كل اللحظات الكبرى في تاريخ البشرية خلقتها ثورات، لكنْ لم تتمخض عن كل الثورات لحظاتٌ كبرى.. وأغلب الثورات بدأت بشرارة أوقدها أناس بعضهم لا يعرفون معنى الثورة.. لكنْ لم تكنْ كل الثورات عفوية، إذ منها ما كان حصيلة تأطير وتخطيط ويستند إلى نظرية.. إنها ثورات أفراد ضد جماعات وثورات جماعات ضد مجتمعات وثورات مجتمعات ضد أقليات، مستضعَفين ضد طغاة... حدث هذا منذ غابر الأزمان وما يزال يتكرر اليوم في أزمنة وأمكنة غير متشابهة وتكاد تكون متناقضة، منها ما كان فاتحة تاريخ جديد، حيث ما بعدها قطيعةٌ مع ما قبلها، ومنها ما كان وظل خارج منطق التاريخ، مر كوقع الزر على الرمل لم يترك صدى، ومنها ما كان دمويا وعنيفا وقاسيا، ومنها أيضا ما كان سلسا وسلميا وهادئا، فمن «ثورة العبيد» على الإمبراطورية الرومانية، بزعامة سبارتاكيس، في القرن الأول قبل الميلاد، و«ثورة الزنوج» على خلفاء بني العباس، مرورا ب«ثورات الأحرار» في عصر الأنوار، وصولا إلى «الثورات الرقمية»، المعاصرة، التي «يكتبها» الشباب العربي اليوم، تتعدد أساليب الثورة والمنطق واحد: الرغبة في إرساء واقع جديد، الرغبة في التحرر والانعتاق... قليلون يعرفون تأثير الثورة الأمريكية في الثورة الفرنسية. صحيح أن فلاسفة الأنوار الفرنسيين هم الآباء الإيديولوجيون للثورة الأمريكية، لكن الأخيرة أعطت الدليل الواقعي على إمكانية أن يعيش الإنسان «حالة التعاقد» أو «الحالة المدنية»، التي تكلم عنها روسو وديدرو ومونتسكيو وفولتير، وعندما بدأت تتقاطر أخبار نجاح ثورة من وراء البحار، عرف الإنسان الفرنسي أن النظام المطلق شارف على نهايته. إنه «العالَم الجديد» يُعلّم «العالَم القديم». لذلك ليس مصادفة أن تكون الدولة الأقوى في العالم اليوم هي نفسها الدولة التي سجلت أولى الثورات في تاريخ الإنسان الحديث، ومخطئ من لا يرى العلية بين الماضي والحاضر هنا، فالشعب الذي بدأ مسار التحديث السياسي والدستوري سنة 1775 سيكون السبّاقَ في هذا المسار عن شعوب بدأت للتو أو ما تزال تتعثر في البدايات. الثورة الأمريكية (1775-1783م) هي الثورة التي قامت ضد بريطانيا وأدت إلى ميلاد دولة جديدة باسم الولاياتالمتحدة، فقد كان النفوذ البريطاني في أمريكا الشمالية في أوجِهِ قبل الثورة الأمريكية بسنوات قليلة، إذ تغلبت بريطانيا في حربها مع الفرنسيين والهنود، وكانت المعاهدة التي أنهت الحرب قد ضمنت لبريطانيا معظمَ الأراضي التي كانت بيد الفرنسيين في أمريكا الشمالية، التي كانت تمتد من جبال «الأباش»، في الشرق، إلى نهر «المسيسيبي»، ومن ضمنها رقعة واسعة في كندا. كان معظم أهل المستعمرات الأمريكيين يفخرون بانتمائهم إلى الإمبراطورية البريطانية، في وقت كانت تُعتبر أقوى الإمبراطوريات في العالم.. كان من حق المستعمرات أن تنتخب ممثليها لجمعية تشريعية تقوم بسن القوانين وفرض الضرائب، ولكن حاكم المستعمرة كان له حق نقض أي من تلك القوانين وكانت بريطانيا تأمل من المستعمرات الأمريكية أن تخدم مصالحها الاقتصادية، وقد رضيت المستعمرات بذلك بصورة عامة، والمثال على ذلك أنها امتنعت عن صنع المواد والسلع المنافسة لمثيلاتها البريطانية. اندلعت الحرب بين بريطانيا والولايات (13 ولاية)، الممتدة على الساحل الأطلسي في أمريكا الشمالية، في 19 أبريل 1775 عندما اصطدم البريطانيون بالثوار الأمريكيين في مدينتي لكسنجتون وكونكورد في ماساشوسيتس واستمرت ثمان سنوات وانتهت في 3 شتنبر 1783، عند توقيع معاهدة باريس بين بريطانيا والولاياتالمتحدة، التي اعترفت فيها بريطانيا باستقلال الولاياتالمتحدة. وقعت «مذبحة بوسطن» في 5 مارس عام 1770، عندما أطلق جنود بريطانيون النار على بعض الأمريكيين وقتلوا خمسة منهم فقط، لكن الدعاية الوطنية التي قام بإطلاقها الفنان بول ريفير لإثبات الحدث وسماها «مذبحة بوسطن» ساهمت في تحريض المستوطنين ضد الحكم البريطاني. وهنا يمكن تمييز عاملين أساسيين لاشتعال الثورة الأمريكية أو ما أطلق عليه اسم «حرب الاستقلال»، الأول هو العامل الفكري، المتمثل في دور دعاة الحرية، وقد وردت هذه الأفكار على يد مجموعة مؤثرة من المفكرين