سقطت الدولة الأموية كما رأينا، وكان للموالي أثر كبير في ذلك، خاصة بانضمامهم إلى الدعوة العباسية. الدعوة العباسية يرى بعض المؤرخين أن الزعماء العرب من غير قريش فشلوا جميعا في خروجهم المتكرر على الأمويين، لأن معظم المسلمين كانوا يرون قصر الخلافة على قريش. لذا دفع بعض الموالي ببيت قرشي إلى الثورة والمطالبة بالخلافة، فكان أن خرج بعض العلويين بتحريض من الموالي، وإن خذلوهم حين كان يجدّ الجد. وقد دفعت هذه المآسي التي وقعت لآل البيت إلى أن يفضلوا الهدوء والسلام. ثم يقول الخربوطلي: «بحث الموالي الفرس عن بيت قرشي آخر يدفعونه إلى المطالبة بالخلافة، وإلى هدم الدولة الأموية العربية، فساندوا البيت العباسي، أولاد العباس بن عبد المطلب، وساعدوهم في دعوتهم طوال 32 عاما، من سنة 100 إلى سنة 132ه، حتى نجح العباسيون في إسقاط الدولة الأموية وإقامة الخلافة العباسية». ويختلف المؤرخون في مبلغ أثر الموالي على الدعوة العباسية، ومدى مشاركتهم في إنجاحها، وهل كان عمادها الأساس من العرب أم من الفرس. يقول الدوري: «مع أن الدعوة العباسية كانت لأسرة عربية، ومع أن بعض قادتها البارزين كانوا من العرب، إلا أن جمهور مؤيديها كانوا من الموالي والأعاجم عامة. أما القبائل العربية فقد استند موقفها إلى الصراع على النفوذ السياسي والسلطة لا على أساس اجتماعي. فالمضرية أيدوا السلطة الأموية في خراسان في أواخر أيامها لأن وجهتها قيسية، بينما وقفت اليمانية من الدعوة موقف عطف أدبي إثر نكبة آل المهلب وآل خالد القسري، إذ رأوا في ذلك ضربة لنفوذهم، ومع ذلك فإنهم لم يدخلوا الدعوة بشكل يذكر. وربيعة «الساخطة على ربها منذ بعث نبيه من مضر» كانت خارجية، وتابعة للواء الخوارج. وبصورة عامة، يمكن القول: إن العرب كمجموع في خراسان والكوفة لم يسندوا الدعوة العباسية بدرجة تذكر. وحين نفحص كتل الموالي والأعاجم الذين أيدوا الدعوة، نجد أن عامة الأتباع من الفلاحين وأرباب الحرف وبعض التجار، وهم على الأكثر من الهاشمية (الغلاة الذين تحدروا من الكيسانية)، ومن الخرّميّة، وهذه في الأصل استمرار للحركات الاجتماعية الإيرانية التي ترجع إلى ما قبل الإسلام، وهي تمثل الثورة الاجتماعية على الأوضاع في إيران مكتسية بثوب إسلامي. ووقف الدهاقنة جانبا، ولم ينضموا إلى الحركة العباسية إلا بعد استفحالها، ولأسباب مصلحية هي رغبتهم في استعادة الوضع الذي زعزعته إصلاحات نصر بن سيار المالية»... أما المؤرخ العراقي فاروق عمر فيرى خلاف ذلك، يقول: «أثبتت مصادر حققت حديثا أن القوة الضاربة في هذه الدعوة كانت تتكون من عرب خراسان. وقد أسهم فيها الموالي، وخاصة أولئك المرتبطين بالقبائل العربية في خراسان أيضا، لكن دورهم لم يكن يماثل دور العرب. وأود أن أؤكد أن غالبية الموالي الذين اشتركوا في الدعوة العباسية كانوا من المرتبطين بالقبائل العربية، وهؤلاء ذوو وضع خاص ليس كبقية الموالي، فالمولى المرتبط بقبيلة عربية يعتبر جزءا من القبيلة، ف»الولاء