير الكثير من المهتمين بالتكوين والتفتيش يتحدثون عن الميدان و أدوات الاشتغال في الميدان كما لو كان الأمر يتعلق بنقل معدات البناء من عارف إلى جاهل و اختزال الذات أو دور الذات العارفة في النقل المحايد و الوساطة النزيهة بين هذا وذاك. إنه لأمر مؤلم، وإنه لتصور وضعاني مغرق في الحيادية و الموضوعية التي وسمت بدايات القرن التاسع عشر الأوربي، وهو الأمر الذي لا يستقيم و خصوصية المجال الانساني كما يفهم اليوم في ابستيمولوجيا العلوم الانسانية عامة. إن هذا التصور المبتسر المختزل الأدواتي –إن صح التعبير- و الإجرائي حصرا جعل علاقة الذات بالبيداغوجيا علاقة محايدة (أسطورة الموضوعية) ؛ أي أن الذات العارفة (ذات المكون(ة) والمفتش(ة) و الطالب(ة) و المدرس(ة)...إلخ) لا تعنيها البيداغوجيا إلا كأدوات للاشتغال في لحظة الاشتغال، أو بمعنى آخر أن البيداغوجيا لا تهم المفتش(ة) و المكون(ة) والمدرس(ة) إلا حينما يفتح حجرة الدرس أو ما شابهها ، ثم تنتهي علاقته بها حينما يغادرها. وها هنا علينا ان نستحضر أسئلة غاستون باشلار للعلماء، في هذا الباب بالقياس، وهم يتوجهون صباحا إلى المختبر أو يعودون منه مساء (التحليل النفسي للمعرفة العلمية). إن مثل هذا الفهم السطحي للبيداغوجيا جعل الجميع يستسهلها و يصبح منظرا فيها أو خبيرا في مكاتب دراسية بيداغوجية خاصة (بيداغوجيا الوصفات). و المعنى المقصود هنا هو أن البيداغوجيا تساوي أدوات و إجراءات محددة ، وأن اتقانها يعني اتقان تلك البيداغوجيا وبلوغ مرادها. أليس هذا هو واقع حال البيداغوجيا في المغرب منذ عقود من الزمن؟ أليس هذا التصور هو القتل الفعلي للتفكير البيداغوجي بالذات؟ أليست هذه الممارسة هي التي تقف أمام كل تفكير في السؤال التاريخي منذ القرن الثامن عشر: ماذا نعني بالبيداغوجيا؟ ذلك هو التصور الخاطئ الذي ساد المغرب منذ بيداغوجيا الأهداف إلى اليوم. ونكرر هنا أنه تصور اختزالي و تبسيطي وأداتي و وضعي (يقيم الفصل بين الذات و الموضوع، بين الذات العارفة و البيداغوجيا المتبناة) و اختباري لأنه لا يؤمن بالتأمل في الممارسة وفي الذات العارفة و المتلقية، وتجريبي لأنه يمجد الممارسة دون وعي بها، فيجعل الحقيقة في التجربة ، في الميدان بلغة الممارسين اليوم. وأما الذات العارفة لا يهمها وضع ذاتها في منطوق الخطاب و الفكر والممارسة ، ولا يعنيها كل ذلك لا من قريب و لا من بعيد، لا يعنيها لا وضع الذات و لا وضع المعرفة. وهكذا تصير الذات العارفة ذاتا تايلورية محكوم عليها بالوظيفية المطلقة دون معرفة بما تقوم به و لا تصور لديها للغاية النهائية من وظيفتيها؛ فهي ذات مأمورة من طرف المهندس تقوم بمهام لا تعيها. إذن، فما الذي جعل ممارستنا البيداغوجية في المغرب اختبارية و تبسيطية و تجريبية و اختزالية و وضعية لا تتجاوز بدايات القرن التاسع عشر في آخر المطاف؟ إن أول سبيل لتلمس الإجابة عن سؤالنا أعلاه يتمثل في غموض ما نعنيه في المغرب بعلوم التربية. فهذا التخصص وحده كان عليه أن يوضح الالتباسات التي تطال المشكل البيداغوجي في المغرب منذ أن تأسست مراكز التكوين بعامة. و نعني هنا بعلوم التربية تحديدا فلسفة التربية و سوسيولوجيا التربية والسيكولوجيا و ما عدا هذه التخصصات أو الحقول المعرفية الكبرى يكون كل انتماء لعلوم التربية بالتبني لا بالشرعية المعرفية. فهذه التخصصات هي التي تهمها إشكالات كثيرة منها: ما معنى التربية ؟ و ما معنى البيداغوجيا؟ و لماذا ينبغى أن يرتبط التعلم و التنشئة الاجتماعية أو بناء الذات بالبيداغوجيا والتربية، أو لنقل كما يسميها المفكرون الكبار (كانط، أوغست كونت، دوركهايم ...إلخ) أن يرتبط كل ذلك بعلم التدريس أو علم التربية؟ ها هنا كان على الخطاب التربوي والبيداغوجي أن يشتغل على ارتباط البيداغوجيا بالتعلم والتنشئة الاجتماعية، وأن يبين بأن البيداغوجيا تهم الذات المتعلمة في جميع أبعادها لتنشئة إنسان ما ، و بالتالي فإن الخطاب البيداغوجي هو خطاب في الإنسان و ليس خطابا أداتيا اختباريا لا علاقة له بالمدرس(ة) و الطفل(ة) و المكون(ة) و المفتش(ة). و بتعبير أدق فإن كل خطاب بيداغوجي هو خطاب في تربية الإنسان في آخر التحليل. إذن سيكون خطاب علوم التربية هو أن يفتح للذات العارفة إمكانية أن تكون مسؤولة عن الخطاب البيداغوجي والتربوي مسؤولية فكرية وقيمية و مصيرية مادام خطاب البيداغوجيا خطابا في الإنسان. وهذا معناه أن الخطاب البيداغوجي ليس خطابا محايدا، وليس خطابا موضوعيا... إنه خطاب من أجل غاية فلسفية في آخر المطاف مهما كانت خلفيته السيكولوجية أو السوسيولوجية. فالخلاصة الأولى التي نستخلصها من هذه النقطة أن الخطاب البيداغوجي المتهافت على الحياد والأداتية و النزعة الإجرائية الفجة – الذي يستسهل البدائل البيداغوجية- لم يكن يعي خلفياته في علوم التربية و لا غائياته و أسسه الفلسفية ، و لذلك ساد التبسيط و غابت الاختيارات الفكرية والحوار الفكري و انتعش فكر الهذيان التجريبي و استسهال خطاب علوم التربية. و النقطة الثانية في تقديرنا لتفسير هذا التبسيط المعمم في الخطاب البيداغوجي منذ بيداغوجيا الأهداف إلى اليوم هو غياب التصور الفلسفي العام للتربية في المغرب. ماذا يعني المغرب بتربية الإنسان المغربي؟ ومن أين لنا بهذا التصور؟ وهل كل من نظر لنموذج بيداغوجي ما في المغرب كان يطرح تصورا فلسفيا للتربية؟ و أي فلسفة في التربية ينبغي أن ترشدنا إلى ذلك؟ يبدو أن السؤال حول التربية ظل غائبا منذ الاستقلال إلى اليوم رغم ما قد يعترض علينا البعض به من وجود بعض الوثائق الرسمية كالميثاق الوطني للتربية و التكوين أو الاجتهادات المعزولة هنا و هناك منذ كتاب الأستاذ الكبير محمد عابد الجابري حول التعليم وصولا إلى اجتهاد الاستاذ بوبكري في فلسفة التربية. فالملاحظ أن الوثائق الرسمية كالميثاق لم تبلغ درجة كبيرة من النضج الفلسفي لتطرح تصورا لماهية التربية. كما أن الاجتهادات المذكورة ظلت محصورة لأن المطلب الثقافي و السياسي في المغرب لا يحبذ الأطروحات و النقد الجريء، بل لا يستقبل الخطاب الفلسفي في التربية بترحيب وضيافة كبيرين. *** تحدثنا فيما سبق عن ارتباط البدائل البيداغوجية بالتصور التربوي أولا، وهو ما يعني إيجاد رؤية فلسفية عامة ، ثم البحث في ماهيتها التربوية التي تتوافق وفهمنا للدولة أو الوطن؛ وهذا معناه أن التفكير في التربية هو تفكير في ماهية الدولة أو ماهية الوطن. ثم يلي ذلك التفكير في ماهية البيداغوجيا أو الاختيارات البيداغوجية، وما سيترتب عنها من تصورات للمتعلم(ة) و المربي(ة)/المدرس(ة)، ومن برامج ومناهج أو بلغة شاملة الكيريكيلوم بمتطلباته ومستلزماته. هكذا سنكون أمام تصور استنباطي شمولي يبدأ بالتربية ليفكر في الدولة/الوطن، والمواطن/الإنسان الغاية، وينتهي به المآل في حجرة الدرس. غير أن هذا التفكير ليس خطيا أو تفكيرا جامدا كما سنرى ، بل هو تفكير دينامي يتغير وفق الحاجات والتطورات عملا بمبدإ التعديل كما يقول إيمانويل كانط، في كتابه عن التربية، لأن التعديل يبيح لمفكري التربية إعادة النظر جذريا في غاياتهم لتكون الغاية الثابتة هي المستقبل و الإنسان و الإنسانية. إن التصور العام الذي نفترض الانطلاق منه هو أن التربية لا تكون إلا من أجل ألمستقبل أو لنقل إن المستقبل هو أساس التربية، و أن الحاضر ما هو إلا عتبة من أجل المستقبل ( كما يقول سبنسر). فكيف ينبغي أن تكون التربية عتبة لدولة أو وطن في المستقبل؟ تطرح التربية من أجل المستقبل قضايا كبرى منها قضية الماضي و الموروث، وهي قضية خاصة ودقيقة تقوم على القطائع. فالمستقبل لا يمكنه أن يكرس الماضي دون انفصال عنه كماض. ثم إن تربية تكرس الماضي هي تربية ترتكن إلى الانغلاق مجسدة في ماض شعب أو قبيلة أو ثقافة أو عرق. ومن هنا كان لزاما أن تكون التربية من أجل المستقبل هي تهيئ الشعب للمستقبل لا اجترار التربية على العوائد و الاعتقادات و الطقوس و الذهنيات...