موكوينا: سيطرنا على "مباراة الديربي"    موتسيبي: كأس أمم إفريقيا للسيدات المغرب 2024 ستكون الأفضل والأنجح على الإطلاق    الصويرة تستضيف اليوم الوطني السادس لفائدة النزيلات    ضمنهم موظفين.. اعتقال 22 شخصاً متورطين في شبكة تزوير وثائق تعشير سيارات مسروقة    مهرجان "أجيال" بالدوحة يقرب الجمهور من أجواء أفلام "صنع في المغرب"    طقس حار من السبت إلى الاثنين وهبات رياح قوية مع تطاير الغبار الأحد بعدد من مناطق المغرب        صادرات الصناعة التقليدية تتجاوز 922 مليون درهم وأمريكا تزيح أوروبا من الصدارة    الرئيس الصيني يضع المغرب على قائمة الشركاء الاستراتيجيين    افتتاح أول مصنع لمجموعة MP Industry في طنجة المتوسط    وهبي: أزماتُ المحاماة تقوّي المهنة    خبراء: التعاون الأمني المغربي الإسباني يصد التهديد الإرهابي بضفتي المتوسط    الإكوادور تغلق "ممثلية البوليساريو".. وتطالب الانفصاليين بمغادرة البلاد    المغرب التطواني يُخصص منحة مالية للاعبيه للفوز على اتحاد طنجة    حكيمي لن يغادر حديقة الأمراء    المحكمة توزع 12 سنة سجنا على المتهمين في قضية التحرش بفتاة في طنجة    ابن يحيى تشارك في افتتاح أشغال المنتدى البرلماني السنوي الأول للمساواة والمناصفة    بوريطة: المقاربة الملكية لحقوق الإنسان أطرت الأوراش الإصلاحية والمبادرات الرائدة التي باشرها المغرب في هذا المجال    من العاصمة .. إخفاقات الحكومة وخطاياها    مجلس المنافسة يفرض غرامة ثقيلة على شركة الأدوية الأميركية العملاقة "فياتريس"        "أطاك": اعتقال مناهضي التطبيع يجسد خنقا لحرية التعبير وتضييقا للأصوات المعارضة    لتعزيز الخدمات الصحية للقرب لفائدة ساكنة المناطق المعرضة لآثار موجات البرد: انطلاق عملية 'رعاية 2024-2025'    هذا ما قررته المحكمة في قضية رئيس جهة الشرق بعيوي    مندوبية التخطيط :انخفاض الاسعار بالحسيمة خلال شهر اكتوبر الماضي    فاطمة الزهراء العروسي تكشف ل"القناة" تفاصيل عودتها للتمثيل    مجلس الحكومة يصادق على تعيين إطار ينحدر من الجديدة مديرا للمكتب الوطني المغربي للسياحة    المحكمة الجنائية الدولية تنتصر للفلسطينيين وتصدر أوامر اعتقال ضد نتنياهو ووزير حربه السابق    طبيب ينبه المغاربة لمخاطر الأنفلونزا الموسمية ويؤكد على أهمية التلقيح    قانون حماية التراث الثقافي المغربي يواجه محاولات الاستيلاء وتشويه المعالم    توقعات أحوال الطقس غدا السبت    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    ما صفات المترجِم الناجح؟    خليل حاوي : انتحار بِطَعْمِ الشعر    الغربة والتغريب..    كينونة البشر ووجود الأشياء    الخطوط الملكية المغربية وشركة الطيران "GOL Linhas Aéreas" تبرمان اتفاقية لتقاسم الرموز    المجر "تتحدى" مذكرة توقيف نتانياهو    رابطة السلة تحدد موعد انطلاق الدوري الأفريقي بالرباط    بنما تقرر تعليق علاقاتها الدبلوماسية مع "الجمهورية الصحراوية" الوهمية    مفتش شرطة بمكناس يستخدم سلاحه بشكل احترازي لتوقيف جانح    القانون المالي لا يحل جميع المشاكل المطروحة بالمغرب    "سيمو بلدي" يطرح عمله الجديد "جايا ندمانة" -فيديو-    بتعليمات ملكية.. ولي العهد يستقبل رئيس الصين بالدار البيضاء    العربي القطري يستهدف ضم حكيم زياش في الانتقالات الشتوية    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة الزنج : أكثر الصفحات دموية في التاريخ و أخطرها
نشر في العلم يوم 11 - 08 - 2011

قامت حركة الزنج في عام 255 ه، وأنهكت دولة الخلافة العباسية قبل أن تقضي عليها، وكان عماد هذه الحركة في بادئ الأمر بعض العرب المغامرين من المهالبة والهمدانيين وغيرهم، أما الفئات التي شاركت فيها فهي متنوعة: الزنج، أهل القرى، العرب، عشائر عربية ثائرة على السلطة.. أما فيما يتعلق بالشخصية التي قادت هذا الجمع، فهو علي بن محمد الفارسي الأصل، وهو شخصية محيرة فعلاً حيث يلاقي الباحث صعوبات جمة في معرفة نسبه، وذلك بفعل تقلباته السريعة، تبعًا للظروف التي كان يمر بها، واتصف بأنه رجل طموح وموهوب..
