كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكنْ لم تتمخض عن كل الثورات لحظاتٌ كبرى.. وأغلب الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون معنى الثورة.. لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط ويستند إلى نظرية.. إنها ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد طغاة... حدث هذا منذ غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعةٌ مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل لم يترك صدى، ومنها ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس، في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا ب«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية»، المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق... ما يزال التأريخ للثورة الجزائرية مشكلة في الخطاب السياسي المعاصر، بسبب طول المدة التي استغرقها استعمار فرنسا للجزائر ثم لسبب مهم آخر هو أن حكام الجزائر اليوم ما زالوا يستندون إلى هذه الثورة أو ما يعتقدونه التاريخ الحقيقي للثورة، لذلك من الطبيعي أن تتعدد الروايات، حسب انتماء الراوي: إلى السلطة أو إلى المعارضة، وما زاد من حساسية الموقف هو أن العسكر، الذي «ورث» البلاد من التسعينيات، عمل على توظيف بعض مفاهيم الثورة في مسلكيات بعيدة عن مصالح الشعب الجزائري، مثل الحديث عن «مغرب الشعوب»، وهو غطاء لتبرير الطمع في أراضي المغرب الجنوبية، بل وعمل العسكر على تنصيب أنفسهم مدافعين عن حقوق الشعوب في التحرر، مع أن الواقع الفعلي للجزائريين يظهر أن الثورة التي خاضها آباؤهم سرقها العسكر و«أهدوها» تحت الطاولة ل»قوى» غير جزائرية تحت مسمى «حق تقرير المصير للشعوب». فكما هو معلوم، حاول الفرنسيون جعل الجزائر مقاطعة مكملة لمقاطعات فرنسا (الأم). نزح أكثر من مليون مستوطن (فرنسيون، إيطاليون، إسبان...) من الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط لفلاحة السهل الساحلي الجزائري واحتلّوا الأجزاء المهمة من مدن الجزائر. اعتبرت فرنسا كل المواطنين ذوي الأصول الأوربية (اليهود أيضا) مواطنين فرنسيين (كما في فرنسا الأم)، لهم حق في التمثيل في البرلمان، بينما أخضع السكان العرب والأمازيغ المحليون (عُرفوا باسم «الأهالي») لنظام تفرقة عنصرية. في سنة 1954، أعلنت جبهة التحرير الوطنية (FLN) بدْءَ الثورة الجزائرية. ونظرا إلى طبيعة البلاد والقوة المستعمرة، طبق قادة الجبهة تكتيك حرب العصابات ضد القوة المحتلة. بعد أكثر من 7 سنوات من المعارك والحروب في الحواضر والأرياف وتقديم مليون ونصف المليون من الشهداء (وخمسة ملايين من الشهداء منذ بدء الاستعمار سنة 1830 حتى اندلاع ثورة التحرير) فنجح الثوار في إخراج الفرنسيين من البلاد واستقلت الجزائر سنة 1962. لقد تمادت السلطات الفرنسية في جرائمها وزادت في طغيانها، حتى فشل معها كل حل سلمي. وجاءت انقسامات الحركة الديمقراطية لأنصار الحرية. فتشكلت لجنة جديدة لإشعال الثورة، مؤلفة من تسعة أشخاص، برئاسة محمد بوضياف، وهؤلاء الأعضاء هم: محمد خيضر من مدينة