قدمنا في الأسبوع الماضي الحلقة الأولى من الكراس الذي نشرته جمعية حركة المقاومة المغربية بمناسبة ذكرى 20 غشت 1958 بعنوان «كفاح الملك والشعب» وهو من تأليف كل من المقاومين حسن العرائشي وبوشعيب شجاعدين. وفي تلك الحلقة رجع المؤلفان الى جذور فكرة المقاومة المسلحة الراجعة في الأصل الى اقتناع بعض أعضاء حزب الاستقلال في القاعدة بضرورة الاستعداد للعمل المسلح في حظيرة خلايا سرية . وذكر المؤلفان كيف أن تلك الفكرة سرت في القاعدة وفي القيادة. وتكونت خلية أولى من أعضاء لجنة التزيين التي قامت بتنظيم استقبال محمد الخامس في سوق أربعاء الغرب في طريق عودته من الزيارة التاريخية من طنجة الى الرباط. وكانت «حوادث السنغال » التي دبرها الفرنسيون في الدار البيضاء لمحاولة عرقلة الزيارة الملكية الى طنجة قد خلقت استياء عميقا وهي التي وجهت أعضاء لجنة التزيين الى التفكير في عمل مسلح للانتقام من الفرنسيين. وكانت قيادة الحزب مؤمنة بأن العمل المسلح هو المآل الحتمي ولكنها كانت تخطط لكي يكون ذلك في مرحلة تالية حينما تنضج ظروف النجاح. ومرت فكرة العمل المسلح بواسطة خلايا سرية بأطوار وبتمرينات إعدادية. ووردت في الحلقة الماضية أمثلة كالتهديد الذي وجه الى أحد الأثرياء لأنه كان يعتزم اقامة حفل زفاف باذخ في غمرة حزن المغاربة على نكبة فلسطين في 1948. وعلى إثره كانت منشورات بمناسبة ذكرى عقد الحماية في 1949. ثم جاء تأسيس خلية انصب اهتمامها على تأمين السلاح. ثم محاولة اغتيال الخائن عبد الحي الكتاني والحريق الذي دبر في معمل للخشب يملكه أحد الخارجين عن قرار الحزب بشأن مقاطعة انتخاب أعضاء الغرف التجارية وهو القرار الصادر بعد المواجهة التي وقعت بين الاستقلاليين والجنرال جوان في مجلس شورى الحكومة سنة 1950 . ويتابع المقاومان العرائشي وشجاعدين في الحلقة الثانية أسفله استعراض الأعمال الاعدادية التي كانت تحضر في حظيرة الحزب للاقدام على العمل المسلح وهو الطور الذي كان لابد من بلوغه. تصدى الزرقطوني لنسف تمثال ليوطي في البيضاء تفرعت عن الجماعة الأولى جماعة جديدة تشكلت كلها من أعضاء الحزب في وقت وجيز أصبح في الدار البيضاء 5 جماعات سرية مؤهلة للعمل المسلح بناصر حركات المسؤول الحزبي في الدار البيضاء أبلغ الخلايا السرية أن القيادة قررت تنظيم عمل عنيف يوم 30 مارس 1952 في ذكرى فرض الحماية بدء تصنيع القنابل المحلية وتخزينها في مكان مأمون منشور قوي للحزب ضد القواعد الأمريكية القنبلة الأولى وفي هذه الأثناء في ختام 1951 كان الخائن الطيب التازي قد اشتهر باتصالاته مع الفرنسيين وبتدبير كثير من الخطط لمقاومة الوطنية في المدينة القديمة بالدار البيضاء وأخذ أمره يستفحل شيئا فشيئا توطدت علاقات متينة بينه وبين الخلفاء الجدد الذين نصبتهم الإدارة الاستعمارية على المقاطعات لتقصي أخبار حزب الاستقلال. وفي ليلة عيد الفطر من سنة 1952 وقع اجتماع بمنزل مصطفى طارق حضره كل من الزرقطوني وبوشعيب راغب وصدقي والمديوني والجيلالي ابن موسى ومولاي مبارك، وتقرر تفجير ثلاث قنابل احادها بمنزل الطيب التازي الذي قتلته المقاومة فيما بعد والأخرى بمنزل الطاهر المراكشي خليفة الباشا والقنبلتان معا من صنع المرحوم محمد الحريزي. أما قنبلة التازي فقد فجرها راغب في الوقت المحدد وكان من تأثيرها أن الحقت أضرارا جسيمة بالمنزل. ولم ينجح الحريزي في تفجير قنبلة الخليفة لانه فوجئ بحراسة قوية تضرب نطاقا حول منزل الخليفة. وألقي القبض في هذا الحادث على مولاي مبارك وظل رهن