ويبدو أن حياته كانت غير طبيعية فقد بدأها كشاعر في بلاط الخليفة بسامراء، ثم حاول القيام بحركة ضد النظام في البحرين للوصول إلى الحكم، إلا أنه أخفق في تحقيق مبتغاه، فسلك نهجًا جديدًا، وظهر كقائد ديني ومتنبي، فادعى نسبًا علويًا محاولاً أن يستثمر ما للشيعة من عطف وتأييد بين الناس، وقد أحلَّه أتباعه من أنفسهم محل النبي حتى جُبِي له الخراج..
ويبدو أن جماعة كثيرة العدد في البحرين قد تنكرت له، مما دفعه إلى مغادرتها إلى البادية ليستقطب الأعراب، وادعى فيها النسب الشيعي على أنه يحيى بن عمر أبو الحسين، فالتف حوله بعض الأعراب استغلهم بإعادة السيطرة على البحرين، إلا أنه هزم وفر إلى البصرة..
ووقف أثناء إقامته القصيرة فيها على أوضاعها الداخلية السياسية والاجتماعية حيث كان المجتمع البصري منقسمًا على نفسه، فحاول أن يستغل هذه الخلافات لصالحه إلا أنه فشل، وفي الوقت نفسه رأى في حياة العبيد فيها الذين يعملون في المستنقعات المجاورة فرصة لتحقيق طموحاته لكنه طُرِدَ منها فذهب إلى بغداد، وفي بغداد استنبط نسبًا علويًا جديدًا فانتسب إلى أحمد بن عيسى بن زيد، ثم حاول الوثوب إلى السلطة مستغلاً الأوضاع المضطربة في حاضرة الخلافة، ولكنه لم يتمكن من ذلك بفعل إحكام الأتراك قبضتهم على الوضع، فعاد إلى البصرة في عام 255ه ليتزعم حركة ثورية مدعيًا أن الله أرسله لتحرير العبيد وإنقاذهم مما كانوا يعانونه من بؤس كما ادعى العلم بالغيب، وانتحل النبوة..
والواقع أن فكرة المهدي المنتظر رافقت علي بن محمد في جميع مراحل حياته السياسية؛ فاستغلها بذكاء، وهو بادعائه المهدية، كان يضرب على وتر حساس في نفوذ جماعة العلويين الذين برح بهم الشقاء، فكانوا يأملون في ظهور مهدي منقذ يزيل عنهم الغمة، ويفرج عن أيامهم كربتها، وركز كثيرًا على عراقة أصله وكتبها على نقوده وسمي نفسه «المهدي علي بن محمد» المنقذ..
وجهر علي بن محمد في إحدى مراحل حياته بمذهب الخوارج الذين يلاءم مبدأهم ميل أصحابه ، فحارب من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة، وكتب شعاراته على الرايات باللونين الأخضر والأحمر وهما لون العلويين ولون الخوارج..
