لعلكم تتذكرون عبد الإله بنكيران وهو يطير فرحا بقرار والدته الاستقرار معه في منزل الأسرة بحي الليمون وسط مدينة الرباط، المنزل الذي أصبح أشهر من نار على علم، بعد أن أصبح عبد الإله بنكيران رئيس أول حكومة في أول دستور لمحمد السادس. لا أحد حينها فهم سر سعادة بنكيران، إلا أفراد الأسرة والمحيطين منه من الأقرباء والأصدقاء. كانت والدة بنكيران تقطن قبل ذلك في المنزل الذي ترعرع فيه عبد الإله بنكيران وباقي أفراد الأسرة بالرباط، ولم تشأ يوما أن تغادر المنزل الذي احتضن ذكريات وأحداث، للاستقرار وابنها بمنزل حي الليمون، إلا بعد أن استبد بها المرض، حينما طار بنكيران من الفرح، خاصة وقد انتظر هذا اليوم لسنوات. وللذين لا يعرفون سر الفرحة التي عمت قلب بنكيران بسبب استقرار والدته بجانبه بحي الليمون، لا بد أن يعودوا إلى الوراء، إلى فاس التي فتحت فيها والدة بنكيران عينيها، بعد أن استقرت بها أسرتها قبل ذلك بعقود. اسمها مفتاحة الشامي الخزرجي، وهو اسم يحيل على جذور شامية، كما هو الشأن بالنسبة لنسبها الذي يمتد إلى الصحابي الجليل سعد بن عبادة بالمدينة المنورة. ولدت مفتاحة في أسرة أكثر من متواضعة وأقل من ميسورة، حياة المرح والفرح التي كانت تملؤ أسرتها الكبيرة، ستنقطع قبل أن تكمل السنة الأولى، حينما فقدت والدتها، لذلك تكلفت بتربيتها « الدادا فاطمة »، ومن فاس التي قضى بها سنوات الشباب إلى العاصمة الرباط، وبدايات العمل الوطني بحزب الاستقلال، خاصة بعد أن قررت سلطات الحماية نفي السلطان محمد الخامس والأسرة الملكية إلى مدغشقر وبعدها كورسيكا. كان عمر مفتاحة ثلاثين سنة حينما خرجت وزميلاتها في الحي للاحتجاج في شوارع الرباط، حينما كان المغرب كله صوت واحد « الاستعمار إلى قبره .. بن يوسف إلى عرشه »، الشعار الذي بحت به حناجر الملايين من مغاربة ذلك الوقت، ومفتاحة واحدة منهم. لم تنتظم والدة عبد الإله بنكيران في حزب الاستقلال بالمفهوم المتداول للتنظيم، لكنها شربت من نفس قيم علال الفاسي وباقي الشخصيات الوطنية العريقة، ولذلك انتقلت نفس القيم من الأم إلى الابن، عبد الإله بنكيران الذي لطالما ردد فضل حزب الاستقلال على تربيته السياسية. لم يفارق عبد الإله بنكيران والدته، وهذا واحد من أسرار التعلق المميز بها، ففي الوقت الذي كان الإخوة يسافرون الواحد تلو الآخر لاستكمال الدراسة خارج المغرب، ظل عبد الإله إلى جانب والدته منذ الصغر إلى فترة الدراسة العليا بجامعة محمد الخامس بالرباط. لم تدخل مفتاحة المدرسة، لكنها استطاعت تعلم القراءة والحساب عن طريق دروس محو الأمية، ولم يقف مشوار التعلم هنا، حيث حصلت على رخصة السياقة، ولعلها من النساء القلائل اللواتي حصلن على رخصة السياقة في مجتمع نصفه رجال وعقليته ذكورية بامتياز، ولأن الحياة ليست كلها مكتسبات وأفراح، كان على مفتاحة أن تعيش إحدى أسوأ لحظاتها، حينما كانت وابنها في سيارة « فياط 127 » واستوقفتهم سيارة للأمن بحي العكاري بالرباط، ونزل منها ضابط الشرطة الخلطي، ليعتقل الشاب عبد الإله الذي كان حينها من أبرز الوجوه السياسية بالشبيبة الإسلامية. وعد الخلطي مفتاحة بعودة ابنها إلى المنزل مساء نفس اليوم، لكنه لم يف بوعده، ولم يعد عبد الإله إلى أحضان والدته إلا بعد ثلاثة أشهر من السجن، وهكذا بدأ عبد الإله بنكيران مشواره السياسي في شبيبة عبد الكريم مطيع ثم الراحل عبد الكريم الخطيب ... إلى أن وصل اليوم إلى أمانة حزب العدالة والتنمية ورئاسة الحكومة ... جزء مهم من هذه النجاحات كان بفضل مفتاحة الشامي الخزرجي التي أنهكها اليوم التعب بعد أن زاد عمرها عن التسعين. الكثيرين يختلفون مع الرجل، لكن الأكيد أنهم يقدرون فيه حبه وتعلقه بوالدته التي عرفت بقوتها وصلابتها.