كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكنْ لم تتمخض عن كل الثورات لحظاتٌ كبرى.. وأغلب الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون معنى الثورة.. لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط ويستند إلى نظرية.. إنها ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد طغاة... حدث هذا منذ غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعةٌ مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل لم يترك صدى، ومنها ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس، في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا ب«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية»، المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق... حاول بعض الخلفاء العباسيين أن يُعيدوا لمنصب الخلافة سلطانه وأن يستندوا في معارضة القادة الأتراك إلى تأييد شعبي بمهادنة العلويين الثوار وإقامة قدر من العدل والإنصاف بين الرعية.. حاول ذلك الخليفة المنتصر بالله (247 -248 ه -861 -862 م)، والمهتدي بالله (255 -256 ه -869 -870 م) ولكن الأتراك تخلصوا منهما بالسم والعزل والقتل. وعندما سدت سبل الإصلاح أمام الراغبين فيه، أقبل الناس على الثورة، طريقاً لم يجدوا أمامهم سواه للتغيير، فكان أن قامت عدة حركات ثورية، يقودها ثوار علويون، على أن أخطر الثورات التي شهدها العصر العباسي كانت هي الثورة التي قادها علي بن محمد (270 ه 883 م)، والتي بدأت في البحرين سنة 249 ه سنة 863 م، وهي التي اشتهرت باسم «ثورة الزنج». وكان قائد هذه الثورة -علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- شاعراً وعالماً، يمارس، في «سامراء» تعليم الخط والنحو والنجوم... وكان واحداً من المقربين إلى الخليفة المنتصر بالله. ولمّا قتل الأتراك المنتصر بالسم وعرّضوا حاشيته للسجن والنفي والاعتقال والاضطهاد، كان علي بن محمد ضمن المعتقلين.. ثم حدث تمرد من فرقة «الجند الشاكرية» في بغداد، شارك فيه العامة، حيث اقتحم المتمردون السجون فأطلقوا سراح من فيها، ومنهم علي بن محمد، الذي غادر بغداد إلى «سامراء» ومنها إلى البحرين، حيث دعا إلى الثورة ضد الدولة العباسية، الواقعة تحت سيطرة الجند الأتراك. رغم اشتهار هذه الثورة ب»ثورة الزنج»، فإنها لم تكن ثورة عنصرية للزنج وحدهم ولم تقف أهدافها عند المطالبة بتحرير العبيد أو تحسين ظروف عملهم.. فقائد هذه الثورة عربي وعلوي -رغم تشكيك خصومه في صحة نسبه العلوي- وأغلب قوادها كانوا عرباً كذلك، مثل علي بن أبان (المهلبي) وسليمان بن موسى الشعراوني وسليمان بن جامع وأحمد بن مهدي الجبائي ويحيى بن محمد البحراني ومحمد بن سمعان... إلخ. وعلى امتداد السنوات السبع الأولى من عمر هذه الثورة (249 - 255 ه( كان جمهورها وجندها ومحيطها عربياً خالصاً.. فهي قد بدأت في مدينة «هجر»، أهم مدن البحرين، ثم في «الإحساء» بين أحياء «بني تميم» و«بني سعد».. ثم في بادية البحرين، وسط عربها.. وفي هذا المحيط العربي، قامت سلطة هذه الثورة و دولتها» وحدثت الحروب بينها وبين جيش الدولة العباسية.. ويصف الطبري سلطة علي بن محمد في هذا المحيط العربي، فيقول: «لقد أحلّه أهل البحرين من أنفسهم محل النبي حتى جبا له الخراج هناك، ونفذ حكمه بينهم، وقاتلوا أسباب السلطان بسببه!»