الإيديولوجيا، بالمعنى الأصلي، اللغوي، هي البحث في منشأ الأفكار، والثورة هي انقلاب على هذه الأفكار وعلى مختلف تجسيداتها في الواقع، انقلاب على الأشخاص والمؤسسات وعلى مختلف الرموز التي ترسخ هذه الأفكار أو تدافع عن مشروعيتها، فالثورة ثورات والإيديولوجيا إيديولوجيات، تموت الإيديولوجيات وتفسد مآلاتها بتغير المعطيات الواقعية التي عكستها، بلغة ماركس، لكن الثورات تجدد نفسها، كما يجدد النهر مياهه كل وقت وحين، لأنها، ببساطة، تجسد الإنسان في طبيعته الأولى، وهو يحن إلى الخلاص. لقد قيل وكُتب الكثير عن مفهوم الثورة هذا وصرفت ثروات طائلة في منتديات ومنشورات يدعي أصحابها أنهم وجدوا سبيلا إلى الثورات، لينتظر العرب عقودا طويلة بين رومانسية الشعارات الثورية وطغيان من نصّبوا أنفسهم حراسا لمعابدها «المقدسة»، لتندلع شرارتها الأولى على يد بائع متجول وليس على يد حزب طليعي أو نخبة طليعية، ولم تكن علتها بسبب «حتمية» إيديولوجيا، واقعية كانت أو طواباوية، بل بسبب بسيط هو الاحتجاج على مصادرة عربة لبيع الخضر.. إنه تاريخ جديد يُكتَب، تاريخ نحن شهوده ومنا شهداؤه.. فلا قصائد مظفر النواب وسميح القاسم ولا أغاني مارسيل خليفة والشيخ إمام استطاعت أن تخلق لدى الإنسان العربي حافزا للثورة، لذلك تفتح «المساء» ملف الثورات في زمن موت الإيديولوجيات، لأنه حديث الساعة، ولأن ما سيأتي بعده سيغيرنا، إلى الأبد، فإذا كان ماركس ولينين وماو وتشي غيفارا ولومومبا وعبد الناصر والخميني قد ماتوا مرتين، عندما أصبحت مقولاتهم في حل مما يجري اليوم، فإن جذوة الثورات في الشعوب لم تمت.. هو ملف نلتفت فيه إلى ما يجري في العالم العربي اليوم، نقرؤه ونستنطق أبعاده وتأثيراته، فما يجري أكبرُ من أن تستوعبه فكرة أو حزب أو إيديولوجيا، إنه طوفان يجمع المتناقضات من أطرافها، الافتراضي والواقعي، الفردي والجماعي، الإقليمي والدولي، ويحمل معه أحلام وأمال الجميع..
يمكن القول إن مفهوم الثورة، عموما، مفهوم زئبقي بامتياز يصعب القبض عليه، فهو لا ينتمي إلى ما يسميه المنظرون، مثل ألتوسير، «المفاهيم القوية» (Les concepts forts)، كما أن علاقته بالظروف والشروط التاريخية التي يتحقق فيها كحدث تاريخي تحوله إلى مفهوم متعدد الدلالات، متلون بألوان اللحظات والحقب التي أفرزته وبالثقافات السياسية للشعوب والجماعات البشرية التي أنجزته، لذا ينبغي الحديث عن مفاهيم عديدة للثورات، عوض الحديث عن مفهوم واحد، علما أن نظريات العلوم السياسية كثيرا ما تفادت الخوض فيه ومعالجته نظريا، بحكم الالتباسات العديدة التي طالته. تُنجَز الثورة كمفهوم وكحدث هنا والآن، في لحظة زمنية فارقة وداخل عقدة تناقضات متأزمة على كل الأصعدة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. إنها أشبه ما يكون بشرخ يحدث في الزمان والمكان، فيصير له أول يسبقه وما بعدُ يليه، قد يمتد هذا الشرخ في سيرورة زمنية طويلة وصامتة أحيانا كثيرة، هي السيرورة المتعلقة