لقد تعارضت أفكار علي بن محمد عن الخلافة مع مفهوم الشيعة لها التي تؤكد على الوراثة، وتبنى رأي الخوارج القائم على الشورى، مما نفَّر منه الأعراب البسطاء، وعرب البصرة والأهواز و واسط والمناطق المحيطة بها، كما رفض قرمط أن يرتبط معه بعوامل دينية، أما شدته وقسوته تجاه أعدائه فقد جعلته خارجيًا متطرفًا، يُضَاف إلى ذلك أنه عامل أسرى الحرب معاملة الرقيق، ووعد أتباعه بأنه سيملكهم المنازل والعبيد، وهذا يعني تحويل حياة الزنج من أرقاء إلى ملاك للعبيد. والواضح أن هذا التناقض في عقيدة الحركة يفرغها من أي صبغة عقائدية، ويجعلها حركة مسلحة ضد النظام ليس إلا، كما يجعل من قائدها رجلاً مغامرًا طموحًا إلى السلطة..
تعددت دوافع الاستجابة لهذه الحركة ما بين سياسية، واقتصادية واجتماعية:
الدوافع السياسية:
بسبب تردي أوضاع الخلافة، نتيجة تصاعد نفوذ الأتراك إلى جانب صراع خفي بين المترفين والعبيد وجد متنفسًا له في دعوة علي بن محمد..
الدوافع الاقتصادية:
نتيجة الأوضاع المالية المتدهورة وظاهرة التكوين الطبقي داخل المجتمع الإسلامي من طبقة ثرية إلى طبقة تجار فالطبقة العامة العاملة..
واتسعت الهوة مع مرور الزمن بين هؤلاء وبين الطبقة الإقطاعية، وبلغ التناقض الاجتماعي مداه، مما كان دافعًا للاستجابة لنداء الثورة الذي أطلقه علي بن محمد..
الدوافع الاجتماعية:
بفعل نمط حياة فئات العبيد التي كانت تعيش في ظروف قاسية وسيئة من خلال عملها في تجفيف المستنقعات وإزالة السباخ عن الأراضي، ثم نقل الملح إلى حيث يعرض ويباع، لقاء وجبة طعام، فأرادت هذه الفئات التخلص من هذا العمل الشاق ومن ضنك العيش..
وقد سيطر علي بن محمد خلال عشرة أعوام (255 265ه) على رقعة واسعة تمتد بين الأهواز و واسط، وهدد بغداد، عندئذ عهد الخليفة المعتمد إلى أخيه أبي أحمد الموفق طلحة بمحاربته؛ فاصطدم بمجموع الزنج وقتل علي بن محمد، واستسلم من بقى من أتباعه ومات العديد..
وبإخماد الثورة، أُسْدِلَ الستار على هذه الحركة التي قضَّت مضاجع الخلافة لعباسية، وكلفتها الكثير من الجهد والأموال والأرواح والتي دامت أكثر من أربعة عشر عامًا (255 270ه)
حركة الزنج و الأخطاء القاتلة
لقد انطلقت حركة الزنج من واقع الألم والاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي بين مستنقعات البصرة وسهولها، وكانت بدايتها ناجحة انسجمت فيها أهدافها مع أفعالها، لكن النزعة الفوضوية التي طبعتها وهي في قمة مواجهتها أدت إلى تقلص أبعادها الاجتماعية، وقد زاد من تلك النزعة افتقارها إلى برنامج ثوري يصوغ تطلعات وأهداف القائمين بها، ويوضح العلاقة بين القيادة والأتباع، كما يلاحظ أن رجالها استهدفوا الانتقام لا الإصلاح، والانقلاب الاجتماعي لا التقويم، وأن قائدها لم يستطع أن يحرر ذاته من مسألة فكرة الزعامة القرشية، بالإضافة إلى أن أطرها الثورية كانت محلية ومحدودة ولم تكن لديها تطلعات شاملة، وندرك من هنا عدم نجاح علي بن محمد في اكتساب قطاعات كبيرة من المجتمع العراقي كالفلاحين وكبار الملاك والتجار والحرفيين، وحتى القرامطة، فأصبح العبيد بمفردهم ضعفاء رغم عددهم الكبير.. ومن جهة ثانية فإن سرعة الأحداث، وتصميم العباسيين على القضاء عليها، لم يعطيا قائدها مهلة لتنظيم صفوف قواته، وتمكنه من بناء مجتمع مستقر ذي أنظمة خاصة لذلك كان من الطبيعي أن تفقد هذه الحركة طابعها الإنساني والثوري مما دفعها إلى نهايتها المحتومة، لكن قاعدتها الثورية التي تشتت استطاعت أن تكون إحدى الدعائم الأساسية التي دفعت الحركة القرمطية إلى الظهور فيما بعد..