الأوربيين، من أمثال جون لوك ومونتسكيو وفولتير وروسو وغيرهم، الذين وضعوا اللبنات الأولى للدولة الحديثة الراعية لحقوق الإنسان، وكان لأفكارهم التأثير العميق على المفاهيم السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة في الأوساط الشعبية، خصوصا أن عدداً من هؤلاء المتأثرين بهذه الأفكار وجدوا في الأرض الأمريكية، مترامية الأطراف والغنية بالموارد والبعيدة عن السلطات المركزية القوية للأوربيين، مكانا مثاليا لتطبيق أفكارهم وطموحاتهم، السياسية والفكرية، فضلاً على طموحاتهم المادية، بعيداً عن الاضطهاد الديني والسياسي، الذي شهدته أوربا في تلك المرحلة من التاريخ. ومع أن المرحلة الأولى لتأسيس المستعمرات كانت مرتبطة بالتاج البريطاني، بشكل أو بآخر، فإنه ومع بداية النصف الثاني من القرن ال18، تطور موقف المستوطنين، الذين خرجوا، أصلا، من أوربا هرباً من الاضطهاد وبحثاً عن الحرية الفكرية والتجارية، ليولد شعور عميق لديهم بعدم أحقية المملكة البريطانية في فرض سياساتها على أبناء الولاياتالأمريكية، لاسيما الضرائب المالية والتجارية، الأمر الذي أخذ أبعاداً أخرى عندما لم يكتف المستوطنون بالإعلان عن تذمرهم وإنما بدؤوا «يقاومون» تلك السياسات ويرفضون الانصياع لها، خاصة في ما يتعلق بفرض الضرائب على السلع، مما هيأ الظروف والأجواء لانطلاق الثورة الأمريكية.. وهذا هو العامل الثاني... وبعيداً عن تفاصيل وأحداث الحرب التي أسهبت المصادر في تناولها، فإنه تبرز أمامنا عدة ملامح مميزة ل»حرب الاستقلال»، من أهمها وجود جورج واشنطن على رأس الجيش الأمريكي حديث التشكيل، والذي يواجه إمبراطورية كبيرة هي انجلترا، ذات الجيش القوي والكبير. وقد قام واشنطن بدور محوري وأساسي في مراحل «حرب الاستقلال» وفي المراحل اللاحقة لها، حتى وفاته، إذ كان لشخصيته وخبراته العسكرية والسياسية أثر في انتصار الثورة وتأسيس الدولة الأمريكية في ما بعد. كان للانتصارات التي حققها واشنطن في الحرب، لاسيما في عام 1776، الأثر الفعال في رفع معنويات الأمريكيين ودفعهم إلى الاستمرار في حربهم ضد القوات البريطانية، ثم جاءت المشاركة الفرنسية، التي جاءت ل»الانتقام» من هزيمة فرنسا في «حرب السنوات السبع»، والتي بلغت ذروتَها عام 1781، لتعطي دفعة إضافية في اتجاه هزيمة بريطانيا واعترافها باستقلال الولاياتالأمريكية، من خلال معاهدة «فرساي» في 20 يناير 1783. منذ نجاح الثورة الأمريكية، توالى وصول المهاجرين الإنجليز، بشكل أساسي، والمهاجرين الأوربيين، بشكل عامّ، إلى أمريكا. وقد تضافرت عدة عوامل لدفع حركة الهجرة وتنميتها، مثل الضيق الاقتصادي والاستبداد السياسي والاضطهاد الديني. كما شجع القضاة والقائمون على شؤون السجن المذنبين على الهجرة إلى أمريكا، بدل قضاء مدة العقوبة في السجن. وهكذا، نشأ في المستعمرات مجتمع جديد يرتبط بالولاء للوطن -الأم إنجلترا، ولكنه يتمتع، في الوقت نفسه، بحرية سياسية لا مثيل لها في أي مكان في الأرض في القرنين ال17 وال18، حيث إن سكان هذه المستعمَرات كانوا يحملون معهم أفكار البريطانيين الأحرار، كما كانت لهم مجالسهم النيابية المنتخَبة، التي تضع القوانين وتفرض الضرائب وتحدد الاعتمادات المالية وتسيطر على الخزينة. ورغم تنوُّع الأصول التي تحدَّر منها شعب المستعمرات الأمريكية، فإن اللغة والثقافة والنظم الإنجليزية ظلت هي السائدة، ذلك أن المهاجرين الجدد كانوا يختلطون بالوافدين الإنجليز الأوائل ويتخذون لغتهم ويعتنقون وجهات نظرهم، ونتج عن هذا الاندماج ظهور شعب جديد هو الشعب الأمريكي، الذي أخذ يتميز، بالتدريج، عن الشعوب الأوربية، التي ينتمي إليها.. وهكذا، ظهرت إلى الوجود دولة جديدة أخذت في النمو والاتساع، حتى أصبحت بعد الحرب العلمية الثانية، القوة العظمى في العالم، وكان من أهم القضايا التي واجهت الدولةَ الوليدة تحديد شكل الحكم وحقوق المواطنين وواجباتهم والروابط التي تربط الولايات بالدولة وبالولايات الأخرى. وفي ماي عام 1787، اجتمع مندوبون عن الولايات لإقرار دستور للبلاد واختير جورج واشنطن، بالإجماع، ليكون رئيسا للدولة.