... وفي موقعة «الردم» في البحرين، أحرزت الدولة انتصاراً مؤثراً ضد الثورة، فانسحب علي بن محمد إلى البصرة ونزل هناك بين عرب بني ضبيعة (من نزار بن معن بن عدنان) فدعاهم إلى الثورة، فتبعوه، وكان منهم عدد من قادة دولته وجيشه... ولما طردته الدولة وألقت القبض على أغلب أنصاره ووضعتهم في السجون، مع ابنه الأكبر وابنته وزوجته.. غادر علي بن محمد البصرة إلى بغداد، فأقام فيها عاماً. وفي سنة 255 ه (869 م) حدثت في البصرة فتنة بين طائفتين من جندها «الجند البلالية» و»الجند السعدية»، أسفرت ضمن ما أسفرت عنه عن إطلاق سراح السجناء، ومنهم أنصار علي بن محمد، فغادر بغداد، ووصل إلى ضواحي البصرة ليواصل ثورته من جديد.. وفي هذا التاريخ، بدأ أول انعطاف للثورة نحو الزنج، أي بعد قرابة سبع سنوات من قيامها.. كانت البصرة أهمَّ المدن في جنوب العراق، وكان جنوب العراق مشحونة بالرقيق والعمال الفقراء الذين يعملون في مجاري المياه ومصابّها ويقومون بكسح السباخ والأملاح الناشئين من مياه الخليج، تنقية للأرض وتطهيراً لها، كي تصبح صالحة ومعدة للزراعة، وكانوا يقومون بعملهم الشاق هذا في ظروف عمل قاسية وغير إنسانية، تحت إشراف وكلاء غلاظ قساة، ولحساب ملاك الأرض من أشراف العرب ودهاقنة الفرس.. وكان بعض هؤلاء العبيد مجلوبين من إفريقيا السوداء -وهم الزنج- وبعضهم نوبيون، وآخرون قرماطيون، أما فقراء العرب فكانوا يسمون الفراتين. شرع علي بن محمد يدرس حالة هؤلاء الرقيق ويسعى إلى ضمهم إلى ثورته، كي يحررهم ويحارب بهم الدولة العباسية.. وكان أول زنجي ينضم إليه هو ريحان بن صالح، الذي أصبح من قادة الحرب والثورة. أخذ علي بن محمد ينتقل، مع قادة ثورته، بين مواقع عمل الرقيق والفراتين ويدعوهم إلى الثورة والهروب إلى معسكره وترك الخضوع لسادتهم، فاستجابت لدعوته جماهير غفيرة من الزنج والنوبة والقرماطيين والفراتيين، وانضموا إلى العرب والأعراب الذين تبعوه من جنوبي العراق... وقد فشل وكلاء الزنوج في الحيلولة بينهم وبين الالتحاق بمعسكر الثائرين، فكانوا يحبسونهم في البيوت ويسدون أبوابها ومنافذها بالطين. ويصف ابن خلدون إقبال الزنج على الثورة وزحفهم للقاء قائدها فيقول: «لقد تسايل إليه الزنج واتبعوه». وقد أعلن علي بن محمد أن هدفه، بالنسبة إلى الزنج والعرب الفقراء، الذين يعملون في إصلاح أرض العراق الجنوبي هو تحرير الرقيق من العبودية وتحويلهم إلى سادة لأنفسهم، وإعطاؤهم حق امتلاك الأموال والضياع.. بل ومنّاهم بامتلاك سادة الأمس الذين كانوا يسترقونهم، وضمان المساواة التامة لهم في ثورته ودولته التي تعمل من أجل: نظام اجتماعي هو أقرب إلى النظم الجماعية التي يتكافل فيها ويتضامن مجموع الأمة. ونظام سياسي يرفض الخلافة الوراثية لبني العباس، والتي أصبحت أسيرة بيد قادة الجند الأتراك.. ويقدم بدلاً منها دولة الثورة، التي أصبح فيها علي بن محمد أمير للمؤمنين. وقد استطاعت الثورة أن تكتسب، أكثر فأكثر، ثقة جماهير الزنج وفقراء