حركة الزنج كما يراها المؤيدون
منذ عهد المتوكل العباسي غلبت سيطرة ُالعسكر الأتراك وقادتِهم على أزمة الأمور في الدولة واستأثروا بالعطاء والاقتطاعات واستبدوا بسلطان الخلافة حتى صاروا يولون ويعزلون الخلفاء كما يحلو لهم، بل يقتلون ويسمون ويسجنون كلَ من لا يحقق مطامعهم ومطامحهم من الخلفاء والوزراء. وقد حاول بعض الخلفاء أن يستردوا إلى منصب الخلافة سلطانَه وهيبتَه وان يستندوا في معارضة القادة الأتراك ومواجهتهم إلى تأييد شعبي عن طريق مهادنة المعارضين وإظهار ِشيء ٍمن العدل والإنصاف بين رعيتهم، حاول ذلك الخليفة المنتصر بالله العباسي سنة مائتين وسبع وأربعين للهجرة والمهتدي بالله العباسي سنة مائتين وخمس وخمسين للهجرة ولكن الأتراك تخلصوا منهم بالعزل والسم والقتل، فلم يحكم كلُ واحد منهما إلا عاما واحدا فقط.
وعندما سدّت سبلُ الإصلاح أمام الراغبين فيه والمتطلعين إليه اقبل الناسُ على الثورة طريقا لم يجدوا أمامهم سواه للتغير. فكان أن قامت عدةُ حركات ثوريه يقودها ثوار كانت غالبيتُهم من العلويين، ففي سنة مائتين وثمان وأربعين للهجرة ثارت الكوفة بزعامة أبي الحسين ابن يحيى ابن عَمرو ابن يحيى ابن الحسين ابن عبد الله ابن إسماعيل ابن عبد الله ابن جعفر الطيار، وفي سنة مائتين وخمسين للهجرة ثارت طبرستان بقيادة الحسن ابن زيد ، وامتدت الثورة إلى جرجان واستمرت دولتها حتى سنة مائتين وسبعين للهجرة، وثارت الري بزعامة محمد ابن جعفر ابن الحسن بهدف الانضمام إلى ثورة طبرستان، ثم تكررت ثورتُها بعد الإخفاق بقيادة أحمد ابن عيسى ابن علي ، وثارت قزوين بقيادة الكركي الحسن ابن إسماعيل ابن محمد ابن عبد الله ابن علي ، وثارت الكوفة مجددا بقيادة الحسين ابن محمد ابن حمزة ، على أن اخطر الثورات التي شهدها العصر العباسي كانت هي الثورة التي قادها علي ابن محمد سنة مائتين وسبعين للهجرة والتي بدأت في البحرين سنة مائتين وتسع وأربعين للهجرة والتي اشتهرت باسم ثورة الزنج.
وكان قائد هذه الثورة ،علي ابن محمد ابن أحمد شاعرا وعالما يمارس في سامراء تعليم النحو والخط والنجوم وكان واحدا من المقربين إلى الخليفة المنتصر بالله العباسي ، ولما قتل الأتراك المنتصر بالسم ومارسوا الاعتقال والسجن والنفي والاضطهاد لحاشيته كان علي ُابن محمد هذا من بين المعتقلين، ثم حدث تمرد من فرقة الجند الشاكريه ببغداد يؤازرهم عامة الناس ، دخلت بغداد معها في فوضى عارمة واختفت الجيوش والشرطة من الشوارع، فأقتحم المتمردون السجون وأطلقوا سراح من فيها ومنهم بالطبع علي ابن محمد، ليشعلَ ثورة ًا قضت مضجعَ العباسيين إلى أقصى مدى.