إلح باسم الهوية. إن أسوأ تربية هي أن تظل المدرسة و المؤسسات التعليمية تجتر الماضي دون أن تعيه، فتقع بذلك خارج منطق التقدم و المستقبل . فالمدرسة المطلوبة هي المدرسة من أجل الحياة كما يقول جون ديوي. فإذا ما درست المهن والحرف فلكي لاتكرر ما قام به الأجداد بصفاء ونقاء ، وإنما أن تبين كيف تتطور المهن و تتطور العقليات والحاجات و الثقافات لتصبح المهنة موضوع تفكير تربوي يخضع للتاريخ و له تاريخيته . فتربية مثل هذه التربية تستعد لقبول التغير و التطور و الانفتاح على المستقبل على عكس ما تردده الزوايا مثلا من أوراد تتكرر لازمانيا ولا تخضع لمنطق التغيير و التحول والتبدل ، و لا تهيئ الناس لاستقبال التغيير والتحول. فهي أوراد خارج التاريخ لأنها لا تفكر فيما ينبغي أن يكون عليه المجتمع و الإنسان، وما تفرضه الحضارة الإنسانية من تغير وتحول. يتحدث كانط بخصوص هذه النقطة في كتابه عن التربية عن سيئي التربية، وهو لا يعني المدرس(ة) السيء التكوين فقط؛ ذلك المدرس(ة) الذي يختبئ في التعليم كالمحارب الفاشل، وإنما يقصد بذلك تربية الآباء للأبناء و جميع المؤسسات التي تجتر تربية ماضوية أو نفعية همها التكيف مع الواقع دون مستقبل. فمثل هذه التربية تصدر عن أوامر لا تعيها. فالأب يريد من الإبن أن يكون نسخة عنه كما هو الحال في الزاوية و المدرسة . وبناء على ذلك فإن التربية من أجل الحياة و من أجل المستقبل ليست تربية لقساوسة يعيدون التاريخ الطاهر، كما أن التعليم ليس ملجأ لتفريج جحافل الأتباع. إن التربية هي المستقبل في تحولاته ، مستقبل شعب أو مستقبل دولة أو مستقبل وطن. ومن يتوخى المستقبل عليه أن يبتغي غاية قصوى هي الإنسان. ومن تم تكون الغاية الأساسية الوحيدة هي التربية من أجل الإنسانية كلها. و لبلوغ ذلك فإن هذه التربية لا تنطلق من تكريس نزوعات عرقية أو دينية أو ثقافية أو حضارية، حتى لا تسقط في اللا إنسانية كالبربرية والوحشية و أسطورة الحضارة المتفوقة و العرق المتفوق و الثقافة المتفوقة ...إلخ. إن التربية من أجل الإنسان و الإنسانية يكون تاريخها هو الإنسانية جمعاء، وهي مؤمنة بالتاريخ الشمولي للإنسانية. وهذا معناه أنه لا وجود لشعب أو عرق أو ثقافة كانت تربيتها في الماضي أحسن من غيرها أو هي التربية الوحيدة التي يجب أن تقوم عليها التربية أو هي مثال التربية في جميع الأزمنة. إن التربية هي تقدم الشعوب نحو الإنسانية و حالما تنتفي هذه الغاية تصبح التربية تربية للمذاهب والأعراق و تباين الحضارات و صراعها. فالمستقبل الذي يستهدف الغاية الإنسانية في التربية يستحضر التاريخ العام للإنسانية كلها ، ويتأمل التجارب الإنسانية في التربية حتى يجد الطريق التي تجعل المستقبل إنسانيا للإنسانية. هكذا تكون التربية مختبرا تأمليا للإنسانية لأنها تستحضر النسبية و تعددية التجارب و الانفتاح على العالم كله وتتنكر لأسطورة الإنسان الكامل. إن جعل الإنسانية غاية للتربية يعني الاشتغال على قيم إنسانية كبرى تخضع للتعديل الدائم ، ومن تم كان من الضروري أن تكون مهمة التربية من اختصاص المفكرين والباحثين في جميع المجالات لا من اختصاص الحكام. فالمفكرون و الباحثون هم من يستطيعون إدراك المستقبل و ما ينبغي أن يكون عليه المستقبل إنسانيا. غير أن التربية من أجل الإنسانية لا تنفي التربية من أجل بناء الدولة أو الوطن. كما لا تتعارض الوطنية و الكوسموبليت (المواطنة الكونية) حتى لا تنقلب الوطنية إلى شوفينية. وهكذا تتبدل المعادلة من التربية على المستقبل الإنساني إلى تربية على مستقبل وطن إنساني للإنسانية كلها. يشتق لفظ الوطن من اللفظ اللاتيني pater : الأب ، والوطن هو الدولة التي ولدنا فيها أو التي ننتمي إليها كمواطنين. يقول أحد الدبلوماسيين الفرنسيين في القرن التاسع عشر: إن كلمة الوطن وحدها تمارس سحرا خاصا. ولا ينبغي لهذا الحب آن يغطي عن الحقيقة والعدالة. تتأتى الهوية الوطنية نتيجة تطور تاريخي لشعب عوض تطور مبدأ مطلق. فهي شعور يوازي الشعور الديني يتضمن الانتماء و المنشأ و المولد و الانحدار من أرض . إنه الشعور العميق الذي يميز الشعوب، غير القابل للانمحاء لأننا عشنا هنا معا منذ قرون خلت، ولنا نفس الأذواق و مررنا من نفس المحن وعشنا نفس الأفراح و الأحزان. نستخلص من هذه التعاريف الأولى للوطن أن التربية على الوطنية تهم كل كل مواطن مواطن على حدة بعض النظر عن أي اعتبار سوى اعتبار انتمائه للأرض. وفي هذه الحالة فإن التربية هي ربط الصلة بين الإنسان/المواطن و الأرض و الانطلاق منه كأساس أول و غاية إنسانية. إن التفكير بالوطن في التربية يتنافى و مفهوم الأمة لعدة اعتبارات منها أن الأمة كما نقرأ في معجم لاروس الصغير مشتقة من الكلمة اللاتينية natus التي تفيد الولادة، وهي مجموعة إنسانية تعيش في الغالب في إقليم تتمتع ببعض الوحدة التاريخية و اللغوية و الدينية و ربما الاقتصادية و لها إرادة العيش المشترك'. كما يفيد لفظ الأمة مجموعة من الناس لهم نفس اللغة و التقاليد وإرادة العيش المشترك ، وليسوا بالضرورة على نفس التراب. ويشير هذا التحديد الأخير إلى أن لفظ الأمة في لغة السياسيين هو مجموعة من الأفراد لم يتشكلوا طبيعيا و إنما بفضل الأحداث السياسية. كما نجد من بين الخصائص المحددة للأمة اللغة و الدين و الأصل العرقي و الميراج و التاريخ و الثقافة والأخلاق و الجغرافيا..إلخ. ويرى أحد الدبلوماسيين الفرنسيين من القرن التاسع عشر أن لفظيnation و nationalité يرتبطان بشيء روحي بالتحديد. إذن ما الذي يميز التفكير في التربية بالوطن عن الأمة في حالة المغرب أو لماذا ينبغي التفكير في التربية بالوطن تحديدا؟ *** تحدثنا في السابق عن وجوب تبني فكرة الوطن كأساس في التربية بدل الأمة، وبينا أن مفهوم الأمة يحيل دوما إلى الدين أوالعرق أوالمذهب أو اللغة منفردا أو مجتمعا أو غير هذين الحالتين حسب أحول الملل و النحل. إن مفهوم National, Nationalisme يروم اللم والجمع وقمع الاختلاف والتعدديات، وهو في الحالة المغربية تمتد جذوره تاريخيا إلى المشرق العربي: القومية العربية، وفلسفيا يجد نموذجه في دولة العرق والدين أينما وجدت تاريخيا. ففي حالة المغرب ظلت الحركة الوطنية العتيقة تمجد العروبة ( القومية العربية، الدفاع عن اللغة العربية...) من دون التفكير في شروط ميلاد المواطنة ودولة المواطنين والمدرسة الوطنية أو في غياب تجديد السؤال الأهم: هل هذه الدولة المستقلة حديثا هي التي كان المغاربة يحاربون فرنسا من أجلها؟ هل المدرسة الناشئة تستجيب لعموم المواطنين باختلاف هوياتهم وثقافاتهم؟ تلتقي الحركة الوطنية والنظام السياسي منذ 1956 في الدفاع عن مفهوم الأمة (الواحدة الموحدة) مما ترتب عنه وجود أزواج وثنائيات وفصامات: تقليد/ حداثة، برلمان/بيعة، أحزاب/ ملك يحكم، لغة رسمية ( العربية)/ اللغة الفعلية للإدارة (الفرنسية)، إرادة التحديث( إدارة عصرية، برلمان، جامعات...)/ إرادة التقليد الأعمى للأسلاف ( الشورى، مؤسسات الزوايا، البيعة...)، لغة القانون/ لغة التعليمات، النزوع نحو التحديث /تمجيد التقليد، المواطنة/ الفكر الرعوي، مدرس/فقيه، مدرسة عصرية/مدرسة تقليدية: الكتاتيب، مدارس الزوايا، مدارس التعليم الأصيل، كليات للشريعة...إلخ. نستخلص مما تقدم أن نخب الحركة الوطنية لم تكن قادرة على تمثل الحداثة السياسية والتربية الجديدة كما نظر لها روسو و كانط و فشته...