الاستنطاق طيلة سبعة أيام كاملة خرج بعدها بريئا من غير أن يسيء الى رفيق من رفقائه. وقد كان الحزب على علم في الوقت المناسب بتفاصيل هذه الخطة، أما القنبلة الثالثة فقد اخفق الزرقطوني والجيلالي ابن موسى في تفجيرها بمتجر الحاج العسل أمين الحلويين. الجماعة الجديدة ان دور الجماعة في العمل أخذ يبرز الى الوجود في شكل جلي كان له تأثيره المقصود في نفس المستعمر كأثره في نفوس الشعب. وشعرت الجماعة أن كيانها قد اكتمل ونموها الطبيعي المطرد أصبح يؤهلها للقيام بواجبها، فاتفق الأفراد على أن يسعى كل منهم الى تأسيس جماعات فرعية تقوي مركز الجماعة وتكون في نفس الوقت قادرة على تنفيذ الخطة المرسوعة على أن تظل هذه الجماعات جاهلة لكل شيء عن الجماعة الرئيسية، وبعد أيام جاء الزرقطوني يخبر أنه توفق في تأسيس جماعة رابعة بدرب السلطان. ان قصة هذه الجماعة تفسر الكثير من اخلاق الزرقطوني وطباعه وقدرته على الكتمان في سبيل تحقيق هدف من الأهداف لقد تبين فيما بعد أن الزرقطوني لم يكن في الحقيقة مؤسس هذه الجماعة وانما انقسم إليها كفرد عادي. ان فكرة تأسيس هذه الجماعة كانت من ايحاء السيد حسن العرائشي انه شاب نشيط من خيرة مسيري الحزب ومن أقدرهم على تحمل الشدائد في سبيل المبدأ النبيل، اقتنع مع نفسه هو الآخر بضرورة الكفاح الوطني المسلح، فسعى إلى الاتصال ببعض مسيري الحزب ممن يثق في وطنيهم واخلاصهم واستعدادهم لتحمل الاذاية في سبيل الهدف الغالي النبيل فوجد لفكرته صداها العميق في نفوس السيد التهامي الفضالي والسيد سليمان العرائشي والسيد الحسين برادة وقد كانوا جميعا من المسيرين في الحزب، فقامت الجماعة بتنظيم نفسها وأخذت تستعد للعمل، إلا أن أربعة أفراد سوف لا يكون في مقدورهم أن يحققوا أي عمل عظيم ما لم تتعاون مواهب جديدة على إبراز هذا العمل.. فاقترح التهامي الفضالي إلحاق الزرقطوني بالجماعة وكانت الجماعة قبل ذلك خبرت أخلاقه عن كثب وتأكدت من وطنيته الصادقة وحدد موعد الاجتماع بالزرقطوني فوقف أمام اصدقائه الأربعة الذين تربطه بهم علاقات الحزب والعمل في جماعاته. وقف أمام هؤلاء المنقبين يقسم أمام كتاب الله يمين الاخلاص وبعد لحظة قصيرة كان فردا منهم تربطه بهم علاقات أوثق علاقات العمل الخطير فهل أدركت هذه الجماعة إذذاك أن الزرقطوني انما كان يسعى إلى توسيع دائرة المقاومة الشعبية عندما ارتبط بها؟ ومن هنا تتراءى شخصية الشهيد الزرقطوني علي حقيقتها الشخصية القوية القادرة الطموحة التي لا تحجم عن التلون بأصباغ مختلفة إذا كان ذلك يفضى إلى تحقيق غاية أو هدف وطنيين. لقد قام الزرقطوني بدور كبير في هذه الفترة وتوفق فيه من غير أن يعارض بين أهداف الجماعة الجديدة التي انضم اليها والجماعة الرئيسية التي كان أحد أعضائها البارزين وقدم في نفس الليلة تقريرا عن انضمامه الى الجماعة الجديدة. استعدادات خاصة والحقيقة أنه مهما طال الزمن وتوالت الاحداث وانطوت صفحات من الماضي فان التاريخ سيحفظ لهذه الجماعة الاولى جماعة القانون المحروق كثيرا من المميزات الخاصة التي تجعلها ذات فضل كبير على تطور الكفاح في بلاد المغرب لقد بلغت هذه الجماعة من الدقة في التنظيم بحيث ظلت المبادئ التي خطتها في أول يوم من حياتها هي الخطوط الرئيسية التي تميز سبل المقاومة الشعبية المنظمة المختلفة عن السبل التلقائية المترجلة. كانت تومن بأن المقاوم يجب أن يتوفر على عدد من المقومات الضرورية التي تؤهله للقيام بواجبه في الكفاح المسلح، ومن هذه المقومات تعلم المصارعة والجيدو ولتعليم هذه