اختلف المؤرخون في تاريخ ظهور الشيعة، هاته الحركة التي ظهرت كنقيض للسلطة السياسية القائمة، وبالتالي كان عليها -كما يقول الباحث الهادي العلوي- أن تحدد موقفا إيديولوجيا يبرر لها المعارضة، ومن هنا كان الاستناد إلى القرابة في الصراع. بتكون آل البيت من فرعين، الفرع العلوي والفرع العباسي، كان الفرع العلوي هو الذي يقود المعارضة ضد الأمويين، بينما كان الفرع العباسي في البداية أقل طموحا إلى السلطة، فكما يقول أحد المؤرخين: «العباس لم يكن ذا سابقة في الإسلام، فقد أسلم في عام فتح مكة، أي أن إسلامه إسلام ضرورة، ولهذا لم يكن من المعقول أن يطمح العباس إلى الخلافة بعد وفاة الرسول نظرا إلى تأخر إسلامه. ويعتبر محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الشخصية القوية والعباسي الحقيقي الذي أظهر طموحا إلى الخلافة وسعى سعيا سريا منظما إلى نيلها. لكن وصول هذا الأخير إلى السلطة في ظروف تاريخية محددة سيجعل الفرع العلوي، الشيعة، يتحول من حزب سياسي معارض إلى تعبير فلسفي وديني رافض للدولة والمجتمع. وهذا التحول من العمل المسلح إلى العمل الفكري سيدفع الإسماعيليين إلى الخروج من الحزب الشيعي عبر حركة انقلابية، رافضين مبدأ التحول من الثورة إلى المهادنة، وعاملين على تأسيس إطارهم السياسي الاجتماعي الدولة الفاطمية. لم يعد الصراع على السلطة، إذن، بين بيتين داخل قريش بل بين فرعين داخل بيت واحد. ومن هنا تأتي خصوصية خطاب المشروعية الذي سيتم اتباعه. تأخر تطلّع الفرع العباسي إلى السلطة ولم يبدأ في التبلور إلا مع حركة المختار الثقفي. يتحدث «فلهوزن» عن الصلة بين حركة المختار والدعوة العباسية فيقول: «كانت هناك صلة بين العباسيين وبين الشيعة أصحاب المختار، ذلك أنه من بين أصحاب ابن الحنفية، ظهر أصحاب ابنه، وهم الهاشمية. هاته الحركة التي سيتم استغلالها من قبل الدعاية العباسية بشكل جيد، يقول المؤرخ «لامانس»: «إن مقتل المختار أدى إلى تطور كبير في تاريخ حزب الشيعة السياسي، فقد اتجه الشيعة منذ مصرعه إلى الدعوة السرية». هذا الاتجاه نحو العمل السري استفاد منه، بالدرجة الأولى، الفرع العباسي. هذا درس أول، أما الدرس الثاني الذي سيستخلصه العباسيون من حركة المختار فهو التركيز في التعامل السياسي على العنصر الفارسي. تختلف المعايير النظرية التي ارتكز عليها العباسيون لتبرير أحقيتهم في الحكم بين فترة الدعوة وفترة الدولة. ففي الفترة الأولى، ظهرت فكرة الوصية وتتلخص في كون الإمام أبي هاشم بن محمد بن الحنفية، الملقب بالمهدي أمام الشيعة الكيسانية، حين أحس بدنو أجله من جراء السم الذي سُقِيَه على يد سليمان بن عبد الملك، تنازل لعلي بن عبد الله بن العباس عن الأمر قرب بلدة «الحميمة»، وسلم إليه زمام الدعوة الكيسانية. وأوصى «علي» بها لابنه «محمد» وأوصى «محمد» لابنه إبراهيم المعروف بالإمام، وأوصى إبراهيم بها لأخيه عبد الله بن الحارثية الملقب بالسفاح، وأوصى بها هذا الأخير لأخيه عبد الله بن أبي جعفر الملقب بالمنصور، وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحدا بعد واحد». إن الوصية مصاحبة بنوع من التعميم يتجلى في كون العباسيين، إبان مرحلة الدعوة، لم يكونوا يأخذون البيعة باسمهم، بل باسم «الرضى من آل البيت»، أي عن شخص من آل البيت يتفق عليه فيما بعد، ليتم التخلي عنها في الفترة الثانية، فترة الوصول إلى السلطة واللجوء إلى معايير أكثر تماسكا، سواء كانت ذات منحى جاهلي أو ذات أصول إسلامية. ومن المعايير ذات المنحى الجاهلي سيتم الارتكاز على مبدأ الحق الإلهي، فالدولة العباسية قد ارتكزت على نظرية الحق المقدس للخليفة. هذا الحق المقدس أفضى إلى خلق نزعة مفادها أن الخليفة ليس مجرد شيخ من شيوخ القبائل العربية، كما كان عليه الأمر في الدولة الأموية، بل ملكا شبيها بملوك الفرس الكبار، حيث أقام العباسيون حكوماتهم على النمط الكسراوي-الساساني، وهكذا غدت سلطة الخليفة تتسم بالقداسة وصار سلطانه مستمدا من الله. ومعلوم أن عقيدة الحق الإلهي هي