الجزائر، حسين آيت أحمد من جبال القبائل وأحمد بن بلة، من الحدود مع المغرب. سافر هؤلاء الثلاثة خارج البلاد لتوحيد العمل الثوري ضد المحتل الفرنسي ولتلقي الدعم المناسب من الدول العربية الأخرى. أما الستة الباقون فهم: مصطفى بن بولعيد، من جبال الأوراس، محمد العربي بن مهيدي، من وهران، رابح بيطاط، من منطقة قسنطينة، محمد بوضياف، من مسيلة، مراد ديدوش من الجزائر العاصمة، وكريم بلقاسم، من منطقة القبائل. قام هؤلاء بتشكيل «جبهة التحرير الوطني الجزائرية»، وكلف محمد بوضياف بمهمة القيام بالتنظيم. أما جماعة مصالي الحاج فقد رفضوا التأييد، إذ كانوا لا يقبلون أي عمل لا يكون على رأسه مصالي الحاج ولا يتلقون أمراً إلا منه. أما جماعة الاتحاد الديمقراطي لأنصار البيان (جماعة فرحات عباس) فقد وافقوا على الانضمام إلى العمل الجديد مع الجبهة. واجتمع أعضاء الجبهة يوم 10 أكتوبر 1954 في «وادي الصومام» لتحديد موعد انطلاق الثورة، وقسمت البلاد إلى ولايات وعين لكل ولاية مسؤول عسكري وبدأت العمليات الثورية في فاتح نونبر 1954، بعد أن غير المجلس اسمه إلى «جيش جبهة التحرير الوطني». انطلقت الثورة من جبال «الأوراس» وامتدت إلى منطقة قسنطينة ومنطقة القبائل وشملت منطقة الحدود المغربية، غربي وهران. ومع نهاية عام 1956، كان جيش التحرير قد انتشر في جميع أنحاء الجزائر. وقد أصدرت جبهة التحرير بيانها الأول، حددت فيه أهدافها ووسائلها، وكان هذا البيان شاملاً، حيث إن فرنسا ذعرت وأحست بالخطر فأرسلت نجدات سريعة لمساندة القوات الفرنسية الموجودة على أرض الجزائر. بعد ذلك، انضمت جمعية العلماء المسلمين (التي أسسها وترأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس ثم خلفه بعد وفاته الشيخ محمد البشير الإبراهيمي) إلى جبهة التحرير الوطني في عام 1956. حيث أصبحت تضم جميع الاتجاهات باستثناء حركة مصالي الحاج. وفي 20 غشت من نفس السنة، انعقد مؤتمر سري للجبهة في منطقة القبائل، انتخب لجنة مركزية ومجلسا وطنياً للثورة. في بداية الثورة، كانت فرنسا مقتنعة أن الدعم الخارجي كان سند الثورة الأول، لذلك فقد أرسلت وزير خارجيتها إلى القاهرة واجتمع مع جمال عبد الناصر ليقنعه بسحب تأييده للثورة، لكن المهمة فشلت، فلجأ غي مولي، رئيس الحكومة الفرنسية إلى التواطؤ مع إسرائيل وبريطانيا في الاعتداء الثلاثي على مصر عام 1956. غير أن الهجوم لم يغير من موقف عبد الناصر ولم تتوقف العمليات الثورية الجزائرية، بل قوّت من مركز جبهة التحرير، إذ نالت مزيداً من الدعم، وخاصة من الدول حديثة الاستقلال. وبين شتنبر 1956 ويونيو 1957، شنت الجبهة سلسلة هجمات قوية أوقعت بصفوف الاحتلال خسائر فادحة، فكان الرد الفرنسي مزيداً من القتل والتشريد والسجن، مما أثار الاستنكار في فرنسا وفي العالم أجمع. اجتمع قادة جبهة التحرير الوطني في المغرب في 5 دجنبر عام 1957، غير أنهم، وفي طريق عودتهم إلى تونس، حط بهم الطيار الفرنسي في الجزائر، فألقي عليهم القبض وزُجّ بهم في السجن في فرنسا، وهؤلاء القادة هم: رابح بيطاط ومحمد بوضياف وأحمد بن بلة وحسين آيت أحمد. إلا