بنضج الشروط والمعطيات المؤدية إلى انبجاسه، لكنه يحدث في برهة زمنية محدودة، يشتعل كحدث تاريخي، اشتعال النار في الهشيم، ليحرق كل شيء من حوله، أي كل سمات الواقع السياسي المأزوم والمحجوز الذي ثار ضده الناس أو الشعب أو الحشد الهلامي الغُفْل، لأن القوى الاجتماعية المحركة للثورات غالبا ما تكون متعددة ومخترقة بتناقضاتها وتنويعاتها. الثورة وتأثيرها في التاريخ والغريب أن هذه السيرورة المنبجسة تؤثر أحيانا كثيرة في مسارات تاريخية طويلة في الزمان وواسعة في المكان وتتحول من مجرد حدث يوقف حركية التاريخ إلى حدث ينتج التاريخ هو ذاته، أي يؤرخ للأحداث انطلاقا منه، تماما كما حدث مع كل الثورات التي أثثت التاريخ البشري، منذ الثورة الفرنسية وحتى الثورة الإيرانية في نهاية سبعينيات القرن الأخير، مرورا بأخرى عديدة. يقودنا هذا إلى القول ضرورة إن الثورات هي، أولا وأخيرا، أحداث تاريخية، مثل الغزوات والحروب والاحتلالات وغيرها. يؤكد الكثير من الفلاسفة والدارسين، ومن ضمنهم كانْط، أن الثورات لا تدوم إلا لحظة اشتعالها، أي أنها في الغالب الأعم تكون حدثا لا غد له، سواء بالنسبة إلى الفعَلة التاريخيين فيه أو إلى منظريه وقادته، ومسألة انعدام الغد هذه لا تقاس بالزمان أو بالعقود المتتالية، بل بمدى قدرة الثورة على الحفاظ على زخمها القوي ونفَسها المُلهِم ومحتواها التغييري المتجدد. هناك من الفلاسفة من يرفضون الثورة رفضا تاما ويعتبرونها نوعا من الخراب الذي يصيب البنية الاجتماعية والسياسية ويهدد أسس الدولة وكيانها، وهو ما ذهب إليه سبينوزا حين أدان في كتابه «رسالة في السياسة»، القلاقل والانتفاضات ووقائع الشقاق والانفصال، بمختلف أنواعها. بهذا المعنى، يتم الحديث عن الثورات التي تأكل أبناءها أو تتم خيانة مبادئها وتوجهاتها من طرف قادتها والفعَلة الأساسيين فيها، كما حدث في الثورة الفرنسية، التي شهدت قطع أعناق البعض من زعمائها وخطبائها، مثل دانتون وروبسبيير وغيرهما، والثورة الإيرانية، التي سرعان ما انقلب فيها رجال الدين من «الملالي»، بزعامة الخميني، على حلفاء الأمس من اليساريين والليبراليين، ليُعدَم البعض ويفر آخرون خارج البلاد، إضافة إلى أمثلة عديدة أخرى. ضمن هذا السياق أيضا، رأينا كيف أن الثورة الروسية سنة 7191 سرعان ما أفرزت، بعد وفاة لينين، مُنظّرِها وقائدها الأساسي، نظاما إجراميا بزعامة ستالين، نصب المشانق لرفاق الأمس ونظم محاكمات موسكو الشهيرة، ونفى إلى «الغولاغ» العديد من الثوريين والمنشقين. معنى هذا أن الثورة لا يخوضها بالضرورة أشخاص شبيهون بالملائكة ولا تكون، من حيث هي حدث تاريخي، بريئة إلا لحظة اشتعالها وانبجاسها، أما بعد فإنها تلج حيزا مبهما ومناطق غامضة من التحالفات والتسويات والتراجعات التي تقودها حتما إلى الجمود والتحجر داخل نظام سياسي جامد يحكمه زعيم وحزب واحد، وبعدها إلى الانهيار والانمحاء، حيث لا يبقى لها وجود كواقع سياسي وتظل مجرد موضوعة مذكورة في كتب