إلخ، وهذا ما يلاحظ اليوم بعد مرور نصف قرن على استقلال المغرب، لتصبح هذه الحداثة رهان وجود فردي و جماعي وسياسي وتاريخي لأن الكثير من الفاعلين كما نعثر على ذلك في المتون المتخصصة في الأنتربولوجيا السياسية استفادوا من الأوضاع الاقتصادية والتعليمية والتجارية منذ فترات بعيدة و دخلوا في علاقات فيما بينهم فكونوا بعد الاستقلال لوبيات وأقليات استراتيجية داخل الإدارة والأبناك والتجارة والملاحة والمعادن والفلاحات التصديرية وفي الاقتصاد والتعليم... إلخ، وبالتالي لم يعد التساؤل عن الدولة الوطنية وعن المدرسة الوطنية، وعن الوطن يهمهم طرحه ولا مناقشته. فبالقدر الذي يدافعون فيه عن المدرسة الوطنية العمومية يدرسون أبناءهم في مدارس البعثات الأجنبية أو المدارس الخاصة. وبالقدر الذي يدافعون فيه عن اللغة العربية يحوز ذويهم على الدبلومات في اللغات الأجنبية و شواهد التسيير والتدبير من الخارج، بل إن الحالة الآن تعممت حينما أضحت الأحكام تنتقص من المدرسة الوطنية العمومية ومن مردوديتها العامة بالنسبة للسياسيين والجمعويين والنقابيين، وبالتالي هناك هجرة جماعية نحو التعليم الخصوصي، التعليم المرتبط بمتخيل السوق الذي نتجت عنه نخب شوفينية و منفعية كما رأى الفيلسوف فشته متحدثا عن ألمانيا. إن التفكير التربوي والفلسفي بالوطن يعني الحب الذي يتوافق والعقل كما يقول فشته حتى لاتنقلب الوطنية إلى شوفينية. فالوطن الذي يعني الأرض التي ولدنا فيها هو وطن جميع المغاربة. والمغاربة الذين نعنيهم هنا هم من يجب أن يجيبوا عن السؤال التالي: ماذا يعني أن تكون مغربيا؟ إذا كان السؤال يستحضر الجغرافيا فهذا يعني أن القدر التاريخي بأحداثه و حروبه حتم على أقوام و شعوب و قبائل أن تجتمع في جغرافيا معينة نسميها اليوم المغرب ، وعليها أن تتعايش لتعيش في هذا الوطن الموروث عن الأجداد دون اختيارات الأبناء، وأن كل من ولد في هذا الوطن له الحق الكامل ليكون مواطنا فيه. إن المغرب كما قال الأستاذ عبد الكبير الخطيبي متعدد الثقافات و الأعراق والديانات، ولعل هذا التعدد يتناقض ومفهوم الأمة التي هي أساس التربية في المدرسة المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم. إن المغرب الذي يعترف بتعدده ، ويريد ان يقدم عليه ثم يتراجع عنه لن يدخل عتبة الاعتراف بجميع مواطنيه إلا عن طريق أن يعيش تعدده و تتعايش تعددياته في المدرسة والتربية و الواقع. ومن أجل ذلك فهو مجبر على الاعتراف بمواطنة الأمازيغي والعربي والصحراوي و اليهودي و غيرهم ، ومجبر كذلك على الاعتراف بجميع لغات مواطنيه في مدرسته كما هو حال كندا التي تحتضن أكثر من 120 لغة. فالمغرب الذي يعيش فصامات التعدد وتعدديات مشوهة التي تتجلى في أنظمته التعليمية العصرية والأصيلة و العتيقة و تعليم الزوايا و تعليم البعثات الأجنبية عليه أن يفكر في التعددية الفعلية لا التعددية المفتعلة و المنمطة التي تعمل بعض مؤسساتها كالبعثات التبشيرية في القرن 18 من الميلاد. إن مطلب التعدد ينعكس اليوم على مطلب دمقرطة الثقافة الوطنية في المدرسة والتربية الوطنية أو على الوطنية. و لن يتم ذلك إلا بولوج التربية و المدرسة عهد التعدد و القطع مع التنميط في الدرس و الكتاب المدرسي و الإيقاعات المدرسية والزمنية. ولكي نفصل في هذه النقطة سنعطي مثالا بالكتاب المدرسي حصرا. لن نتحدث هنا عن سوق الكتاب المدرسي ، و لا عن الآليات التي تنتجه، ولا عن آليات تأليفه والمصادقة عليه. كما لن اتحدث عن دفتر التحملات ، و لا عن المستوى العلمي والأكاديمي للكتاب المدرسي و الانتقادات التي توجه إليه من طرف الأكاديميين المتابعين لتطور المعرفة ، والحقوقيين الذين يترصدون ذهنيات اللامساواة و اللاحقوق فيه. كما لن نتحدث عنه كسوق تجاري بامتياز أو كبضاعة مقدمة لمستهلك بمباركة رسمية. إن ما تهمني هنا هي الجوانب التالية: أولا: هل كتابنا المدرسي يعكس التعدد اللغوي والثقافي؟ إن كتابنا المدرسي لا يعترف بمغربية المغربي في تعدديتها لا لغويا ولا ثقافيا و لاجغرافيا رغم تعدده الشكلي في المادة الواحدة (ولنترك هذا الأمر إلى فرصة أخرى) . ومعنى ذلك أن التعدد العددي في المادة لا يخدم إلا الفكر والتفكير الواحدي، التفكير باللغة العربية أو الفرنسية أو لغة أجنبية أخرى. فهذا الكتاب المعمول به حاليا لم يحترم 30 في المئة التي نص عليها الميثاق الوطني للتربية و التكوين جهويا، كما لم يحترم 15 في المئة المحلية ، وربما لن يحترم الكتاب الآتي أي شيء حتى ولو دخل المغرب عهد الجهوية. يبدو أن الكتاب المدرسي طرح نفسه ضمن منطق شمولي و تجريدي من جهة ما يقدمه من معلومات و طريقة التدريس و أزمنة التدريس، وهو بذلك يساهم في محو الهويات المحلية و إرادة ان تكون المدرسة في محيطها لأنه يجردها و يفصلها عن المتعلم، وعن لغته الأم وثقافته المحلية و إيقاعات تعلمه و إيقاعات معيشه اليومي وجغرافيته و ذهنيته و عمارته وعمرانه وحضارته. والحاصل أن كتابا مثل هذا الكتاب ينتمي إلى تصور معياري للدولة يتسم بالواحدية، و لا يعمل على بناء الدولة الوطنية والديمقراطية الثقافية. ثانيا: هل قدر المدرسة المغربية أن تظل تحت رحمة الكتاب المدرسي؟ إن أي إجابة على هذا السؤال ينبغي أن تستحضر كل ما يمكن أن يجعل المعينات الديداكتيكية والاختيارات البيداغوجية في خدمة التعدد الثقافي و اللغوي في المغرب، ونعنى بذلك أن الكتاب مهما كانت قيمته لن يعكس التعدد الثقافي واللغوي للمغرب؛ أي أنه لن يحقق مدرسة ديمقراطية ثقافيا ولغويا. ومن هنا تبدو محدوديته و ملحاحية نهايته للتفكير في بدائل أخرى إن أراد المغرب أن يكون متعددا و أن يكون وطنا للجميع . وهذا الأمر يتطلب تصورا آخر للمدرسة والمدرس(ة) و المنهاج الدراسي، كما يتطلب تطويرا فعليا للتكوين الأساس (لا تكوين بالوصفات كما هو حاصل الآن) و التكوين المستمر، و ليس تلميع الكتاب المدرسي بالألوان و استحضار جمالية الخط و الشكل اللغوي. *** تحدثنا عن اقتران التربية بغاية بلوغ الإنسانية، ثم انتقلنا إلى مفهوم الوطن كأساس للإنسانية. وبينا العلاقة بين الوطنية و الإنسانية حتى لا تسقط التربية على الوطنية في الشوفينية فاستبعدنا بذلك مفهوم الأمة وبينا خلفياته ومحدوديته في استيعاب البعد و الغاية الوطنية و الإنسانية . إن هذا التصور يلتقي عادة في الأدبيات الفلسفية التربوية بمفهوم التربية الجديدة الذي دشنه روسو ثم فشته و كانط فيما بعد. لقد فكرت فلسفة التربية في ماهية الإنسان الجديد، في طبيعة الإنسان، في ميلاد الإنسان الجديد منذ روسو إلى نتشه من جهة التربية و القيم؛ ولذلك اقترن مفهوم التربية الجديد بميلاد هذا الإنسان، وكانت التربية تصورا عاما يلتقي في ابعاده القصوى مع الفلسفة السياسية و مفهوم الدولة الجديدة. كما فكرت الأدبيات التربوية المتعلقة بالتربية الجديدة في العلاقات الاجتماعية و ظواهر المجتمع بدء بسبنسر مرورا بأوغسط كونط و دوركهايم. فأوغست كونط مثلا كان يدعو إلى تربية وضعية تتوافق و تصوره للفيزياء الاجتماعية المأمولة. وما يجب ان ننبه إليه هنا لنبين القطائع في التصورات بين التربية في الماضي و التربية منذ روسو هو ما يلي: أولا: هناك خلط بين ما تحيل عليه التربية وبين ما يمكن أن يرتبط بتاريخ ظهور البيداغوجيا بمعناها الدقيق. ويأتى هذا الخلط من الممارسة التي يقوم بها المربي سواء أكان عبدا يقود الطفل أو غيره ممن يمارسون نشاطا على الطفل من أجل تربيته، ولعل هذا الخلط بين الوظائف يجعل وظيفة المربي هي وظيفة البيداغوجي؛ أي الخلط بين التربية والبيداغوجيا. ثانيا: إن المربي في الفكر اليوناني والروماني يقرر فيما ينبغي أن تكون عليه تربية الطفل؛ وبالتالي يقرر في تراتبية المعارف مثل ما نجد في جمهورية أفلاطون. هناك معارف أرقى وأخرى أدنى، هناك معارف للعقل و أخرى للحواس والجسد أو هناك معارف حسب الأنفس كما جاء في جمهورية أفلاطون. والمعارف في تراتبيتها تتناسب وتصورات فلسفية للمدينة والطبقات والأنفس والمعادن الطبيعية. وكأن المربي يقرر في ماهية الإنسان قبل ولوجه إلى التربية. إن المشكلة الأولى الموروثة عن اليونان والرومان هي أن المربي حينما يضع تصورا مسبقا لتعلم المعارف والصنائع يقرر مسبقا أي إنسان يريده، وكيف سيتم ذلك، وبأي طريقة يتم الوصول إلى ذلك. وإن الأهم من كل هذا وذاك أن المربي حينما يقرر في تراتبية المعرفة فإنه يقرر في نوع المجتمع الذي تفضي إليه التربية. ولعل هذا الوعي العميق والأساس بوظيفة التربية وبما يترتب عنها كان أساس ظهور الإنسان كموضوع للتفكير التربوي العقلاني. وذلك ما يجسده فكر الأنوار بقوة كبيرة. فالحديث عن التربية هو حديث عن المربي وعن المجتمع وعن الغايات. إن ربط التربية بالعقل وبالمجتمع يعني جعل التربية موضوع العقل بامتياز؛ وذلك ما يفسر صراع مفكري عصر الأنوار ضد الأنماط التربوية والتعليمية العتيقة أمثال جون جاك روسو وديكارت وغيرهما. وعلى العموم فإن ما ميز فلاسفة الأنوار،حسب فليب ميريو، بعامة هو ما يلي: 1. الصراع ضد أنماط التربية العتيقة القائمة على الدرس السكولائي أو التعليم الكنسي أو التمييز بين أبناء الطبقات...