تعرضت الحلقات الثلاث التي نشرت من هذا الكراس الوثيقة لجذور حركة المقاومة منذ 1947 حيث تكونت أولى الخلايا ونشأ الوعي بضرورة الانتقال إلى العمل المسلح. ورأينا كيف اتجهت النية في البدء إلى تصفية المبلغين والعملاء لحرمان أجهزة القمع الاستعماري من الأخبار. وفي الحلقة الماضية تعرض محررا هذا الكراس وهما المقاومان الحسن العرائشي وشعيب شجاعدين إلى تدبير ثلاث قنابل ضد كل من عبد العالي الإدريسي وجريدة العزيمة وصيدلية القصر وكلها بالدارالبيضاء. وتعرض المؤلفان إلى تنافس جماعتي الشهيدين الزرقطوني وصدقي في تطبيق تعليمات الحزب بشأن إقلاق راحة المستعمر. وتحدث المؤلفان بصراحة عن ظروف ذلك التنافس الذي لم يخرج عن دائرة المسؤولية. وبينا كيف أن الحزب أمن تمويل شراء آلة يستعملها المقاومون في صنع القنابل، وكيف تعددت الخلايا السرية في الدارالبيضاء وربط العلاقة مع خلايا أخرى في مدن أخرى. وأخيرا كيف تلقى المقاومون على ثلاث دفعات أموالا بعثها عبد الكبير الفاسي الذي نجح في الخروج من المغرب ليلة نفي محمد الخامس. وفي حلقة اليوم يتعرض الكراس الوثيقة إلى التحرك الذي تم على صعيد العمل المسلح فور نفي محمد الخامس بما في ذلك نداء القاهرة الذي تضمن الأمر بانطلاق العمل المسلح. وبهذا الصدد نشر الصحافي الإيطالي أتيليو غاوديو في كتابه عن «ملف الصحراء الغربية» ص 153 مايلي: أسبوعا بعد «نداء القاهرة» التقيت بعلال الفاسي في مدينة هيليو بوليس قرب القاهرة، حيث كان يعيش منفيا. وحدثني عن المنعرج الذي سيدخل فيه الكفاح ضد نظام الحماية في المغرب. وقال لي من بين أشياء أخرى: إن الحركة الوطنية قد حاولت طيلة عشرين عاما أن تكافح ضد النظام الاستعماري بالوسائل السلمية، لكن كل مطالبنا كانت ترفض ويطاح بها. إن الفرنسيين لا يعرفون إلا لغة القوة. وقد حاولوا تحطيمنا وتصفية الحركة الوطنية، ووضعتنا فرنسا في السجون والمنافي بمن في ذلك ملكنا المحبوب وعائلته. ولهذا فلم يبق لنا إلا اللجوء إلى العنف. وأنا متأسف لأننا وصلنا إلى هذا الحد، ولكن إذا كنا نريد أن نحقق استقلالنا ذات يوم، وأن نعيد صاحب الجلالة محمد الخامس إلى عرش أجداده فليس لدينا خيار آخر. بمناسبة تنصيب بن عرفة «إماما دينيا» اتجهت جماعتا الزرقطوني وصدقي إلى مراكش لتخريب المراسيم المعدة نداءالقاهرة تضمن الإعلان الرسمي بالدخول في معركة العمل المسلح اليد السوداء جماعة اليد السوداء لم يكن لها أي اتصال مباشر بالشهيد الزرقطوني ولا بالشهيد بوصفهما - الزعيمين الرئيسيين لكتلتي المقاومة المغربية وإن كان هذا لا ينفي أن الفضل في تأسيس هذه الجماعة - ولا أقول الجمعية المغربية لأنها كانت مجرد جماعة فرعية - راجع إلى كتلة الشهيد الزرقطوني. ومع ذلك فرغم عمرها القصير لم تكن اتصالاتها مقتصرة على كتلة الزرقطوني. ولا يزال بعض الأحياء يحدثوننا بأن سعيد المنوزي الذي ظل على اتصال بالكتلتين قبل أن يلتحق بإيفني بعد حادث سينما الأطلس، كان يمد هذه الفرقة بالأسلحة عن طريق سعيد بالحاج عبد الله الذي عمل فيما بعد في القيادة العليا بتطوان والذي فر بسبب