التاريخ، كما حدث مع الثورة الروسية، التي انهارت تحت وطأة سياسة الشفافية، التي أعلنها غورباتشوف، بعد أكثر من ستة عقود على اندلاعها. يقودنا هذا، بالضرورة، إلى الحديث عن مسألة العلاقة بين الثورة والشرعية. كثيرا ما تنحو الثورات، عموما، منحى الحفاظ على ما تسميه «الشرعية الثورية»، التي تتمأسس في جهاز دولة ونظام سياسي لا وجود لخيارات أخرى خارجه، وهي الشرعية التي تتآكل بفعل عوامل التعرية التاريخية والتغييرات الطارئة والسريعة التي تطال العالم. باسم هذه «الشرعية الثورية»، المفترى عليه، مارست أنظمة سياسية فاشية واستبدادية جرائمَ مهولة ضد شعوبها وضيّقت الخناق على الجماعات البشرية وعلى الأقليات العرقية والثقافية، إذ كيف يمكن إضفاء الشرعية لأمد طويل على شيء غامض أساساً كالثورة، إذ لم يتم بعد ذلك التفكير في تدعيمها بشرعية ديمقراطية، تتمثل في بناء مؤسسات مدنية منتخَبة ديمقراطيا وذات تمثيلية حقيقية للحشود من الناس الذين خيضت هذه الثورة باسمهم... إن التفكير في الشرعية الديمقراطية وتأسيسها، بشكل ملموس، هو بناء لمستقبل الثورات بناء إيجابيا وفعالا يهم الكل ويكون لصالحه، أما الاكتفاء بالشرعية الثورية، كما فعلت العديد من الثورات، فيدخل في باب خداع النفس، السياسي والتاريخي، حيث يتحول ثوار الأمس إلى مستبدي اليوم ولا يبقى متألقا من الثورة، كما حدث مع الكوبية مثلا، غير «أيقونة» غيفارا، مرسومة على قمصان شباب اليوم، غيفارا، الذي تخلى عن النظام السياسي وذهب إلى أعالي بوليفيا، باحثا عن نجمة القطب الوحيدة التي أضاءت وجوده، أي عن «يوتوبيا» الثورة، قبل أن يُغتال أعزلا ومنهَكَ القوى... الثورة كبديل للواقع لا تستمد الثورة شرعيتها، بالضرورة، من حدث انبجاسها واشتعالها، بل من قدرتها على الاستمرارية كبديل يضيء وجود الناس في حياتهم اليومية ويتماهى مع رغباتهم ودوافعهم، سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو حضارية، ويدعم حرياتهم، الفردية والجماعية، ويضمن حقوقهم. لكن المشكل المطروح هو أن الثورات، عموما، منذورة للخيانة، لأن الناس الذين يتظاهرون في الشوارع والميادين العامة هم أول من يتم تجاوزهم، حين تكتمل الثورة، لأن الثورة المضادة، كما ترى المؤرخة الفرنسية سيلفي أبريل، تتكيف مع بعض الطالب السياسية وتتبناها، لتحولها إلى أدوات لممارسة سلطتها. ليس من قبيل التشاؤم أبدا القول إن الثورات لا مستقبل لها، ولكن قولا كهذا لا يعني، بالضرورة، «إفلاس» مفهوم «الثورة» أو تجاوزه، لأنه محرك من محركات التاريخ الأساسية. عوض الحديث عن أسباب الثورات، ينبغي الحديث تحديدا عن الشروط الناضجة لانفجارها، ومن ضمنها الرغبة الجماعية العارمة في تجاوز حاجز الخوف والإحساس بالعار الذي يكبل الكل، ناهيك عن الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تطال الحياة اليومية للناس. إن الأنظمة السياسية التي تُشيّد ممارستها الاستبدادية على إشاعة الخوف والخنوع بين الناس غالبا ما