غادر علي ابن محمد بغداد إلى سامراء ومنها إلى البحرين حيث دعا إلى الثورة ضد الدولة العباسية الواقعة تحت سيطرة الجند الأتراك ,بالرغم من اشتهار هذه الثورة بثورة الزنج إلا أنها لم تكن ثورة ًعنصرية ًللزنج وحد ِهم ولم تقف أهدافها عند تحرير العبيد أو تحسين ظروف عملهم .
وعلى امتداد السنوات السبع الأولى من عمر الثورة الممتدة من سنة 249 للهجرة إلى سنة 256 للهجرة كان قادتها ومحيطها وجمهورها عربيا خالصا ، فهي قد بدأت في مدينة هجر أهم مدن البحرين ثم في بادية البحرين وسط عربها ثم في الإحساء بين أحياء بني تميم وبني سعد ، وفي هذا المحيط العربي قامت سلطة ُهذه الثورة ودولتُها وحدثت الحروب بينها وبين جيوش الدولة العباسية، ويصف الطبري سلطة علي ابن محمد في هذا المحيط العربي فيقول لقد أحله أهل البحرين من أنفسهم محل النبي حتى جبي له الخراج هناك ونفذ حكمُه بينهم وقاتلوا أسباب السلطان بسببه
وفي موقعة الردم في البحرين أحرز العباسيون انتصارا مؤثرا على الثورة فأنسحب علي ابن محمد إلى البصرة ونزل هناك بين عرب بني ضبيعه من نزار ابن معن ابن عدنان فدعاهم للثورة فتبعوه ، وكان عددٌ منهم من قادة ثورته وجيشه ، ولما طردته الدولة وألقت القبض على أغلب أنصاره ووضعتهم في السجون مع ابنه الأكبر وابنته وزوجته غادر على ابن محمد إلى بغداد متخفيا وأقام بها عاما كاملا دون أن يشعر به أحد.
في سنة 255 للهجرة حدثت في البصرة فتنة بين طائفتين من جندها الجند البلاليه والجند السعدية وأسفرت هذه الفتنة عن اضطراب عارم وغياب للنظام تمخض عنها هدم السجون وأطلق سراحُ المعتقلين ومنهم أهل وأنصار على ابن محمد ، فغادر بغداد ووصل إلى ضواحي البصرة ليواصل ثورته من جديد متطلعا لتجاوز إخفاقاته السابقة، وهنا بدأ أول انعطاف للثورة نحو الزنج ، أي بعد قرابة ِسبع ِسنوات من اندلاعها.
ألقت الخلافة العباسية بكل ثقلها في المعركة ضد الثورة، وكرست كل إمكاناتها للجيش والقتال، وبعد أن عهد الخليفة المعتمد العباسي بالقيادة الميدانية إلى أخيه الموفق، تحول قائد الجيش إلى خليفة حقيقي وتحولت المدينة التي بناها تجاه عاصمة الثوار والتي سماها الموفقيه إلى العاصمة الحقيقية للدولة ويأتي إلى بيت مالها كلُ خراج البلاد لدعم المجهود الحربي في إخماد ثورة الزنج، وتصدر منها الأوامر إلى كل الولاة والعمال في سائر أرجاء الخلافة في أن يقدّموا كلَ مايستطيعونه لإسناد جيش العباسين في قتاله, الأمر الذي أوغر صدر الخليفة المعتمد حتى لقد حاول الفرار من سامراء إلى مصر ليدخل في حماية الطولونيين ،فألقي القبض عليه بنواحي الموصل وأعادوه إلى سامراء شبه سجين.
في سنة 268 للهجرة باشرت الجيوش العباسيه بقيادة الموفق هجوما واسعا على المختارة عاصمة الزنج ، وهي مدينة محصنة غاية التحصين .‏ ودخل أصحابُ الموفق من جميع تلك الثغرات وتوغلوا داخل المدينة فخرج الكمناءُ من خلف الجيوش العباسية وحدثت واحدةٌ من اعنف المعارك قتل فيها معظمُ الجيش العباسي الذي دخل مدينة المختارة فيما لاذ بالفرار من استطاع الإفلات من سيوفِ ِالزنج عبر نهر دجله.