إلقاء القبض على هذه الجماعة، ويذكر القراء أننا أشرنا إلى أن سعيد المنوزي كان يسير فرقة ضمنها سعيد بن الحاج عبد الله وأن أعضاء هذه الفرقة كونوا فيما بعد جزءا من اليد السوداء. أما تأسيس هذه الجماعة فيرجع إلى ما بعد حادث الاعتداء على العرش مباشرة. انتشر خبر نفي محمد الخامس في جميع الأوساط المغربية بمزيد من التأثر. وتزايدت النقمة على أعداء الشعب الذين رضوا بأن يسيروا طائعين في ركاب المستعمر ويبايعوا صنيعة الاستعمار ابن عرفة. وعندما تقرر تنصيب ابن عرفة (أميرا للمؤمنين) بمدينة مراكش اتفق صدقي والزرقطوني عن الحيلولة دون هذا التنصيب بأي ثمن كان، فبعث كل منهما جماعة من الأفراد الأقوياء إلى مراكش معززين بالمسدسات والقنابل اليدوية لقتل ابن عرفة في مسجد الكتبية أثناء إجراء مراسم التنصيب، فسافر الزرقطوني بنفسه مع حسن العرائشي وأفراد آخرين وسافر من جانب صدقي محمد الحداوي بركات المدعو (مون بلاد) ومحمد بن الحسن المدعو عيسى ومبارك حسن وأفراد آخرون فكان في استقبالهم في مدينة مراكش باسم الحزب السيد الصديق ممثل الشبيبة الذي رتب مع المسؤولين مع الحزب هناك أمر إقامة هذه الجماعات وهيأ لهم جميع اللوازم من مأكل ومراكز للإقامة إلى غير ذلك، وقد كان ضمن من رافقوا حسن العرائشي، إبراهيم ومولاي أحمد البعمراني وعبد العزيز الماسي على متن سيارة التراكسيون التي ساقها مولاي العربي. وفي آخر لحظة تغير برنامج التنصيب وأجري في قصر الباهية عوض مسجد الكتبية وعز على الأفراد الذين تحملوا مشقة السفر أن تذهب مساعيهم سدى، فقرروا تدبير حادثة لنشر البلبلة في المسجد، وذلك بأن يقوم أحدهم بالركض في اتجاه الباب كأنه يطارد أحدا، وبعد تعالي الصياح والركض تزاحم الناس وحدث صخب، ونجحت الحيلة فتسابق الناس نحو الباب ينشدون النجاة لأنفسهم غير أن حرس الجلاوي التبس عليه الأمر وعمته الفوضى والاضطراب فانهال على الحاضرين بالعصي فخلف الحادث عددا كبيرا من الجرحى. اجتماع قبل الاعتداء وفي يوم 18 غشت عقد الزرقطوني وعبد السلام بناني وحسن العرائشي وسليمان العرائشي وباقي الأفراد اجتماعا قرروا فيه أن يسافر شخص في اليوم التالي إلى الرباط للتأكد من عزم الفرنسيين على الاعتداء على العرش فاتصل بجلالة الملك فأكد له عزم الفرنسيين وإصرارهم على خلعه، وجاء هذا الشخص يؤكد صحة النبأ وأعطى بيانا مفصلا عن تطويق القصر، وفي اليوم الثالث يوم 20 غشت أذيع النبأ المفجع، وهو أن الملك وقع نفيه بعد أن فضل أن يضحي بعرشه وماله وأولاده وبكل ما يملك في سبيل حفظ كرامة بلاده والحيلولة دون ترديها فيما تردت فيه شعوب قبلنا بسبب خنوع ملوكها ورؤسائها وانصياعهم لأوامر الحكام المستعمرين. ودوى صوت الزعيم علال الفاسي في ذلك اليوم من مذياع صوت العرب بالقاهرة يعلن ابتداء المعركة ويدعو الأمة الى نصرة ملكها الذي نصرها ومساندته كما ساندها، وجاء نداء الزعيم معلنا الحرب الشعواء على المستعمر داعيا رجال الحزب الى تنظيم الصفوف ووضع برامج الكفاح بكل الصفات جماعية كانت أو فردية. وقد جاء في الخطاب مايأتي: خطاب الزعيم لقد قضى القضاء وبلغت