إلخ. إنها إرادة توحيد التعليم وتعميمه بخضوعه للعقل وارتباطه بالإنسان كإنسان. 2. إن ما ميز فلاسفة الأنوار هو انخراطهم في القضايا والهموم اليومية لمجتمعاتهم؛ ومعنى ذلك أن أي تصور للتربية يحضر في الممارسات اليومية للمواطن. فنحن نعلم أن روسو أو ديدرو أو مونتسكيو وغيرهم، كانوا من المنخرطين في القضايا اليومية، وهو ما يجعل مفهومهم للتربية يستحضر ما ينبغي أن يكون عليه المواطن يوميا وفي المستقبل، وبالتالي ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع والدولة. 3. ما ميز هؤلاء الأنواريين، حسب فليب ميريو، هو الاعتراف بانفصال الطفولة عن الإنسان الراشد، بل الصراع من أجل الطفولة ولنا في إميل لجون جاك روسو خير مثال على ذلك. إن تمييز المراحل العمرية في الطفولة ظل مثار نقاشات علمية كبرى كما يؤكد ذلك فليب أرييس. ومرد ذلك إلى الاستعمالات الاجتماعية للمراحل العمرية، بالإضافة إلى الاستعمالات المؤسساتية للأعمار، ومنها المؤسسة المدرسية التي تميز بين الأعمار والمستويات وتعمل على تنظيمها والفصل بين المراحل العمرية. سيميز إميل دوركهايم في الطفولة بين بين طورين، طور أول يقضيه الطفل في الأسرة أو في روضة الأطفال التي تقوم مقام الأسرة. وهناك طور ثان يقضيه الطفل في المدرسة، أي أن الطفل في هذا الطور يبدأ في الخروج من دائرة الأسرة ويتلقى مبادئ الحياة الاجتماعية التي تحيط به. وتسمى هذه المرحلة مرحلة الطفولة الثانية. وهي المرحلة التي لها علاقة بالتربية الأخلاقية. ومع تخطي الطفل للمرحلة الثانية وبوصوله إلى السن المدرسية يتحتم تلقينه مبادئ الأخلاق؛ وذلك بتهذيب الشعور الخلقي وصبغه بصبغة عقلية، وإخضاعه شيئا فشيئا لمبادئ التفكير العقلي. والملاحظ أن هذه السن تكتسي، في نظر دوركهايم، أهمية كبرى مما يتوجب التركيز عليها أكثر من غيرها. إن طرح قضية الطفولة للنقاش يعني كذلك إعادة التفكير في الطفولة وتشكل الفرد. فالحكم المسبق على الطفل من حيث أنه طفل عارف وصاحب تجربة وقدرة على التمييز يظل حكما خاطئا، هو إسقاط لاعتقاد الراشد على الطفل. فمجيء مجتمع الأفراد جعل الطفل مسؤولية الجميع أو أن الطفولة أصبحت مسؤولية اجتماعية وعلمية وفكرية وسياسية...إلخ. نستخلص من هذه الفكرة التي ركز عليها غوشي كيف سيصبح الطفل ممثلا للمستقبل في جميع أبعاده، بل كيف سيصير الطفل الممثل الحي للمستقبل في قلب الحاضر. فالطفل الصورة الحية والساطعة لمستقبل مفتوح، والحامل للمستقبل المختلف عن الحاضر. ومن هنا كان تقدير الطفولة وكثافة الاستثمار فيها مما جعلها موضوعا اجتماعيا وفردانيا كما لو كان الطفل هو الضمانة الوحيدة للمستقبل. إن هذه الرؤية المتطلعة إلى المستقبل تعيد النظر في الرؤى الشعبية للتحليل النفسي القائلة بأن الأمور تحسم في المراحل المتقدمة من العمر، أي السنوات الأولى للطفولة. فالمجتمع لن ينتظر اكتمال المراحل كما يراها التحليل النفسي، ولن يركن إليها لأن الاهتمام بالطفل يطرح تحديات أخرى، تحديات على المجتمع والراشد والأب والأم والعلم والفكر...إلخ. فكأن الطفل هو مدار كل شيء، بل مدار الخطابات في تعدديتها. 4. كما تميز هؤلاء المفكرون الأنواريون بربط التربية بالغذاء الفكري للطفل؛ أي النظر إلى الطفل كشخص وجب تغذية عقله وروحه وجسده وخياله ...إلخ، لا الاكتفاء أو الاقتصار على نمط تعليمي واحد. 5. وأخيرا ما ميز هؤلاء هو الصراع من أجل الحرية الفكرية، وهو ما تترتب عنه نتائج كبيرة مثل التسامح والتعددية الفكرية والثقافية والسياسية والدينية...إلخ. وهو أساس ميلاد الإنسان والمواطن أو لنقل بلغة أخرى إن الحرية هي أساس الحداثة التربوية. *** سيكون جون جاك روسو هو أول من دشن الخطاب التربوي الحديث ، وهو خطاب حداثي بامتياز؛ أي أن البيداغوجيا كخطاب في التربية ستكون منتوج فكر حداثي أنواري لأنها فكرت في الشروط والظروف التي يجب أخذها بعين الاعتبار ليحصل التعلم وعرضت عن التفكير بالأسباب حصرا كما كان الحال مع أفلاطون مثلا. نعلم بأن فلاسفة الأنوار أمثال جون جاك روسو انطلقوا من فكرة التعاقد الاجتماعي، وهم بذلك يطرحون فكرة الطبيعة والمجتمع، الطبيعة والثقافة، حالة الطبيعة وحالة الاجتماع البشري للنقاش. هل هي فكرة افتراضية أم فرضية عمل؟ هل حالة الطبيعة مرحلة تاريخية أم أن حالة الطبيعة تتقنع وراء حالة المجتمع؟ وكيف يمكن استنباطها في التربية أو استحضارها في تربية الأطفال؟ إن التعاقد عند روسو، حسب دوركهايم، يتجسد في مخطط مجتمع يناسب الإنسان بعامة لأنه مؤسس على طبيعة الإنسان ذاتها. وهو ما جعل مشكل التربية يطرح بلغة التعاقد الاجتماعي، حيث لا يتوجه إلى طفل مخصوص في مجتمع مخصوص، بل إن التربية هي قضية تهم كل طفل طفل في أي مجتمع حيثما وجد وفي كل زمان ومكان؛ ولذلك يقول روسو بأنه ينبغي تعميم رؤانا وأن نرى في تلميذنا الإنسان المجرد. وهكذا ستأخذ التربية معنى أوسع لتصير تربية الإنسان، الطفل- الإنسان, وفق نظام طبيعي، حيث الناس يتساوون في الطبيعة أو ماهيتهم الطبيعية، ويخرجون من بين أيديها وهم ليسوا لا قضاة ولا جنود ولا قساوسة...إلخ. يخرجون منها بطبيعتهم الخيرة التي لم تعرف الشر والسوء بعد. وقياسا على هذه الرؤية العامة سيكون الطفل خيرا بطبعه وطبيعته، وكل شر يصيب طبيعته الخيرة يأتي من الإنسان. ذلك ما يؤكده جون جاك روسو حينما يقول في كتابه إميل بأن كل شيء خرج خيرا وجميلا من بين أيدي صاحب الأشياء كلها، غير أن الإنسان أفسد وقلب وشوه كل الأشياء. وأما المشكل البيداغوجي الذي طرحه دوركهايم في قراءته لروسو فيما يهم طبيعة الطفل الخيرة هو هل نترك الطفل للطبيعة: اتركه يفعل ما يريد. هل نترك الطفل يتصرف وفق الأخلاق المحايثة للطبيعة فيظل الراشد بعيدا عن الطفل؟ إن وظيفة المربي هي أن يضع الطفل في تناغم مع وسطه وفي احترام لطبيعته النقية والصافية. فالطبيعة من جانبها تريد الطفل أن يكون طفلا قبل أن يكون راشدا. فالطفولة من نظام الطبيعة، ومن نظام الطبيعة الإنسانية التي هي نظام الطبيعة. كما يجب على المربي أن يدرك بأن الفيزيقي هو الذي يظل على حاله وأما غيره فإنه يتبدل ويتغير؛ ولذلك كانت وستظل التربية حاسمة في هذا الجانب. ويخلص دوركهايم إلى أن روسو يتحدث عن تربيتين؛ واحدة طبيعية، نموذجية تتأسس في طبيعة الأشياء، وهي جزء منها. وهو نموذج غير اعتباطي لأنه يقبل بالملاحظة والمعرفة أو هو مادة لعلم ترتكز عليه البيداغوجيا. فما ستعلمنا إياه الطبيعة في كيفية التربية والتكوين هو وجود عدد من الحاجات الأساسية تتطلب نموا حرا، غير أن هذه الحرية تتطلب الإحساس بقوة أخلاقية ضرورية كما هو حال تربية الأحاسيس والشعور. فالنموذج الطبيعي يقوم على التوازن والتكيف مع الوسط، توازن بين الحاجات والوسائل، بين القدرات والرغبات. وعلى الطفل أن يتعرف الحدود، الحدود التي لا يمكن تجاوزها. هناك فرق بين العالم الواقعي المحدود بحدود، كما يقول روسو، والعالم الخيالي الذي لا حدود له. فالحيوان يعيش في توازن ما مع الوسط غير أن الإنسان يختلف عنه لأنه في حاجة إلى التربية. يطرح هذا الإشكال بالذات قضية الحرية. ماذا يمكننا أن نفعل؟ وماذا نستطيع فعله؟ وما معنى الإحساس بالمستحيل أو المستحيل بالذات؟ وما معنى حرية الإرادة؟ وما معنى الخضوع لقواعد ما؟ وهل يستطيع الطفل إدراك كل هذا؟ وثاني التربيات أن ما يركز عليه روسو في التربية هو العقل الذي يعلمنا معرفة الخير والشر والوعي، و يعلمنا الحب والكره. فقبل مرحلة العقل يقوم الطفل بالخير والشر دون معرفة بهما، ودون استرشاد بالأخلاق في تصرفاته. وذلك ما يتطلب أن يكون المربي، حسب روسو، مربيا للطفل وفق العقل. إن التربية المبنية على العقل لا تقوم على الخضوع أكثر من الضرورة. والمثال الحي على ذلك، في نظر روسو، هو ألا نلصق بالطفل الجريمة كجريمة، بل ينبغي أن يفهمها كنتجية لأفعال معينة وبأخلاقية معينة. ومن هنا ينتفي مبدأ العقاب. فالفهم وغياب العقاب يضع المربي والمعلم وراء الأشياء لا الآمر المباشر للطفل، والطفل منفذا بدون فهم للأشياء والأفعال والنتائج. لا بد أن هذه البيداغوجيا الوليدة، مع جون جاك روسو أو دوركايهم أو كانط، فكرت في الإبداعية كإبداع أدوات وشروط وطرق اشتغال جديدة، بدل الاكتفاء بما ورث عن السابقين والركون إليه. فكانت أدوات هؤلاء الرواد، كما يرى ميريو، ليست مجرد تقنيات، بل هي وسائل في خدمة غاية لها علاقة بمواقف المربي والبيداغوجي. وبدون المواقف والغايات ستظل الأدوات فارغة كالصدفات أو أدوات لتقويم الأفراد حصرا. إنها الرؤية الإجمالية والشمولية للتربية والبيداغوجيا؛ ولذلك انتظمت الأنساق البيداغوجية النظرية-العملية لهؤلاء المفكرين حول ثلاثة أقطاب هي كما يلي: أولا: الغايات وهي الإحالة على مشروع عام للتربية، الإحالة على صورة الإنسان المثالي، والإحالة على المجتمع المراد بلوغه. ثانيا: الأسناد وهي الأسناد الموضوعية مثل العلوم و الفنون مثلا. ثالثا: الأدوات وهي الطرق الواجب الاشتغال وفقها، غير أنها ليست وصفات جاهزة تدفع البيداغوجي للقيام بشيء رتب ترتيبا أو الاشتغال على المقاس. وخلاصة القول أن البيداغوجيا وليدة تفكير عقلاني حداثي و هذا ما يتضح من خلال تتبع مفهوم التربية . يعود لفظ التربية، اشتقاقيا، في اللغة اللاتينية، إلى educatio الذي يعني action d'élever. لقد تحدث شيشرون (توفي في سنة 48ق.م) عن تربية الحيوانات élevage des animaux، كما تحدث بلين (توفي في سنة 79 ق.م) عن ثقافة تربية النباتات. وبهذا المعنى فإن المربين الأوائل كانوا يربون الحيوانات والنباتات، فهم بذلك des éleveurs. وجاء في المعجم اللاتيني الفرنسي لروبير إستيان Robert Estienne (1539) المعنى المشار إليه سلفا للتربية مقرونا بالتغذية la nourriture. فالغذاء هو ما يقدمه الشخص الراشد للقاصر أو للصبي، ويعني أن الصبي لا يمكنه أن يتغذى بمفرده، أي لا يمكنه الاعتماد على نفسه، إنه يتربى بغيره. سيشتق فعل التربية (ربى، يربي) من الفعل اللاتيني educare الذي يعنى غذى nourrir. كما يعني الفعل اللاتيني educare إخراج الشيء من... إلى...: من حالة إلى أخرى، ومن وضع إلى آخر. ويعني كذلك قاد و وجه: قاد الطفل نحو كذا وكذا، و وجهه وجهة كذا وكذا؛ فنقول قاد جماعة و عربة و وجه فردا، وجعل الطفل يمشي على رجليه. يستعمل الكاتب اللاتيني فارون Varron معنيين يدلان على التربية؛ هما التغذية educare nutrix، والولادة (الانتقال من حالة إلى حالة أو المساعدة على الانتقال من حالة إلى حالة) educit obstetrix. ونخلص إلى أنه بدون تغذية سيموت الطفل لأن الطفل في حاجة إلى المساعدة والرعاية والاهتمام؛ وبذلك ستكون التربية هي الفعل الآتي من الغير، وأن حاجة الطفل إلى الغير حاجة طبيعية. فتبدو التربية بذلك استجابة لحاجيات الطفل الطبيعية. أخذت التربية، بمرور الزمن، معنى أخلاقيا فصارت تعني تكوين الأمزجة، وتربية الروح؛ بمعنى أن التربية انتقلت من تربية موجهة للجسد إلى تربية للروح أو النفس. وبتعبير آخر انتقلت التربية من الفيزيقي إلى الروحي، من الجسد إلى الروح و العقل والذهن. فهي لن تقتصر على تغذية الجسد بل تتعداه إلى تغذية الروح والعقل والذهن. فصار الحديث عن تغذية العقل (تربية العقل) والروح (تغذية الروح وتربيتها)، وهكذا سيتم الانتقال إلى الأخلاق والمعارف (إلى الروح والعقل). يفيد لفظ التربية في اللغة الفرنسية حسب قاموس لتري Littré (1885) جميع المعاني التي أشرنا إليها سابقا، وانضاف إلى تعريف لتري، في فرنسا، مفهوم جديد هو التكوين: تكوين الكائن الإنساني تمييزا له عن الكائن الحيواني. فتربية الإنسان تمتاز بالسيرورة في التكوين، وتتحدد بتعدد الأبعاد أي: تربية الجسم والروح والذهن والأحاسيس والجانب الجمالي والاجتماعي والعقلي...إلخ. سنكون، حسب هذا التعريف الجديد، أمام تربيات متعددة كالتربية الجمالية والتربية الفكرية والتربية العاطفية والتربية الأخلاقية...إلخ، ولن تعود التربية مقتصرة على الفعل الميكانيكي الموجه للجسد. فالمربي حسب هذه الأدوار الجديدة هو القائد gouverneur عند جون جاك روسو، والمعلم instituteur عند كوندورسي. سيعمل هذا المربي الجديد على إغناء تجربة الطفل وتكوينه وجعله يتملك المعارف بنفسه. قلنا آنفا إن البحث في الاشتقاق اللغوي للتربية سيفيدنا في استخلاص بعض التصورات الخاصة، الأولى و الأولية والتلقائية، بالبيداغوجيا، وهو ما يبدو لنا ونحن نستحضر وظائف المربي: المربي يغذي ويكون ويشكل ويقود ويوجه ويغني، كما أن فعل التربية يوجه للطفل من الآخر، من الراشد نحو القاصر أو الطفل. *** تطرقنا في السابق الى قضايا كثيرة ، وهي التي ستكون منطلقاتنا هنا و نحن نفكر في مستقبل التربية والبيداغوجيا في المغرب. و نجمل كل ما قلنا سابقا فيما يلي: أولا: لا يمكن قبول أي اقتراح/ بديل دون تأصيل نظري عقلاني يستند إلى المعرفة العالمة كي تصير البيداغوجيا علما للتدريس كما يقول دوركهايم، يستحضر العلم والمعرفة لبناء الذات و ميلاد المواطن-الإنسان، و الوضع المعيش والمستقبل العام للوطن و الإنسانية كلها. و لهذا السبب اعتبرنا (بيداغوجيا) الإدماج آلة تقويمية و عدنا إلى انتقاد تاريخ علاقتنا ببيداغوجيا الأهداف التي كانت سطحية و تبسيطية و لم نبلغ فلسفتها الثاوية أو لنقل لم نتملك براديغمها فظلت بالنسبة للكثيرين آلة سلوكية تقوم على المثير والاستجابة : فعل و رد الفعل، والسلوك القابل للملاحظة . وبذلك التقت رؤيتها التقنوية برؤية بيداغوجيا الإدماج ، فبدا لجمهور كبير أن الأمر متيسر و قابل للتطبيق، إن لم يكن التطبيق هو النزعة الحاسمة فيهما معا. ثانيا: إن تقديم بدائل (بيداغوجية) دون فهم عميق للبيداغوجيا و للأسس التي تجعل تفكيرا ما تفكيرا بيداغوجيا يجعل البديل المقترح وصفة او قالبا جاهزا لأنه لا يمكن أن نصف كل نموذج بالبيداغوجي هكذا بجرة قلم تحت اسم (نموذج بداغوجيا كذا). فمنذ روسو إلى أوغسط كونط و الفلاسفة لم يتحدثوا عن البيداغوجيا إلا بالتلميح ليترك المجال للتفكير في البيداغوجيا للعلوم الانسانية الوليدة؛ ومعنى هذا الكلام أن البيداغوجيا وليدة القرن التاسع حصرا كالعلوم الإنسانية. و لتوضيح ذلك نقول بأنها مرتبطة بميلاد العلوم الإنسانية لتكون تفكيرا في الإنسان و ظواهر المجتمع و في الطفل و ظواهر النمو و التعلم ...