عقيدة سابقة على الإسلام. لقد استمد العباسيون هذا المعيار، معيار الحق الإلهي، من الموروث الفارسي، حيث فلسفة الحكم في إطاره كانت تجد أساسها فيه، كما يقول محمد عمارة. أما من المعايير ذات الأصول الإسلامية، فسيوظف العباسيون مسألة النص على العباس وقانون التوارث الإسلامي. ففي إطار معيار النص على العباس، أكدت فرقة من الرواندية التي أفرزتها الدولة العباسية أن النبي نص على عمه العباس بن عبد المطلب ونصبه إماما للمسلمين، وظلت الإمامة في عقب العباس بالنص إلى مجيء أبي جعفر المنصور. ونعتقد أنه انطلاقا من فكرة النص هاته، أدخل علماء الدولة العباسية مسألة الخلافة ضمن مباحث العقائد الدينية. أما في إطار معيار قانون التوارث الإسلامي، فقد طبق العباسيون على الخلافة قانون الوراثة في الشريعة الإسلامية على اعتبار أن الخلافة تركة بعد النبي، فقالوا إنهم من نسل العباس، عم النبي، بينما العلويون من فاطمة الزهراء بنت النبي، والعم في الميراث والعصبية مقدم على ابن البنت، وهكذا يغدو العباسيون طبقا لقانون التوارث الإسلامي ورثة مباشرين للرسول، لكن هاته المعايير سيتم الرد عليها بمعايير موازية من قبل الفرع الفاطمي. تحاول كل حركة سياسية، تأمل في الخلافة نتيجة ظروف اقتصادية واجتماعية محددة وتسعى إلى السلطة السياسية، إنتاج فكرة المهدوية. ورغم أن كثيرا من الحركات الإسلامية بلورت هاته الفكرة -فعلى سبيل المثال، أخذ الحارث بن سريج، أحد قادة الأمويين في خرسان، لقب «المهدي» كمنقذ للمضطهدين في بلاد ما وراء النهر، وبلور الأمويون كذلك منقذهم «السفياني». ويعتقد «فان فلوتن» أن هاته الفكرة ظهرت قبل سقوط الدولة الأموية بهدف استعادة الفرع السفياني لحقه في السلطة من الفرع المرواني- فإن نظرية الشيعة في المهدوية كانت أكثر تطورا، وهكذا نمت المهدية الشيعية مع خيبة الأمل في إصلاح النظام الأموي وتبلورت كعقيدة في غمرة اليأس الذي استبد بالحزب الشيعي بعد استيلاء العباسيين على الخلافة». تم استغلال فكرة المهدوية إضافة إلى استيعاب دروس التجربة العباسية، فقد أقام العباسيون دولتهم بالاعتماد على أسلوب السرية، ثم بالارتكاز على غير العرب (موالي الفرس). هذه التجربة سيستوعبها الفاطميون، حيث عملوا على نشر دعوتهم بشكل سري، كما اعتمدوا على غير العرب (موالي البربر). هذان العاملان سيمنحان الشيعة إطارهم السياسي الاجتماعي: الدولة الفاطمية التي قامت على أكتاف المغاربة من بربر كتامة وصنهاجة في أواخر القرن الثالث الهجري (297ه)، ثم انتقلت إلى مصر سنة (358ه)، ومدت نفوذها من القاهرة إلى معظم بلاد الشرق. «ووصلت من القوة درجة قصوى، ففي سنة 450ه وفي قلب بغداد، نودي بخلافة المستنصر الفاطمي، وخطب له على منابرها، وضربت المسكوكات باسمه». وقد سقطت الدولة الفاطمية سنة 567ه/1171م على يد صلاح الدين الأيوبي . منذ البدء، يؤكد الحاكم الفاطمي حقه النظري في التفرد والانفراد بخلافة المسلمين. يقول الخليفة الفاطمي المعز لدين الله في خطاب وجهه إلى الأندلس بمناسبة اتخاذ الناصر الأموي لقب أمير المؤمنين: «وهو يزعم أنه أمير المؤمنين (يقصد الناصر) ونحن نقول: «إننا أهل ذلك دونه ودون سواه، ونرى أن فرض الله علينا محاربة من انتحل ذلك دوننا وادعاه». كان الفاطميون يفضلون لقب (الإمام) الذي لا يفيد فقط خلافة النبي بل يدل كذلك على السلطان الديني المستمد مباشرة من الله، وكانوا يرون أن سلطة العباسيين هي مستعارة ويجب أن ترد إليهم ويركزون في تأكيد مشروعيتهم على معيارين: كونهم، أولا، الوارثين للعلم الموروث عن طريق علي من النبي، وكونهم، ثانيا، ليسوا فقط ورثة لوصية علي بل ورثة للرسول مباشرة، وتتجلى هاته الوراثة المباشرة للرسول عبر إصدار الفاطميين لمرسوم يغير أحكام الشريعة الإسلامية في الميراث، حيث بمقتضاه يجوز للبنت الوحيدة (فاطمة هنا) وراثة تركة أبيها (الرسول هنا) أو أمها، في حين لا يرث أعمامها (العباس هنا). هاته الوراثة المباشرة للرسول لا تقتصر على المستوى المادي، بل تطال المستوى الرمزي.