أن هذا الاعتقال وقصف الفرنسيين لقرية «ساقية سيدي يوسف» في تونس، والذي أسفر عن مقتل 79 شخصاً، لم يؤثر على تحركات الجبهة ونشاطها، بل زادها تصميماً على المضي في طريق التحرير. وهكذا وجدت فرنسا نفسها مضطرة للتفاوض مع جبهة التحرير الوطني، وهذا ما أثار المستوطنين الفرنسيين في الجزائر، الذين تمرّدوا في 13 ماي 1958 وشكلوا لجناً عسكرية للأمن، و«بارك» الجيش الفرنسي تحركهم، فاستغل المستوطنون خوف الحكومة الفرنسية من اندلاع حرب أهلية في فرنسا وأطاحوا بالجمهورية الرابعة وأعادوا الجنرال شارل ديغول إلى الحكم، آملين أن يحقق لهم مطلبهم بدمج الجزائر في فرنسا. ومع أن ديغول عزّز العمل العسكري، فإن ذلك لم يؤد إلا إلى مزيد من أعمال الإرهاب في الجزائر والتوتر على الحدود مع المغرب وتونس. ردّت جبهة التحرير في عام 1958 بإنشاء «الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية»، برئاسة فرحات عباس وعضوية القادة المخطوفين. وفي ذلك الوقت، بدأ ديغول يميل إلى الاعتراف بقوة الجبهة والقبول بمطالبها. وبدأت المحادثات السرية الأولى بين الفرنسيين والجزائريين قرب باريس في صيف 1960، غير أنها انتهت بالفشل. وفي فبراير 1961، أجرت حكومة فرنسا اتصالات جديدة مع جبهة التحرير عبر رئيس تونس وأدت إلى بدء محادثات جديدة في «إيفيان»، على الحدود الفرنسية -السويسرية. غير أن هذه المفاوضات فشلت، أيضاً، بسبب موضوع الصحراء. في تلك الأثناء، كان المستوطنون قد شكّلوا مع بقايا الجيش الفرنسي «منظمة الجيش السري»، المعارضة للمفاوضات، وكان على رأسهم كبار ضباط الجيش الفرنسي، أمثال سالان وزيلر. وراح هذا الجيش يشُنّ عمليات هجومية على الجزائريين. ثم استأنفت المفاوضات في دجنبر 1961، وانتقلت، في يناير 1962، إلى جنيف وروما. وقد شارك فيها القادة المعتقَلون، بعدما أصرّتْ الجبهة على أن يكونوا هم الوفد المفاوض. وقد أسفرت المرحلة الأخيرة من المفاوضات، التي جرت في «إيفيان» عن التوقيع، في 19 مارس1962 ، على اتفاقية وقف إطلاق النار، مع إعلان استقلال دولة جزائرية مستقلة بعد فترة انتقالية وعلى صيانة حقوق الأفراد وحرياتهم. واستناداً إلى هذه الاتفاقية، تشكلت حكومة مؤقتة في 28 مارس 1962، برئاسة عبد الرحمن فارس، وتم إطلاق سراح بن بلة ورفاقه. وقد اعترف الاتحاد السوفياتي ودول أوربا الشرقية والعديد من دول آسيا وإفريقيا بهذه الحكومة. وقد قامت «منظمة الجيش السري» بالرد على هذه الاتفاقية بشن العديد من الهجمات ضد السكان والوطنيين الجزائريين ودمرت عدة أماكن عامة بهدف خرق وقف إطلاق النار. إلا أن جميع هذه الأعمال قد باءت بالفشل. ووقع الجنرال سالان، قائد المتمردين، في الأسر. وتجددت العمليات الفدائية من جديد. وأدى كل هذا إلى ازدياد عدد الفرنسيين الذين شرعوا في مغادرة الجزائر. ومع حلول شهر يونيو 1962، كان أكثر من نصف الأوربيين قد غادروا البلاد. وفي استفتاء عامّ جرى في فاتح يوليوز، اقترع 91 % من الجزائريين للاستقلال، وفي الثالث من الشهر نفسه، أعلن الجنرال ديغول انسحاب فرنسا من الجزائر، بعد استعمار دام أكثر من 130 عاماً.