لحمة كلحمة النسب»،... وهكذا لم تكن غالبية أتباع العباسيين.. من الإيرانيين، بل كانوا في الغالب من عرب خراسان المستقرين هناك منذ أجيال عديدة. أما فلاحو إيران فغالبيتهم لم تحرك ساكنا حين فُجرت الثورة العباسية، بل إن مدن إيران وجماهيرها لم تستغل فرصة الثورة العباسية لتهب مساندة لها». أما أبو مسلم الخراساني فلم يلتحق بالدعوة العباسية إلا بعد ربع قرن من تأسيسها، وكان لهذه الدعوة مجلس جماعي من النقباء لتسيير شؤونها، فلم يكن لأبي مسلم أي قرار مستقل. ويقول أيضا: «تحركت القبائل اليمانية في خراسان ضد الأمويين باسم الضعفاء المتذمرين، من عرب وغير عرب، وهدفها تحقيق أكبر قدر من المساواة والعدالة للضعفاء من العرب وغير العرب، ولذلك يسميها المستشرق جب بأنها ثورة ذات طبيعة دينية عمادها القبائل اليمانية. وعلى ذلك لم تكن الثورة العباسية عنصرية قامت على أكتاف الفرس المظلومين، كما يحلو لبعض المؤرخين تفسيرها، بل إن فهمها للإسلام كان أكثر شمولا وأوسع نطاقا مما تصوره هؤلاء المؤرخون». صلة الغلاة الشيعة بالموالي والدعوة العباسية ومهما كان الأمر في مدى مشاركة الفرس في إقامة الدولة العباسية، فإن من المتفق عليه أنها كانت مشاركة مهمة، وأنها تعود إلى زمن الدعوة قبل الدولة، وأنه كانت لبعض الفرس أغراض خاصة بهم من وراء مساهمتهم في إنجاح الدعوة العباسية. يقول المؤرخ المعاصر محمود شاكر: «لما اشتد ساعد بني أمية، وتمكنوا من الأمر، وقامت الدعوة السرية لآل البيت والمطالبة بالحكم وإزاحة بني أمية عنه، كانت فارس مقر هذه الدعوة ومنبتها، لا حبا في آل البيت أيضا، وإنما محاولة لتهديم أركان الدولة، إذ تبين، عندما نجحت الدعوة وآل الأمر إلى العباسيين، أن مساعدة الفرس لم تكن إلا لمآرب خاصة وأغراض شخصية ومصالح محددة وغايات مرسومة. وكانت هناك دوافع أخرى رأسها العصبية، وفيها حنين إلى الماضي البعيد، وكانت نتيجة ذلك أن قُتل أهم دعاة الأمس وهو أبو سلمة الخلال، وأعقبه الداعية الثاني والقائد العباسي أبو مسلم الخراساني». ومن ناحية أخرى، فإن الدعوة العباسية -في إعدادها للانقلاب على الأمويين- حاولت أن تستعين بجميع الثائرين، مهما كانت أحوالهم ومعتقداتهم، فتسرب إلى أحضانها عدد وافر من الغلاة، وأكثرهم كان من الموالي، ومن الفرس خاصة. يقول الدوري: «أول ما يجلب الانتباه هو أن الحركة الإسماعيلية نبعت من الكوفة ولاقت في منطقتها أول نجاح عملي، وهذه نقطة لها أهميتها، فالكوفة كانت مجمعا للثقافات والديانات القديمة ومركزا مهما من مراكز الغلو الذي استغله العباسيون في دعوتهم. والغلو نفسه لم يكن إلا ستارا استخدمه الموالي في العصر الأموي لتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي السيئ، كما ظهر في حركة المختار. ولكن الغلو أخذ ينتشر في هذه الفترة بين جماهير العرب، وذلك لأن التعاون ووحدة المصالح بين الأرستقراطية العربية والفارسية وانتقال المجتمع إلى الدور التجاري أدى إلى وقوع