الثقافة البدنية بين الافراد أخذ الشهيد صدقي يتلقى دروسا بالمراسلة من احد المعاهد الفرنسية ليطبقها فيما بعد مع رفقائه في ساعات خصصت لذاك، وقد استطاعت هذه الدروس بالفعل ان تكون من هذه الجماعة والخلايا المتفرعة عنها شخصيات رياضية قوية قادرة على الدفاع عن نفسها متى حز بها أمر أو داهمها مصاب. وابتكرت طريقة سرية لكتابة الرسائل، طريقة يمكن أن نؤكد أنها أحسن بكثير من عدة طرق سلكتها المنظمة الجاسوسية في العالم، ومبتكر هذه الطريقة هو شعيب بن الطيبي وقد نقلها الزرقطوني فيما بعد الى جماعة درب السلطان على أنها تعليمات أو مقترحات صادرة عنه. إخفاء الأسلحة وكان من بين أعضاء الجماعة الرئيسية السيد الحسين القدميري أحد المسيرين في حزب الاستقلال الذي ظل مرتبطا مع الجماعة بالمبدأ والخطة الى أن وقع حادث مفاجئ جعله يصاب بلوثة في عقله. ولم يكن في مقدور الجماعة أن تواصل ارتباطها به بعد أن أصيب بهذه النكبة فتقرر فصله عن الجماعة إلا أنه لم يرض هذا المصير فثار على الجماعة وأخذ يتعقب أفرادها محتجا على هذا الفصل الذي شعر به عندما وجد نفسه مبعدا عن الاجتماعات الخاصة، وذات أمسية اتصل بشعيب بن الطيبي وأراد أن يدخل معه في عراك بسبب الاهمال الذي لحقه إلا أن شعيب الذي كان يتجنب وقوع أي حادث قد يكشف أسرار الجماعة اكتفى بطرده، فحزت في نفسه هذه المعاملة وراح يرتاد متاجر الأصدقاء من أعضاء الحزب يشكو ويتذمر. وخشيت الجماعة أن يتفشى أمرها إلى العموم فيقضي عليها في المهد، فقررت ان توضع المسدسات التي تملكها في صندوق وتدفن تحت الأرض في معمل للخشب وراء سينما الأطلس كان الزرقطوني شريكا فيه. وسعى سعيد المنوزي من جهته إلى تأسيس جماعة أخرى كانت الخامسة في ترتيب الجماعات المتفرعة ومن بين أعضاء هذه الجماعة سعيد بن الحاج عبد الله وعبد الله بن محمد وحماد بن عبابد المدعو تيروريست وبلقاسم بن على وأحمد ماريو وغيرهم وقد تخصصت هذه الجماعة اغلب الأمر في جمع التبرعات والاشتراكات إلى أن تطورت فأخذت تؤدي ثمن الأسلحة التي يمدها بها سعيد المنوزي لتمون بها جماعة درب الفصة المؤسسة فيما بعد. الحزب يأمر بإقلاق راحة المستعمر لقد بلغت الآن هذه الجماعة من القوة ما جعلها ذات تأثير لازال يذكره سكان الدار البيضاء في تلك الفترة الحرجة فترة استعداد الفرنسيين للانقضاض على العرش. ان المقاومة الشعبية والثورة الجماعية التي قام بها الشعب لم يكن لها ان تنجح وتحقق للبلاد حقها في الحرية والاستقلال وتسترجع للعرش عزته وكرامته لو لم تتولد عن تدبير مبكر تدبير نظم ورت في الوقت الذي كان المستعمر يعتقد أن قوة الشعب لا يمكن أن تتعدى حدود المظاهرات السلمية الباردة. وكان هناك مخطط لتوزيع الأدوار في حظيرة حزب الاستقلال حتى إذا تعرض القادة السياسيون الى التعسف وسيقوا الى المعتقلات برزت قوة المقاومة الى الوجود وتجيب عن الاعتداء بمثله، وإذا كانت حركة المقاومة المغربية حققت بعض أعمال الاقلاق قبل اعتقال اللجنة التنفيذية للحزب في ديسمبر 1952 فلان الحزب كان يريد من جهة أخرى أن تكون هذه الأعمال من قبيل المناوشات التمهيدية حتى يتأكد المستعمر أن اليد التي تحمل المسدس قادرة على تفجير القنبلة وان الذي يشعل عود الثقاب لا بد وأن يبحث عن طعم لناره. وفي ليلة 30 مارس من سنة 1952 جاء بناصر حركات واتصل مباشرة بصدقي وأبلغه أن الحزب يريد من الجماعة أن تقوم بعمل ما بمناسبة ذكرى 30 مارس من غير أن يحدد هذا العمل أو يشير الى نوعه، وقد استمع الى هذا الأمر كل من الزرقطوني وشعيب