إلخ ، أي ستكون البيداغوجيا و علوم التربية عامة تفكيرا في التربية لا خطابا حولها ، وكل تفكير لا يردها إلى القرن أو ينطلق من محاورته يحكم على نفسه بغياب الأساس النظري أو يحكم على نفسه بشيء آخر غير التفكير البيداغوجي كالتفكير النماذجي مثلا الذي تجده عند الجميع من أفلاطون إلى إخوان الصفا و غير هؤلاء و أولئك. وبناء على ذلك فإن التراث الغربي ما قبل ميلاد العلوم الإنسانية لم يعرف يوما أي تفكير بيداغوجي يمكن جعله نموذجا ، مثله في ذلك مثل التراث العربي الإسلامي الذي يريد البعض ان يستلهم منه نماذج لن تتعدى ان تكون أدبا للسير و الاقتداء و الاعتبار. إن التفكير بالنماذج في التربية والبيداغوجيا يثير كثيرا من التساؤلات الفكرية ، و قد يراكم الجهل الفكري بماهية علوم التربية كذلك ، بل يضاعف من الجهل والتبسيط من جهة الفكر التربوي و البيداغوجي؛ وذلك من جهة مفهوم النموذج ذاته . و لنوضح هذا الأمر نجد أن معنى النموذج لغويا هو مثال الشيء . فالمهندس يصنع مجسما ليصير مثالا يعمل عليه هو نفسه أو مقلده . وهنا يصبح المثال نموذجا للتقليد والاستنساخ. إن النموذج هنا لا يهم المقلد و لا يعنيه فكريا و ما يهم هو تقليد المثال؛ أي تقليد النموذج. ستكون للنموذج أسراره الخفية و ألغازه التي لا يستطيع المقلد فك شفراتها مما يستدعي تدخل الوسيط أو صاحب النموذج العارف حامل الحقيقة ، ومطلوب من المقلد أن يشتغل و يطبق دون كيف و لا لماذا لأنه في مرتبة دنيا، هكذا إذن يفضي بنا النموذج إلى فكرة الأسياد والعبيد، العارف و الجاهل، الخبير و المبتدإ، و بالجملة يفضي بنا إلى فكر الوصفة والتنميط و العسكرة النماذجية...إلخ. إن النموذج /المثال يكون صالحا لكل زمان ومكان مادام يريد أن يقدم نفسه منزها عن الذات الفاعلة (مدرس(ة)، تلميذ(ة)، مفتش(ة)) كما لا يستحضر الشروط العامة التي يكون فيها الفاعل كيفما كان. إنها الموضوعية الفجة التي كان يحلم بها القرن الثامن عشر. فهل هناك موضوعية في التربية؟ وهل هناك موضوعية في علوم التربية التي تنتمي للعلوم الانسانية؟ كما نجد مفهوما آخر في اللغة العربية اشتغل عليه القدامى هو مفهوم الأنموذج كما ورد عند الزمخشري. ويعني هذا المفهوم المثال المقتدى به الدال على صفة الشيء، و لعل هذا المفهوم هو ما تقوم عليه التربيات التقليدية حينما تستحضر العبر و السير و الاقتداءات. نلاحظ إذن أن مفهومي النموذج و الأنموذج لا يفيان بالغرض في ابسيمولوجيا علوم التربية لأنهما يعنيان شيئا خارج الذات الفاعلة (المدرس(ة) و المفتش(ة) و المكون(ة) والتلميذ(ة))، كما يطرحان نفسيهما من الخارج، أي من خارج الذات الفاعلة إما للتقليد أو للاقتداء. وبذلك يسقطان في تصور وضعاني تبسيطي يسهل فهمه و تقليده لأنه لا يخلخل الذات الفاعلة (مفتش(ة)، مكون(ة)، مدرس(ة)) ويجعلها معنية لا متلقية مطبقة للنموذج، بل يبدوان معا كوصفة الدواء التي تحدد ما ينبغي قبل الشروع في تناوله و إن استعصى الفهم يسترشد بالطبيب (صاحب النموذج أو المفتش أو المكون: فكرة الخبير). إن العلوم الإنسانية ومنها علوم التربية تقوم على النظريات و البراديغمات الكبرى (لنتذكر هنا توماس كوهن صاحب بنية الثورات العلمية ، وهو من أبدع المفهوم في سياق آخر). و ننبه هنا أن مفهوم البراديغم لا يمكن ترجمته بالنموذج أو الأنموذج و لا بالنموذج الإرشادي، لأن ترجمته ببساطة هي البراديام أو البراديغم. يعني البراديغم من بين ما يعنيه رؤية عالم ما للعالم أو للواقع أو الحقيقة أو الشيء من زاوية تخصص علمي معين (تمييزا له عن الابستمي الفوكاوي الذي يكون لا شعوريا و يتحكم في ثقافة عصر معين)، رؤية تؤطر ذهنية العالم، الذات الفاعلة و العارفة. و الرؤية هنا تعني الرائي أولا لا الموضوع المرئي، أي تعني الذات العارفة المنخرطة في الفعل و النشاط و إنتاج المعرفة أو تجريبها أو تحويلها ...إلخ. فالذات هنا ليست محايدة و إنما هي معنية بما تقوم به و لا تنتظر من يرشدها لتطبق النموذج الجاهز. يكمن هنا جوهر اختلافنا مع كل النماذج المطروحة في الساحة التربوية المغربية بالأمس واليوم لأن غايتنا هي أن تصير الذات الفاعلة في التربية والبيداغوجيا (مفتش(ة)، مكون(ة)، مدرس(ة)) ذاتا واعية بالبراديغم المعرفي الذي تنحاز إليه اختياريا لدواعي معرفية او علمية أو سياسية أو إيديولوجية، و هي ذات قادرة على إبداع ممارستها التربوية والبيداغوجية انطلاقا منه كي تكون ذاتا معنية بمصير التربية لا ذاتا مطبقة لوصفات نموذجية، نماذجية كما قال الزمخشري. لهذه الأسباب يطرح مشكل تكوين المدرسين و انتقائهم و هوية المدرس(ة) الذي نريده لمغرب المستقبل. هل نريد مدرسا فاعلا عارفا معنيا بمصير التربية أم مدرسا مطبقا مقلدا لنماذج؟ هل نريد مفتشا يخلق شروط الفاعلية و يدعمها و يصاحبها و يرعاها أم مفتشا يسهر على تطبيق الجاهز (الكتاب المدرسي مثلا)؟ هل نريد تلميذا فاعلا نشيطا أم تلميذا يتلقى نموذجا جاهزا يحضر في الكتاب المدرسي؟ هل نريد مدرسة متعددة الإيقاعات و الأساليب و الطرق والأزمنة و الثقافات بتعدد المغرب أم ثكنة عسكرية تحترم النماذج كالمقدسات؟ و أخيرا أليس أقصى درجات النماذجية هي الكتاب المدرسي بالذات الذي يلغي الجميع ، يلغي المفتش و المدرس والتلميذ و شروط التعلم برمتها؟ بناء على هذه الاعتبارات و غيرها حددنا منطلقاتنا ونحن نتناول الأفق التربوي والبيداغوجي للمغرب في حلقاتنا السابقة (وأنا هنا أتحدث من موقع الباحث الموضح والمفسر والمتسائل و المثقف المنتقد والمواطن المعني بشؤون المدينة) فيما يلي: أولا: ارتباط التربية بالإنسانية كغاية الغايات ثانيا: ارتباط التربية بالمستقبل : مستقبل المواطن والشعب والدولة و الإنسانية جمعاء ثالثا: ارتباط التعليم بالشعب في تعدده الثقافي و الديني ، ولكن في علاقته بالإنساني ليكون تعليما للإنسانية جمعاء رابعا: ارتباط التعليم ببناء الدولة الوطنية نعتقد أن هذه المنطلقات الفلسفية بالأساس تسمح لنا لنفكر في التربية ضمن إطار نظري عام لا يسقط في النماذج و الاختيارات البراديغمية حتى لا تصبح التربية فكرا عسكريا يخضع لأوامر النموذج كما كان الحال مع هتلر و كما هو الحال اليوم مع حزب الله و إيران وكوريا وجميع الأنظمة و الأحزاب الشمولية الكليانية، وحيث يصير المدرس(ة) جنيرالا في القسم يعمل على نقل التعليمات التربوية. وإليكم التصور العام الذي نضعه أرضية للنقاش : فلسفة التربية البراديغم البيداغوجي: إطار نظري عام هيكلة الاسلاك الدراسية التعدد المنهاجي والإيقاعات المدرسية و العدد الديداكتيكية المدرسة الشاملة/ المدرسة المجتمع مدرس(ة) المستقبل *** لا يمكن أن نتحدث عن أي اقتراح بيداغوجي دون التفكير في الفلسفة تحديدا، أي الفكير في النظام التربوي من جهة الأسس والغايات لأن الأمر يهم بناء وطن أو دولة وطنية ، و بالتالي فإن الاقتصار على النزعة النماذجية تختزل النظام التربوي في الرؤى الضيقة والتقنية كأن مشكل التعليم يرتبط بعلاقة المدرس(ة) بالتلميذ(ة) و المحتوى المدرس. لمثل هذه الأسباب انتقدنا في الحلقات السابقة الرؤى التقنوية و التقنية و النزوع النماذجي الذي يتعزز اليوم باختزال مشاكل التعليم في الرؤى الديداكتيكية و التنشيطية و التقويمية. نعلم أنه منذ القرن التاسع عشر كان كل اختيار بيداغوجي يطرح تصورا لماهية المجتمع المراد، وهو ما يعني أن مساءلة النماذج المطروحة في السوق التربوية تكتسي أهمية بالنسبة للمشتغل على الفلسفة السياسية و الفلسفة بعامة، و الابسيمولوجيا بخاصة حتى ننزع عنه قناع الموضوعية، بل ننزع القناع عن الاختيارات البيداغوجية بالذات، و بالتالي فإن وجوب طرح أسس فلسفية لأي نظام تربوي تظل مسألة مستعجلة. نسجل هنا أن المغرب أنجز الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي اعتبر في حينه إطار تعاقديا بين الجميع لتأسيس مدرسة الجميع؛ غير أن علاقة المغاربة بالميثاق الوطني للتربية والتكوين لم تكن علاقة تراكم البناء والتعاقدات و تجديدها. و ما يلاحظه المتتبع الباحث أن الفاعلين السياسيين و النقابيين و الدولة لم يحترموا جميعا الميثاق الوطني للتربية و التكوين ، بل لم يراكموا ثقافة الحوار و النقاش حول أسس المدرسة و غايتها ومواصلة ذلك الحوار في ضوء ما يستجد محليا و عالميا. نتذكر هنا أن إرادة التخلص من الميثاق من جهة الدولة بدت واضحة منذ 2008 حينما صرح المرحوم مزيان بلفقيه من الدارالبيضاء قائلا بأنه لو اتيحت له الفرصة ليعيد كتابة الميثاق الوطني للتربية و التكوين لكتبه بشكل آخر. و نتذكر كذلك أنه خلال هذه الفترة كان تشكل المجلس الأعلى للتعليم الذي أصدر تقريره الأول في نفس السنة المذكورة أعلاه. وفي نفس الفترة صدر المخطط الاستعجالي بعد تشكيل المجلس الأعلى. إن السؤال المطروح هنا على الدولة هو لماذا تم المرور من ثقافة الميثاق الوطني للتربية و التكوين، حيث النقاش و الحوار الجماعي حول أسس المدرسة وغاياتها ليصل الجميع إلى ثقافة التقارير مع المجلس الأعلى و وضع برنامج استعجالي اعتبره الجميع أحاديا؟ ألم يكن من الأجدى طرح الميثاق الوطني لنقاش تقويمي عمومي ، علما بأن الميثاق الوطني يحدد تواريخ و إجراءات و يضع تصورات و برامج عمل و يحدد الجهات و المسؤوليات والشركاء و نسب التمويل و المحاسبات ...إلخ؟ فلماذا أغفل هذا الجانب التقويمي؟ و لماذا صمت الجميع ليمر الجميع بدون مساءلة ولا تقويم إلى مرحلة ما بعد الميثاق الوطني للتربية و التكوين ؟ و لماذا استسيغ هذا الأمر من طرف الأحزاب السياسية و النقابات و الجمعيات المهنية؟ لقد كانت أجوبة الدولة غير مباشرة من خلال إشاعة ثقافة التقويم التي اشتغل عليها المغرب وطنيا او انخرط فيها دوليا. و نتذكر هنا أن المجلس الأعلى اشتغل على تقويم مواد متعددة على غرار تقويمات بيرلس و شيمس ، وهو بذلك يريد أن يوجه التعليم نحو رؤية أخرى غير الرؤية التي تحدث عنها الميثاق الوطني للتربية والتكوين. والسؤال هو لماذا انساق الجميع مع هذه الاستراتيجية دون وعي بالآتي؟ إن تقويمات المجلس الأعلى هي استرجاع للتقويم الذي أصدرته اللجنة الخاصة بالتعليم خلال سنة 2004/2005 ، ومعنى هذا الأمر إن إرادة القطع مع الميثاق الوطني للتربية و التكوين كانت حاضرة منذ مدة طويلة قبل تشكيل المجلس الأعلى للتعليم. و السؤال هو: كيف لم يفطن الفاعلون السياسيون و النقابيون إلى ذلك؟ و خلاصة الأمر أن الدولة هي أول من كانت له استراتيجية القطع مع ثقافة الميثاق، أي القطع مع ثقافة الحوار و النقاش و المسؤولية الجماعية، أو لنقل القطع مع ثقافة المشاركة في وضع استراتيجية للتعليم متعاقد عليها ومتفاوض بشأنها و لعل المنهجية التي جاء بها المخطط الاستعجالي تفسر ذلك من نواحي كثيرة ، منها أنه حضر في غياب الفاعلين عامة ، و وتم تصريفه بعقلية بيروقراطية صرفة. و أما من جهة الأحزاب السياسية و النقابات و المجتمع المدني سنلاحظ بأن الميثاق الوطني للتربية و التكوين قد خلص الأحزاب و النقابات من الاهتمام بالتعليم و التنازع حوله، و يبدو هذا الأمر إيجابيا لأن الجميع اقتنع بأن المدرسة يجب أن تكون مدرسة للجميع، لكنه في نفس الوقت ترك المجال فارغا لتصير الدولة هي الفاعل الرئيسي في التعليم وأن اقتراحاتها هي الاقتراحات وتصوراتها هي التصورات. و السؤال هو: لماذا صمت الجميع لحظة الإعلان عن المخطط الاستعجالي؟ وما ثمن هذا الصمت اليوم؟ و كم سيكلفنا ذلك الصمت؟ إن التخلص من المدرسة الوطنية العمومية باسم الميثاق يعني أن الاهتمام بالتعليم لم يعد اهتماما بأسس وماهية المدرسة الوطنية العمومية، بل إن التعليم في برامج الأحزاب السياسية صار ثانويا ، و صار عند النقابات مطالب خبزية أو مطالب بسيطة تهم اليومي. لقد كان من الواجب ألا يمر المغرب من الميثاق إلى ما بعده دون نقاش مؤسساتي و شعبي لأن ما بعد الميثاق يجب أن يخضع للمساءلة العمومية و إليكم بعض ما كان ينبغي أن يهتم به السياسي و النقابي و المجتمع المدني: لنأخذ مثالا عن (بيداغوجيا) الإدماج. نعلم جميعا أن الإشارة إلى تقويم التعلمات وردت في تقرير المجلس الأعلى للتعليم الصادر سنة 2008 ، و لا نجد أي إشارة إلى ذلك في المخطط الاستعجالي، بل لا نجد أي إشارة إلى تبني أي بيداغوجيا ماعدا الاجتهاد الوارد في الكتاب الأبيض و تصور الميثاق الوطني للتربية و التكوين للكفايات. إذن، نحن أمام صورة واضحة تتجسد في غياب أي اختيار بيداغوجي أو ما سمي في حينه بمشكل النموذج في الميثاق أو الكتاب الأبيض أو المخطط الاستعجالي. فلماذا ألصقت بيداغوجيا الإدماج بالمخطط الاستعجالي وكأنها منه، و كيف تم ذلك؟ و أين الفاعل السياسي والنقابي من الأمر البيداغوجي؟ و هل يبدو من الواجب العقلي والسياسي أن يختار للمغرب نموذج بيداغوجي من طرف مسؤول وزاري بدون نقاش سياسي؟ فلماذا صمتت الأحزاب و النقابات عن ذلك؟ إن حالة التخلص من التعليم لدى السياسيين و النقابيين بدت ظاهرة منذ عهد الميثاق ، حيث كان الجميع يتحدث عن الميثاق و أجراته و تنزيله ، ثم انتقل الجميع ليتحدث عن البرنامج الاستعجالي بين عشية و ضحاها دون توقف و لامساءلة و نقاش حول مصير المدرسة، وهو ما يتجسد اليوم فعليا من خلال غياب النقاش حول تقويم وافتحاص البرنامج الاستعجالي ككل. لنذكر أن المدرسة هي مدرسة الجميع و أن استعجالية العودة لمواصلة النقاش حول الميثاق الوطني للتربية و التكوين أمر راهني وملحاح لأنه لايمكن أن نتحدث عن اختيارات بيداغوجية دون وضع أسس لتعليمنا و تحديد غايات له في ضوء ما يستجد وطنيا و عالميا؛ ولذلك على الدولة تحديدا أن تفكر في بالاستراتيجيات البعيدة المدى، و على الأحزاب السياسية والنقابات أن تتخلص من ثقافة رجع الصدى والببغاوية و أن تبادر إلى جعل التعليم ورشا فكريا مفتوحا لإيجاد مرجعية لبناء مستقبل الجميع في دولة الجميع و وطن الجميع. **** تحدثنا في السابق عن وجوب تجديد التفاوض و الحوار والنقاش حول ميثاق تربوي جديد ينطلق مما تراكم لدينا منذ الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حيث سيتضمن منطلقات كثيرة كالتفكير بالمواطنة و الإنساني و الكونية و العصر الافتراضي، و استحضار التعدد الجهوي و الثقافي و الديني و اللغوي و الهوياتي و استبعاد المذهبية و العرقية وكل ما له صلة بهذا الجانب. و أن يجعل المدرسة تعيش التعدد الغني للمغرب بامتياز، متستحضرة إياه في إيقاعاتها الزمنية و لغات تدريسها و مناهجها و برامجها الدراسية وعددها الديداكتيكية و براديغماتها البيداغوجية. إن هذه المنطلقات هي التي ستحدد لنا أي براديغم بيداغوجي ينبغي الوعي به و التفاوض المعرفي بشأنه لأنه يحقق الغايات من التربية بالنسبة لنا، وهو ما يعني أن الاختيار البيداغوجي ينسجم والاختيارات السياسية الكبرى التي نتوخاها لنوع المجتمع و المواطن الذي نسعى إليه، أو بعبارة أخرى لا وجود لاختيار بيداغوجي بدون اختيارات سياسية كبرى متعاقد بشأنها. و بالتالي فإن كل اختيار بيداغوجي هو تعاقد المجتمع مع ذاته حول الوعي بالممارسة التربوية وغاياتها. و لهذا فإن التعاقد حوله الاختيار البيداغوي يجب أن يراهن على ما يلي: أولا: التعاقد حول قيم العدالة في الاكتساب المدرسي. ثانيا: التعاقد حول الانصاف في الفضاء المدرسي. ثالثا: التعاقد حول تكافؤ الفرص في الولوج إلى الفضاء المدرسي و الاستفادة منه. رابعا: التعاقد حول احترام الطفل- الإنسان- الفرد. خامسا: التعاقد حول احترام الطفولة وكل ما يرتبط بها. سادسا: التعاقد حول تعددية استراتيجية التعلم لدى المتعلم(ة) . سابعا: التعاقد حول الكفايات الأساس للسلك الدراسي أو الكفايات النواة للمستوى الدراسي أو الكفايات المفتاح للمدرسة ككل بما يجعلها مدرسة من أجل المستقبل تكسب المتعلم الكفايات التي تجعله قادرا على ربح مستقبله. تاسعا: التعاقد حول البنيات الأساسية للمؤسسة التعليمية لتحقيق الانصاف و تكافؤ الفرص بين جميع أبناء الشعب و بين جميع الجهات و المناطق..