في سنة 269 للهجرة تقدمت الجيوش العباسية بقيادة الموفق نفسِه لهدم سور المختارة مرة أخرى وقاتل الفريقان أشد قتال رآه الناس فبينما هم كذلك وصل سهم إلى الموفق فأصابه في صدره فاضطرب عسكر العباسين وخافوا, وتسرب كثير من جيوشهم تاركين ساحة المعركة, فأشار عليه أصحابه بأن يعود إلى بغداد ويخلف من يقوم مقامه فأبى ذلك ,ولكنه احتجب عن الناس.
في يوم الأحد العشرين من شعبان سنة 269 للهجرة بكر الموفق بعد أن برأ من علته إلى القتال وأمر أبو حمزة نصير صاحب الزوارق لقصد قنطرة كان الزنج قد عملوها في نهر أبي الخصيب فدخلت زوارق العباسيين نهر أبي الخصيب في أول المد فحملها الماء وألصقها بالقنطرة فأجتمع الزنج على جانبي النهر ورموا الزوارق بكل معداتهم رميا كثيفا فأهلكوا من فيها ومن بينهم بالطبع صاحب زوارق الموفق أبو حمزة نصير.
كانت مصر قد استقلت عن الخلافة العباسية تحت حكم أحمد ابن طولون وكان لها جيش قوي في الشام يقوده المملوك لؤلؤ غلام ابن ِطولون كاتب لؤلؤ الموفق العباسي واشترط عليه شروطا لنفسه فأجابه الموفق إلى كل ما طلب فخان سيده بعد أن أغراه الموفق العباسي، وانظم إلى جيش الدوله العباسيه المحتشد لقتال الثوار فوصل في الثالث من محرم من سنة مائتين وتسع وستين للهجرة. انظم الجيش الطولوني العظيم إلى جيش العباسيين بقيادة أخي الخليفة الموفق العباسي فأكرمه وانزله وخلع عليه وعلى أصحابه وأحسن إليهم وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم .
في يوم الاثنين السابع والعشرين من محرم سنة 270 للهجرة زحفت الجيوش العباسية والطولونية جميعا ومن كل الجهات نحو المختارة عاصمة الزنج والتقى الفريقان في معركة حاميه سقط فيها آلاف القتلى من الجانبين، فانهزم الزنج وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون فقتل منهم ما لا يحصى عددا وغرق منهم مثل ذلك. في يوم السبت الثاني من صفر وبعد ثلاثة أيام من الاستراحة أمر الموفق جيوشَه بالمسير لقتال الزنج مرة أخرى وطاف عليهم هو بنفسه يعرف كلَ قائد مركزَه والمكانَ الذي يقصده فعبر بالناس وأمر برد السفن إلى الضفة الأخرى من نهر دجله حتى لايفكر الجندُ بالهزيمه .‏ والتقى الجيشان مرة أخرى وبعد قتال ضار انهزم الزنج وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، أسر في هذه المعركة ابرز قواد ثورة الزنج سليمان بن جامع وإبراهيم بن جعفر الهمداني ودرمويه الزنجي, وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب وكانت جيوشه قد أعملت سيوفها في رجال مدينة المختارة عاصمة الزنج لتقتل مقتلة عظيمه منهم حتى غطت الجثثُ وجه الأرض لترسم صورة مروعه ينقلها لنا التأريخ لواحدة من أعنف الصراعات التي شهدتها أرض العراق في ذلك الزمان.
لقد استمرت الحربُ بين دولة الثورة هذه وبين الخلافة ألعباسيه لأكثر من عشرين عاما بلغ العنف فيها من الجانبين حدا لم يسبق له مثيل، حتى ليقول المؤرخون الذين يتواضعون بأرقام القتلى في هذا الصراع بأنهم بلغوا نصفَ مليون قتيل. وهكذا انطوت صفحة دموية أخرى من صفحات التاريخ .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.