تمارس نفوذها وسلطتها إلى حين، لكنها تنهار بعد ذلك بمجرد أن يكتشف الكل بأن الإحساس بالخوف مرتبط بمتخيل الخضوع الذي يكبل أرواحهم ويجعلهم عاجزين عن ممارسة الحرية، غارقين حتى النخاع في إيجاد تبريرات واهية لعبوديتهم. يكتشف الناس حينها، أيضا، أن الشرعية تتعلق بطبيعة الشروط السياسية التي تخلقها، إذ كما أن الثورة تؤسس عبر حدث انبثاقها بالذات لشرعيتها، فإن الأنظمة الاستبدادية تؤسس لشرعيتها عبر ممارسة سياسة قامعة للحريات، كيفما كانت. معنى هذا أن الشرعية ليست معطى جاهزاً بل هي سيرورة تبنى شيئا فشيئا، عبر الخطابات والأحداث والممارسات، وأنها متنوعة بتنوع السلط أو الممارسات السياسية التي تستند إليها، وهذه النقطة المرتبطة بالشرعية بالذات هي ما عكف المحترفون الثوريون على إنتاجه وتدعيمه، عبر تنظيراتهم وكتاباتهم الإيديولوجية. خيضت أغلب الثورات، بدءا من الروسية وحتى حدود الإيرانية، انطلاقا من التنظيرات الإيديولوجية التي أنتجتها قادتها والفعلة الأساس فيها، وتكفي هنا العودة إلى مؤلفات لينين وتروتسكي أو إلى كتابات منظري الثورة الفرنسية أو إلى ما خص به الخميني الثورة الإسلامية للتأكيد على ذلك، والنماذج في هذا السياق تربو عن الحصر. لكن انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين (9891)، جسدا معا، كحدثين هامين، انهيار الإيديولوجيات أو موتها تحديدا، لأن العوامل الإيديولوجية التي حركت الشعوب، مثل الاشتراكية والشيوعية وغيرهما، آلت إلى مآلات تاريخية كارثية، بحكم التطبيقات والتجسيدات السياسية التي قضت على الكثير من الجوانب الإيديولوجية الإيجابية، وذاك، بشكل من الأشكال، ما سماه فوكوياما حينها «نهاية التاريخ»، في مقاله الشهير، أي موت الإيديولوجيات الإنسانية نوعا ما، والتي أخفقت في الحفاظ على إنسانية الإنسان. لقد رامت الإيديولوجيات، حينها، إنتاج خطاب نظري متماسك لعقلنه الثورة، تحويلها من مجرد حدث طارئ إلى مبدأ يُستعمَل من طرف الكثيرين، منظرين ونخبا سياسية، لتفسير السيرورة التاريخية وتبريرها، باسم التقدم والتطور. إن إحدى السمات الدالة على موت الإيديولوجيا، باعتبارها القاعدة التي تُشيَّد عليها الثورات والتحولات التاريخية، هي أن أغلب الثورات في ثمانينيات القرن الماضي في أوربا الشرقية اشتعلت بدون خلفيات إيديولوجية، عدا المطالبة بالديمقراطية والحريات واحترام حقوق الإنسان، وكانت في الأغلب، منذ الثورة البولونية التي بدأت سنة 0891، سلمية وجماعية في طبيعة القوى الاجتماعية المحركة لها، وتعرضت للقمع أولا، قبل أن تنتصر في نهاية المطاف. وعوض الإيديولوجيات التي ماتت، يمكن الآن الحديث عن رغبات وإرادات وأفكار تحررية، تكون هي الخلفية الكامنة وراء الانتفاضات والثورات، أي محفزات على مقاس الإنسان المنخرط في حياته اليومية وصعوباتها، محفزات قد تبدأ من المطالبة بالخبو أو ب«العِيشْ» (باللهجة المصرية) وتنتهي بالمطالبة بالكرامة أو العكس. لقد كان دالا في ثورة «الياسمين» في تونس «منظر» ذلك الرجل العجوز ذي الشعر الأشيب وهو يبكي فرحا، بعدما تحقق حلم حياته بالثورة، مرددا: «لقد هرمنا، لقد هرمنا».. إذ ربما قضى ذلك الكهل حياته كلَّها لاهثا خلف يوتوبيا (utopie) قبل أن تتحقق. يطرح زمن موت الإيديولوجيا، دون شك، تحديات كبرى على الثورة، سواء كمفهوم أو كحدث ملموس. لم يعد الآن ضروريا أن تنطلق الثورات من خلفيات إيديولوجية إسمنتية صارمة، تنظر بالضرورة إلى الحزب الطليعي وإلى الطبقة التي يشكل وعيَها ويتكلم باسمها، أو طبيعة الدولة التي يخطط لبنائها انطلاقا من هذا الوعي الإيديولوجي بالذات. لقد رأينا كيف أن الشباب في تونس أو مصر يحملون شعارات مكتوبة بسيطة بل وساخرة أحيانا، ويرتدون «تي شورتات» تحمل صورة شي غيفارا، التي يرتديها الشباب عموما، سواء من عشاق موسيقى «الروك» أو «الميتال» أو غيرهما. معنى هذا أن الوسائط والحوامل الفكرية للثورة تغيرت، مع التغيرات التي طالت الحياة اليومية الاجتماعية للناس ونمط سلوكاتهم الفردية والجماعية وطبيعة ونوعية الأفكار التي يحملونها، بفضل تأثيرات العولمة والتنميط السلوكي الثقافي الكوني، إذ أصبح ممكنا الآن الحديث عن عولمة طرق الاحتجاج والتظاهر والثورة، تماما كما عولمة الموضة أو الأذواق والمعايير الجمالية والفكرية. إن عوامل «التعرية»، التي أفرزتها العولمة، لم تؤثر فقط في الحشود من الشباب «الفايسبوكيين» الذين خاضوا الثورة في تونس ومصر مثلا، بل أيضا في الأنظمة السياسية، التي طالها الجمود، بفعل التسلط والاستبداد، والتي ألفتْ نفسَها هشة نفسيا، سريعة العطب وغير قادرة على الاستمرار، للحفاظ على مصالحها. دور الإعلام في إعادة تشكيل الوعي لقد رأينا الدور الذي لعبته القنوات الفضائية ك«الجزيرة» مثلا، في إعادة تشكيل العالم العربي على المستوى الإعلامي والإخباري، لقد أعادت تشكيل العالم العربي كفضاء سياسي مشترَك، يلفي الفعَلة السياسيون الثوريون أنفسهم حاضرين داخله بشعارات وسلوكات ثورية موحَّدة. لم توحد هذا الفضاء الإيديولوجيات، كيفما كانت، وإنما وحدة الانتماء الجيو سياسي المشترَك. لم تعد الثورة الآن، أي من زمن الميتات المتعددة والبئيسة للإيديولوجيات، ممكنة انطلاقا من مرجعية إيديولوجية واحدية، لأن زمن المطالبة بالحريات الجماعية والفردية وحقوق الإنسان والديمقراطية، باعتبارها نمط تدبير عقلاني للصراع والتداول السياسيين، أنزل الثورة من سمائها الإيديولوجية المتعالية إلى أرض الواقع اليومي، بمطالبه واحتجاجاته المشروعة، ولم يعد ضروريا الوجود القبلي لمحترفين ثوريين إيديولوجيين، يقطفون «ثمار» الثورة، باعتبارهم مالكي شرعيتها الثورية ورأسمالها الرمزي. لم يعد المثقفون أيضا وسائط لنقل الوعي أو إنتاجه، أو الحديث باسم الجماعات والشعوب التي ينتمون إليها. لقد انتهى النموذج السارتري ولم تعد قضايا التمرد أو الثورة شأنا يهم المنظرين... بالقليل من الإمكانيات وبدون أسلحة ولا «زعماء»، استطاع شباب شبكات التواصل