إلخ. سيلاحظ القارئ أن البيداغوجيا التي يمكن أن تستجيب لهذا التصور العام هي البيداغوجيا الفارقية من حيث أنها براديغم عام يستحضر الفلسفة (بناء الذات) و الفرد (الفرد في فرديته) و الفوراق الفردية ، والشخص (السمات المميزة)، و الجوانب الاجتماعية كالثقافة و المستوى الاقتصادي ...إلخ ، علاوة على إيمانها بالتعدد المذكور أعلاه ، و إيمانها بالغايات الكبرى المذكورة سابقا كذلك. كما أن هذه البيداغوجيا تنهل من بيداغوجيات كثيرة منها بيداغوجيا الأهداف و بيداغوجيا النجاح وبيداغوجيا الخطأ و بيداغوجيا اللعب ز بيداغوجيا المشروع...إلخ. كما أنها تقبل بتصورات ديداكتيكية متعددة ، و تنفتح على حقول معرفية كثيرة كالسيكولوجيا الفارقية، و الذكاءات المتعددة ، والسيكولوجيا المعرفية بعامة، و السوسيولوجيات الثقافية و الماركسيات الجديدة كما عرفت مع السوسيولوجي الفرنسي بيير بورديو و والسوسيولوجي السويسري فليب بيرنو وغيرهما، و الانتربولوجيا ...إلخ. لهذه البيداغوجيا تداعيات كثيرة مرتبطة بها لزوما . وإليكم بعض تداعياتها. أولا: تداعياتها على الأسلاك الدراسية إن البيداغوجيا الفارقية هي الصراع ضد الترتيب والتصنيف المسبق للمستويات الموروثة عن القرن الثامن عشر، و ضد هيكلة الاسلاك كما يتعارف عليها العالم النيوليبرالي الذي يريد من التعليم أن يكون إلزاميا إلى حدود السنة التاسعة من التعليم الأساسي، بل إنها تصارع ضد أساطير احتفالية المؤسسات التي تصنف المتمدرسين إلى مجتهدين و غير مجتهدين و تجعلهم ضحية أوهام الفشل بدل النجاح المدرسي و بناء الذات. وهكذا فإن البيداغوجيا يمكن أن تكون حلا للتعدد ذاته ، تعدد المستويات و تعدد الأعمار و تعدد الاستراتيجيات بما يجعل هيكلة الأسلاك تقطع مع تعدد المستويات لتكتفي بالسلك كمستوى دراسي واحد. وفي هذه الحالة ينصب الاهتمام على الكفايات النواة أو الكفايات الأساس للسلك الدراسي ، وكفايات التخرج أو نهاية السلك الدراسي؛ و ذلك ما سينعكس على العدة الديداكتيكية و الكتاب المدرسي و الحرية البيداغوجية للمدرس(ة) وكل ما يرتبط بهذا الباب من تكوين أساس و تكوين مستمر. ثانيا: تداعياتها على العدة الديدياكتيكية سيكون الاشتغال بالبراديغم الفارقي المرتبط بالبيداغوجيا الفارقية تحررا من إكراهات التوحيد و التنميط الديدياكتيكي لأن المدرس(ة) ينطلق من الفرد-التلميذ ، ومن جماعة القسم او المجتمع المدرسي ككل، ومن الكفايات الأساس للسلك الدراسي ، وهو مزود بمعارف أساسية في السوسيولوجيا و السيكولوجيا و الانتربولوجيا واللسانيات ، علاوة على المعارف المدرسية و البيداغوجية و التنشيطية. ستكون عدته الديداكتيكية هي التحرر من إكراه التنميط والوحدة القاتلة، و ستكون اختياراته التربوية مسؤولة وحرة لأنه أصبح يدرك الغايات الكبرى للنظام التربوي و غايات السلك الدراسي و يجهد نفسه ليجعل الطفل في مركز اهتمام النشاط المدرسي؛ وبذلك تنتفي سلطة الكتاب المدرسي لتفسح المجال للإبداع و البحث و الحوار والنقاش بين مجتمع المربين والمربيات كلهم، و بالتالي تصبح المكتبة المدرسية و قاعة الاعلاميات و الزيارة والاستطلاع و مختلف الانشطة من الدرس ، أو لنقل جزء من بناء التعلمات. ثالثا: تداعياتها على المسار التعلمي للتلميذ(ة) إن الاشتغال على الفوارق في تعدديتها كما ذكرنا آنفا يعني الاعتراف بتعدد استراتيجيات التعلم و القطع مع الدرس المتبوع بالتمارين . إنه الإيمان بالحق في الاختلاف بين الأطفال من حيث استراتيجياتهم التعلمية وإيقاعات تعلمهم (البصري أو السمعي منهم ...إلخ). يستحضر الاعتراف بهذا الجانب التعدد الثقافي و اللغوي للطفل ، و يطال التعدد المناطقي و الجغرافي كذلك ليجعل المدرسة تعيش أزمنة المغرب المتعدد. رابعا: تداعياتها على تكوين المدرسين والمدرسات لا يمكن أن نلج مثل هذه البيداغوجيا كنموذج يستلهم أو يقتدى به أو يعمل به بناء على وصفة يضعها الخبير لأن البيداغوجيا الفارقية تتطلب تكوينا متينا يستحضر علوم التربية و العلوم الانسانية بالأساس، بل يستحضر الاشتغال على ما يعاكس ثقافتنا البيداغوجية الحالية المبنية على النماذج و التنميط والتوحيد. هناك جوانب كثيرة في تكوين المدرسين و المدرسات ترتبط بالبيداغوجيا الفارقية أولها الجانب الأكاديمي المرتبط بالمادة الدراسية أفقيا من الابتدائي إلى الثانوي و امتداداتها في المواد الأخرى و في المعيش اليومي، و الجانب الثاني يتمثل في علوم التربية و العلوم الإنسانية (فلسفة التربية و سوسيولوجيا التربية و المدارس السيكولوجية)، وفي غياب هذا التكوين الأساس لن تدرك أهمية البيداغوجيا الفارقية من الناحية الأكاديمية والمعرفية. و اما من الناحية السياسية فيجب أن ينصب التكوين على القيم الإنسانية المعاصرة كقيم الحق والعدالة والإنصاف و حقوق الطفل و الطفولة والتسامح و الاختلاف و التنوع والتعدد، علاوة على القيم الوطنية والمواطنة. و لبلوغ ذلك علينا أن نفكر في تعاقد جديد حول مهن التعليم و القطع مع مفهوم منصب الشغل و طرق الانتقاء الحالية ، لنصل إلى مرجع كفاياتي لمهن التربية و التكوين. و من الناحية المهنية ينبغي أن ينصب التكوين على أخلاقيات المهنة و على محاور كبرى منها المواطنة الكونية والهوية المحلية، والعولمة الاقتصادية و الانغلاق السياسي ، والحرية واللامساواة، والتكنولوجيا والنزعة الإنسانية، والعقلانية و التعصب، والنزعة الفردانية وثقافة الحشود، والديمقراطية و التوتاليتارية. لكن ينبغي ألا يظل التكوين نظريا خالصا و نحن نعد مدرسنا و مدرستنا لولوج عصرهما ؛ لذلك يجب أن يتصف كل منهما كما قال بيرنو بما يلي: شخص ذو مصداقية؛ وسيط بينثقافي ؛ منشط لمجموعة تربوية؛ ضامن للقانون؛ منظم حياة ديمقراطية؛ معد ثقافي؛ مثقف. ومن جهة المعارف والكفايات التي يجب أن يتوفر عليها المدرس(ة) يقترح علينا فليب بيرنو الكفايات التالية: منظم لبيداغوجية بنائية؛ ضامن لمعنى المعارف؛ مبدع لوضعية تعلمية؛ مدبر للتنوع؛ معدل للسيرورات ومسارات التكوين. و بناء على هذا التصور يستحيل تكوين مدرسين بتصور تقني خالص لأنه ببساطة لا وجود لهذا التصور، وبالتالي فإن المدرسين في حاجة، في ظل مجتمع يتحول، إلى القدرة على التجديد والتفاوض وممارسة التأمل وتعديل الممارسة. ولن يتم ذلك إلا بتأمل التجربة وتكوين معرفة جديدة والورطة النقدية لأن المجتمع في حاجة إلى مدرسين منخرطين في النقاش السياسي حول التربية على مستوى المؤسسات والجماعات المحلية والمناطق والوطن كله، وليس على مستوى الرهانات النقابوية وحدها. يجب، إذن، توريط المدرسين في مناقشة الغايات والبرامج والمناهج وبرامج المؤسسات المدرسية ودمقرطتها ودمقرطة ثقافتها وتدبير النظام التربوي...إلخ. قلنا إن تكوين المدرسين يرتبط بالرؤية للمدرسة التي تستهدف دمقرطة الولوج إلى المعارف وتنمية استقلالية الذوات ونقديتها وكفاياتها وقدرتها على الدفاع عن الرأي. ولن يتم ذلك إلا بالمرور من الاعتراف بالاستقلالية والمسؤوليات المهنية للمدرسين فرديا وجماعيا. وفيما يلي بعض المنطلقات المقترحة من قبل بيرنو لتكوين المدرسين من مستوى عال: النقل الديداكتيكي المؤسس على تحليل الممارسات وتحولاتها؛ مرجع للكفايات يحدد المعارف والقدرات المكتسبة قبليا؛ مخطط للتكوين منظم حول الكفايات؛ التعلم بالمشاكل: الطريقة الإكلينيكية؛ تمفصل حقيقي بين النظري والتطبيقي؛ تنظيم مجزوءاتي فارقي؛ تقويم تكويني مؤسس على تحليل العمل؛ أوقات وعدة للإدماج وتعبئة المكتسبات؛ شراكة متفاوض بشأنها مع المهنيين؛ أستاذ علوم التربية - مركز التوجيه والتخطيط التربوي بالرباط