العرب، الذين كانوا أشبه ما يكونون بالرقيق، وبالذات في ظروف العمل وشروطه، وخاصة بعد أن رفض قائد الثورة مطالب الأشراف العرب والدهاقين والوكلاء بأن يرد عليهم عبيدهم لقاء خمسة دنانير يدفعونها عن كل رأس..! لقد رفض علي بن محمد هذا العرض، بل وعاقب هؤلاء السادة والوكلاء، فطلب من كل جماعة من الزنج أن يجلدوا سادتهم ووكلاءهم القدامى.. وزاد من اطمئنان الزنج للثورة ما أعلنه قائدها من أنه «لم يثُر لغرض من أغراض الدنيا، وإنما غضباً لله ولِما رأى عليه الناس من الفساد».. وعاهدهم على أن يكون، في الحرب، بينهم «أشرككم فيها بيدي وأخاطر معكم فيها بنفسي»، بل قال لهم: «ليحط بي جماعة منكم، فإن أحسوا مني غدراً فتكوا بي؟»!... وبهذه الثقة، تكاثر الزنج في صفوف الثورة وفي كتائب جيشها، بل وانضمت إليها الوحدات الزنجية في جيش الدولة في كل موطن التقى فيه الجيشان!.. حتى سميت «ثورة الزنج»، واشتهرت بهذا الاسم في مصادر التاريخ. وفي عشرات المعارك التي وقعت بين الدولة العباسية وبين ثورة الزنج، كان النصر، غالباً، للثورة على الدولة.. وتأسست، كثمرة لهذه الانتصارات، للثورة دولة، قامت فيها سلطتها وطبقت بها أهدافها ونفذ فيها سلطان علي بن محمد.. وقد بلغت دولة الثورة هذه درجة من القوة فاقت بها كل ما عرفته الخلافة العباسية قبلها من أخطار وثورات.. وقال المؤرخون، الذين كانت الدنيا عندهم هي الإمبراطورية العباسية، إن الزنج قد «اقتسموا الدنيا..! واجتمع إليهم من الناس ما لا ينتهي العد والحصر إليه!» وكان عمال الدولة الثائرة يجمعون لعلي بن محمد الخراج «على عادة السلطان!» حتى لقد «خيف على ملك بني العباس أن يذهب وينقرض»! وقد استمرت الحرب بين دولة الثورة هذه وبين الخلافة العباسية لأكثر من 20 عاماً بلغ العنف فيها، من الجانبين، حداً لم يسبق له مثيل، حتى ليقول المؤرخون الذين يتواضعون بأرقام القتلى في هذا الصراع إنهم بلغوا نصف مليون قتيل! وقد ألقت الخلافة العباسية بكل ثقلها في المعركة ضد الثورة، وكرست كل إمكاناتها للجيش والقتال، وبعد أن عهد الخليفة المعتمد (256 - 279 ه 870-892 م)، بالقيادة إلى أخيه الموفق. تحول قائد الجيش إلى خليفة حقيقي وتحولت المدينة التي بناها عاصمة للثوار، والتي سماها «الموفقية»، إلى العاصمة الحقيقية للدولة، يأتي إلى بيت مالها كل خراج البلاد وتصدر منها الأوامر إلى كل الولاة والعمال بأن يقدموا للجيش كل ما لديهم من إمكانيات، حتى لقد حاول «المعتمد» الفرار من سامراء إلى مصر، فألقوا القبض عليه وأعادوه إلى قصر الخلافة شبه سجين!.. وقد رجحت كفة الجيش العباسي بفضل ما احتشد له من فرسان وسفن وعتاد.. فأحرز عدداً من الانتصارات على جيش الزنج وبدأ حصاراً لعاصمتهم، استمر أربع سنوات!.. وكانت مصر قد استقلت عن الخلافة تحت حكم أحمد بن طولون (220 - 270 ه 835 - 884 م) وكان لها جيش قوي في الشام يقوده لؤلؤ، غلام ابن طولون، فخان سيده وانضم إلى جيش الدولة، المحتشد لقتال الثوار، وعند ذلك، تمكن الموفق من اقتحام «المختارة»، عاصمة الزنج وهزم الثورة، التي بدأت سنة 249 ه وظلت قائمة تقاوم حتى أول غشت سنة 883 م.. فكانت أطول ثورات العصر العباسي وأخطرها...