وفي لحظات تم وضع برنامج لإحراق الحافلات وأحرقت تسع منها بالفعل على يد جماعة صدقي بالمدينة القديمة وجماعة الزرقطوني بدرب السلطان بمن فيها سليمان العرائشي وحسن العرائشي وباقي أفراد الجماعة. الجماعة . وإذا كانت الجماعة تتوفر على عدد من المسدسات فهي كانت تفتقر الى القنابل يكون لها المفعول القوي. وكان ضمن الجماعة كما قلنا السيد بوشعيب راغب العامل اذ ذاك بقاعدة النواصر وبما أنه بارع في خرط الحديد (الثور) فقد تطوع لصنع قنابل قوية تحقق الغاية المرجوة منها وشرع بالفعل في هذا العمل واعد في ظرف قصير عددا مهما منها وضع في خزين خاص كدخيرة تستعمل عند الحاجة كما كان عزام في الوقت نفسه يقوم بنفس العمل. وقبل أن يتوصل بوشعيب الى اعداد قنابله كان لزاما أيضا على الجماعة أن لاتقتصر في ليلة 30 مارس على إحراق الحافلات فاقترح الزرقطوني نسف تمثال اليوطي وتمثال (الاخوة المغربية الفرنسية) الذي يقابله بالديناميت وصادقت الجماعة على هذا الاقتراح والتحق الزرقطوني برفيقه حسن وسليمان وتوجهوا الى ميدان اليوطي في تلك الليلة المظلمة البهيمة المشتية وحاول وكرر المحاولة فلم تنجح لأن الأمطار المتهاطلة كانت تفسد عليه العمل وتطفئ الفتيل المرة بعد الأخرى فرجع خائبا من حيث أتى. إلا أنه لم يستسلم أمام هذه الخيبة فتوجه الى شركة (لاماروكان دي بوا) واشعل النار في دخائر الخشب اليابس الذي لم تبلله الأمطار. وفي صباح اليوم التالي أصدرت في الصحف تعاليق صاخبة عن هذا الحريق الذي تكبدت فيه الشركة خسارة 40 مليون فرنك وعندما دقت الساعة الثانية عشرة ليلا رجع الافراد الى مكان الاجتماع ليقدموا تقارير عن الاعمال التي قاموا بها وكان من بين هؤلاء الافراد الشهيد الزرقطوني الذي قدم عرضا عما قام به في ذلك المساء مع رفقاء درب السلطان. الحزب يختار الكفاح المسلح أخذ الجو السياسي يتكهرب في عمق وشدة وبدت في الأفق كثير من السحب القاتمة التي تنذر بهبوب العاصفة ولم يغب عن الحزب أن مصير قادته السياسيين قد قرر في الخفاء وأنه ينتظر بين لحظة وأخرى أن تنقض عليهم القوة الاستعمارية لتخنق فيهم الاصوات المعبرة عن رغائب الشعب. وصادف أنذاك أن دخلت مسألة القواعد الامريكية بالمغرب في طور مضطرب فأصدر الحزب المنشور الشهير الذي يحمل عنوان (لا نحالف من لا يعترف بحقنا في الحرية والاستقلال) ولم يكتف الحزب بهذا المنشور الذي يحدد في صراحة موقفه من هذا الاحتلال الجديد الذي أصاب البلاد فقام الحاج عمر عبدالجليل بجولة في مدينة الدارالبيضاء حاضر فيها أعضاء مكاتب الحزب ومسيريه حسب الدوائر التي قسمت عليها مناطق التسيير. حاضر على التوالي في درب غلف والحي الصناعي ودرب السلطان والمدينة القديمة وحضر محاضره المدينة القديمة التي كانت بمنزل السيد عبدالسلام الغزواني بدرب الانكليز جميع مسيري هذه المنطقة وكان ضمنهم أغلب أعضاء الجماعة، وفي هذه المحاضرة أشار الحاج عمر الى أن طرق تحقيق الاستقلال ثلاثة طريق الكفاح السياسي وطريق الصدف وطريق اقلاق راحة المستعمر. وقال عن الطريق الأولى بأنها الطريق التي سلكها الحزب حتى ذلك الحين، وعن الطريقة الثانية بأنها طريقة غير مضمونة ومع ذلك فان المغرب ينتظر حصول هذه الصدفة كما حصل بالنسبة لليبيا. وكثير من الامم. أما الطريق الثالثة فقال عنها بأنها السبيل الوحيد الموصلة بسرعة الى تحقيق الاستقلال. ولم يخف المحاضر أن الحزب يعلق آمالا كبيرة على مسيريه في اقلاق راحة المستعمر وحمل السلاح في وجه العدو الجاثم على صدر هذه الامة الخانق لأنفاسها.