الاجتماعي جمع الآلاف في شوارع تونس وفي «ميدان التحرير» في مصر، لأن الأهم بالنسبة إلى الثورة في زمن الأنترنت هو التحكم في التواصل ونشر القضايا بسرعة وتعميمها على العدد الأكبر من مرتادي الشبكة العنكبوتية. لم تعد المقالات والكتابات النظرية في الجرائد والمجلات التي كانت سائدة في زمن السلطة المطلقة للإيديولوجيا هي الوسيط بين المثقفين الإيديولوجيين وعامة شرائح الشعب، بل شبكات التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك»، حيث يتم تعميم الأخبار والأفكار ب«سرعة الضوء». منذ اليوم، كما يرى المؤرخ الفرنسي هنري لورنس، يجب على كل نظام دكتاتوري أن يخشى «فايسبوك» أو «تويتر»...
الأفراد يكتشفون مواطنتهم ويتحملون مسؤوليتهم في التغيير لم تعد هناك حقيقة إيديولوجية واحدة للثورة، بل حقائق متعددة أعادتها إلى أرض الواقع. لم تعد الثورة مستحيلة، نظرا إلى تعدد المرجعيات والوسائط التي تسندها، لكن الاستحالة هنا لم تعد تطال الحدث، دون إغفال المعاناة والمآسي التي تطال الشعوب والجماعات البشرية قبل تحققه. صارت الثورة، في زمن من موت الإيديولوجيا، مسألة متعلقة بالشعب، في مجموعه، تماما كما هي متعلقة بكل فرد على حدة، يستطيع أن يواجه السلطة التي يعتبرها مستبدة وظالمة في حقه الإنساني في المجازفة بحياته. ذاك ما جسده بشكل ملموس الشخص الأعزل الذي وقف أمام دبابات السلطة في ساحة «تيانانمين» وجسده الشاب التونسي البوعزيزي وشباب ساحة التحرير في مصر... هناك لحظة حاسمة في الزمن الما بعد إيديولوجي للثورات، يكتشف فيها الفرد المواطن مواطنته المقموعة ويضطلع بمسؤوليته، كما لو أنه جماعة أو شعب آت. ذاك أيضا ما يسميه ألبير كامي في كتابه «الإنسان المتمرد»: «أنا أثور، إذن نحن نوجد»... إن الزمن الما بعد إيديولوجي للثورة هو زمن من الأفراد العاديين الذين يرمون ويريدون التحقق في صيرورتهم الثورية، إلى حد أنهم قد يختارون المجازفة بحياتهم على البقاء خاضعين وخانعين. لم تعد هناك الآن حاجة إلى سؤال: «ما العمل؟» اللينيني، ولم يعد بالضرورة إستراتيجيا. أما الثوريون المحترفون فقد انمحوا مع انمحاء الشروط التي كانت تسمح بوجودهم. لعل هذا ما يجسده، بشكل ما، السؤال الساذج والمتحمس ربما، الذي طرحه المفكر الألماني هوركهايمر: «لكنْ، هل هي مرغوب فيها إلى هذا الحد، تلك الثورة؟»... لنترك هذا السؤال، برغم سذاجته الظاهرة، مفتوحا من جهة، أما من جهة أخرى، فإن القول بلا جدوى الثورة وإن الأحسن هو المراوحة في المكان يظل قولا لا أخلاقيا، لأنه يتعلق بالحياة المباشرة للمقموعين والمقصيين. الثورة، إذن، كمفهوم وكحدث، أمر موجود وسيوجد دوما في مركبة التاريخ، وعبرها تنجس الذاتيات الخاصة بالأفراد، لا ذاتية الناس المعروفين أو المنتمين إلى النخبة، سياسة كانت أم ثقافية، بل ذاتيات الناس العاديين، الذين يرفضون النظام الذي يقمعهم. يكفي وجود هؤلاء في عريه وفداحته ليكونوا ثوريين بلا حزب ولا إيديولوجيا ثورية.