الجماهير من العرب والموالي في وضع معاشي واطئ، وإلى انقسام المجتمع على أساس اقتصادي لا عنصري. واستمر الغلو يحمل في ثناياه الثورة على النظام السائد. وقد تستر الغلاة باسم الشيعة ليتخذوا من حق العلويين في الخلافة صيحة شرعية ضد العباسيين، ووجد قسم منهم في إسماعيل بن جعفر الصادق وأحفاده أئمة يدعون إليهم. ومع أن العباسيين استغلوا الغلاة وتعاونوا معهم في فترة الدعوة، إلا أنهم بعد توصلهم إلى الحكم تنصلوا منهم من دون أن يتمكنوا من إيقاف قوتهم التي أثاروها، وسرعان ما توجهت تلك القوة ضدهم لأنهم أبقوا الوضع على ما كان عليه، فلا غرابة إن نشأت الحركة الإسماعيلية في خلافة أبي جعفر المنصور الذي اضطر إلى ضرب الغلاة علنا في تنكيله بالراوندية وبالخرمية». وقد انتهى هذا الارتباط المصلحي بين العباسيين من جهة، والغلاة من الموالي والفرس خاصة من جهة ثانية.. بثورات دامية وخطيرة، شغلت الدولة سنين عددا، وزعزعت المجتمع المسلم بشدة، بل هددته تهديدا جدّيا. وأهمها وأخطرها: حركتا الخُرَّمِيَّة والبابكية، وهما حركتان فارسيتان قلبا وقالبا، وتوجد حولهما أبحاث ودراسات مستقلة. وكان من الآثار بعيدة المدى للدعوة العباسية أيضا إحياء الروح القومية للفرس، يقول الخربوطلي: «نادى العباسيون بعزمهم على تحسين أوضاع الموالي ومساواتهم بالعرب، وإشراكهم في الحكم، متخذين ذلك أساسا لبرنامجهم الاجتماعي، وبذلوا الجهود في سبيل جمع كل العناصر الساخطة، وبعثوا الوعي العام عند الفرس، وقووا فيهم روح التوثب والسيادة، بل روح إحياء المجد القديم المفقود. وقد أدت الدعوة العباسية إلى إحياء القومية الفارسية، مما هدد الأمة العربية»... مشاركة الفرس في بناء الدولة العباسية من الطبيعي بعد هذه المساهمة الفارسية في الدعوة العباسية أن يكون لهم نصيب من السلطة بعد نجاحها. لذلك اعتبر الباحثون أن الفرس هم أكثر الأمم نفوذا في الدولة العباسية، بل بلغ الأمر ببعض المؤرخين أنهم عدّوا الخلافة العباسية دولة فارسية بقناع عربي، هي أسرة بني العباس. يقول عبد النعيم حسنين: «ساعد انتقال الخلافة إلى العباسيين على ازدياد نفوذ الإيرانيين في الدولة العباسية منذ بدايتها. فقد احتل الإيرانيون منصب الوزارة في هذه الدولة أكثر من نصف قرن من الزمان، من عام 132 إلى عام 187، أي منذ عهد السفاح أول خلفاء العباسيين إلى عهد هارون الرشيد خامس خلفائهم، حتى عُدّ قضاء الرشيد على البرامكة الإيرانيين انتصارا للعرب على النفوذ الإيراني الذي كان ظاهرا ملموسا في الدولة العباسية. غير أنه أخذ يظهر من جديد في عصر الخليفة المأمون بن الرشيد حين حدث خلاف بين الأمين -الخليفة بعد أبيه الرشيد- وبين أخيه المأمون، وأدى هذا الخلاف إلى نشوب حرب بينهما، فانضم الإيرانيون إلى معسكر المأمون لأن أمه كانت إيرانية، وقاد طاهر بن الحسين إيراني الأصل جيش المأمون».. وكانت أم الأمين عربية، وانتصر المأمون وأصبح خليفة، وبذلك عاد النفوذ الفارسي إلى الدولة. يتبع...