الغطرسة بالفرنسيين الى حد أن يبعدوا ملكنا الشرعي عن عرشه، نعم لقد توجه اليوم الجنرال كيوم بعد الظهر الى القصر الملكي بالرباط محفوفا بالجيوش والدبابات الفرنسية وطلب من جلالة الملك أن يتنازل عن العرش، ولكن جلالته رفض بكل اباء وشمم، فما كان من ممثل فرنسا الا أن نفذ الجريمة النكراء فأسر الملك وولي عهده الأمير مولاي الحسن وأخاه الأمير مولاي عبد الله حيث نقلتهم طيارة حربية الى منفى كورسيكا الذي اعتاد الفرنسيون منذ القدم ان ينقلوا اليها القراصنة المسلمين الذين يختطفهم لصوص البحر والبر الفرنسيين. وكان الجنرال كيوم قد أصدر امره بفض القبائل التي كانت واردة كالعادة للمعايدة مع الملك ومشاركة جلالته في حفلات عيد الأضحى المبارك. ان القوة الفرنسية قد عملت قوتها وذلك ما كنا نتوقعه في كل وقت، لأن محمدا الخامس أكبر من أن يظل على عرش تظله حماية أجنبية ولان أعماله وكفاحه لايسمحان له بأن يظل على مرأى ومسمع من الجلادين الفرنسيين ولقد اقر ممثلو الجمهورية اليوم نظاما يرتكز على قوة الحديد والنار حيث أصبح كل مغربي مسجونا في بيته وصدرت الأوامر بإطلاق النار على كل من يخرج من منزله، ومنعت اقامة صلاة العيد وحفلاته، وهكذا أصبح اليوم الاسلامي الكبير يوم حداد للمؤمنين في مراكش، لقد انتهكت فرنسا بعملها هذا كل مبادئ الحق والعدل واثبتت براءتها من كل المواثيق الحرة وحتى من الطبيعة الانسانية، ولقد اعتدت على سيادة مراكش وعلى رفيقة: عرشها عرشها وعلى الاسلام والعروبة فيها وعلى كل ما التزمت فرنسا باحترامه في المعاهدات المذيلة بامضائها وشرفها وفعلت أكثر من ذلك اذ قهرت كل مراكشي ومراكشية بل كل مسلم ومسلمة وعربي وعربية على وجه الأرض في شخص محمد الخامس الذي كان يمثل بحق عزة المومن وقوة المكافح وكرامة العربي وانا كزعيم حزب الاستقلال وكواحد من علماء القرويين الذين لهم وحدهم حق انتخاب السلاطين اعلن رسميا ان الملك الشرعي لمراكش كان وسيظل هو محمد الخامس وان ولي عهد المملكة الشريفة هو مولاي الحسن النجل الاكبر لسلطان مراكش، واننا لن نعترف بأي سلطان او رئيس صورى تنصبه السلطات الفرنسية باسمها او اسم اذنابها او معاهدة او اتفاق تصدره فرنسا او نستصدره من هذه الصور او الهيآت السياسية او الاقتصادية او الاجتماعية ونؤكد ان نظام المغرب هو النظام الذي سنقره نحن باتفاق مع شعبنا ومع ملكنا محمد الخامس يوم يتم استقلال مراكش وجلاء الجيوش الفرنسية عنها وانني اهيب بالشعب المراكشي ان يواصل كفاحه من أجل الغاية الوحيدة التي هي استقلال البلاد وان يبذل معنا كل ما يستطيعه من الوسائل للذب عن كرامة مليكنا الشرعي واعادته إلى عرشه عالي الرأس موفور الكرامة. انني اهيب بالعالم الاسلامي كله ان يذكر مراكش في محنتها وان يؤيد حركتها وان يبذل لها وسائل العون فان مراكش وملك مراكش وشعب مراكش لم يعملوا الا للذب عن الاسلام واللغة العربية ولم يصابوا الا حين غضبت فرنسا من أجل تعلقهم بدينهم الاسلامي وقوميتهم العربية وانني أؤكد لجميع المراكشيين والمسلمين وللعالم الحر اننا لن نتقهقر عن موقفنا او نحيد عن خطتنا الى ان نحقق آمال الامة في الحرية والاستقلال وطرد الغاصبين ومادام اللّه معنا فالنصر معنا». تعليمات الحزب ورغم أن الحزب كان يسير حركة المقاومة، كما اتضح من الفصول السابقة، فقد ابت اللجنة التنفيذية المؤقتة الى أن تصدر بلاغا تحث فيه الأعضاء الناشطين في الحزب أن يعملوا كل بوسائله الخاصة على اقلاق راحة المستعمر، الا أن عبد السلام بناني ممثل المقاومة في هذه اللجنة أصر على أن تضاف عبارات أخرى إلى البلاغ تفيد أن يكون هذا العمل بنظام وباتصال مع من يهمهم الأمر من رجال الفداء، كما حث البلاغ كافة الشعب المغربي على التعاون مع رجال المقاومة ومساعدة الفدائيين في ساعات الخطر وكلما طاردهم البوليس. وهنا قررت حركة المقاومة أن تخلق اتصالات بجميع مسيري الحزب وكتابه وأمنائه بتكوين جماعات سرية متعددة يرجع أمرها إلى الجماعة الرئيسية التي تمدها بالمال والسلاح وكل ما تحتاج إليه لتحقيق الأهداف العليا التي تعمل عليها القرائح الناضجة الطيبة فاتصل عبد السلام بناني ببوشعيب البيضاوي وعبد الرحمن الزيات ومحمد الذهبي ومحمد بنيس (الذي أمد المقاومة بفتائل القنابل ومواد التفجيروكثير من الرصاص عندما كان ملحقا بالأشغال العمومية) وكل هذه المواد أعطيت لمنصور الذي احتفظ بها كذخيرة من ذخائر المقاومة. وبعد صدور بلاغ اللجنة التنفيذي المؤقتة توجه السيد البعمراني إلى طنجة حيث تقرر تنسيق الأعمال بتعاون تام بينه وبين السيد عبد الكبير الفاسي، والمختار الوسيئي وعبد اللطيف ابن جلون، والتحق عبد الكبير بمدريد ليتصل بالأمين العام للحزب السيد الحاج أحمد بلافريج. بعد أن استمع الى نداء الزعيم علال من القاهرة. وقام السيد عبد الكبير في هذه الأثناء بكتابة تقرير عن تفاصيل الحالة الداخلية ووجهه الى الزعيم علال بالقاهرة. وأدرك الزعيم من جهته حرج الموقف في الداخل، وأن رجال المقاومة الذين تعاهدوا فيما بينهم على تطبيق تعليمات الحزب لابد وان تهيأ لهم الظروف المناسبة للتواري عن الأنظار واللجوء الى مكان آمن حتى يئسوا من مواصلة العمل في الداخل أمام جيوش البوليس التي تتعقبهم في كل مكان. فأمر الزعيم بنقل السيد أحمد زياد الى تطوان. وكتب الزعيم رسالة شخصية الى الجنرال فالينيو يتعهد فيها بضمان سلم منطقة النفوذ الإسباني إذ ذاك، وعدم تعرضها لحملات رجال المقاومة، إذا ما تعهد الجنرال من جهته بعدم التعرض للاجئين من حركة المقاومة، وتؤكد الرسالة من جهة أخرى أن في استطاعة الجنرال أن يعتمد على زياد في كل ما يتعلق بهذا الأمر.. ومن ثم أخذ الزعيم يوجه الأسلحة والعتاد والأموال إلى رجال المقاومة... ولم يكن من الممكن كذلك أن تعتمد المقاومة فقط على الطرق التي سلكتها حتى ذلك التاريخ... ففكر الزعيم في تأسيس جيش التحرير واتصل في ذلك بالزعيم الجزائري السيد ابن بلة وبعض رفقائه وعقدوا عدة اجتماعات تولدت عن آخرها فكرة جيش التحرير... وعندما أعدت جميع الترتيبات اللازمة بعث الزعيم برسالة شخصية الى الدكتور الخطيب يطلب منه فيها الالتحاق بتطوان.. وعلى هذا النحو تدرج الكفاح الوطني إلى أن بلغ ذروة اصطحابه... يتبع