تناولت حلقةٌ سابقة مما خصص للجهات من شرق وغرب، ويمين وشمال، بعض أوجه المفارقات التي تطبع ما تم بناؤه أيديولوجيا على أساسها عبر التاريخ من قيم في باب بناء هويات الانتساب، وما يُبنى عليها أيديولوجيا كذلك من مقومات في باب الجدارة والحقوق والمواطنة في المدينة عبر تطور تاريخ هذه المفاهيم. ومن أبرز تلك المفارقات في الفضاء الذي يعنينا هو المباركة الأيديولوجية لجهتي المشرق (أمام/صدر) واليمين (يَمَن/يُمن/ميمنة) من جهة، والتنقيص من المغرب (خَلف/ذنب) والشِمال (شمال/شؤم/مشأمة) من جهة ثانية، لكن مع تحرك منتجي تلك الأيديولوجيات في نفس الوقت عبر الهجرات التاريخية الكبرى نحو الجهات المنتقص من قيمتها إيديولوجيا، أي الغرب والشمال. وبحكم طبيعة الأيديولوجيا، فقد استبطن أهل المغارب تلك القيم، وحاولوا من خلال الالتفاف فيها أن يضمنوا لأنفسهم موقعا في فضاء تاريخ التدافع، فانتسبوا أسطوريا إلى المشارق في الشام، والخليج، والحجاز، واليمن، عبر شجرات أنساب متواترة و"موثّقة"، ومن خلال "إبداعات" في المناقب والتأريخ والآداب قال عنها أهل المشارق باستخفاف: "بضاعتنا ردت إلينا". وهو استخفاف له ما يبرره موضوعيا من الناحية النقدية؛ إذ أن ذلك "النبوغ" المغاربي لا يعكس نسيجُ مقوماته ما يجعل منه أدبا مغاربيا، من قبيل ما تمت الإشارة إليه فيما يتعلق بالمغرب على الخصوص في الحلقة السابقة ("عمران المالح، ابن سمحون وبنسالم حميش بين الشرق والغرب"). وقد انعكست محاولات الانتساب الأسطوري هذه في التِماس القوم لمشروعيات الوجود برفع سندها أسطوريا إلى المشارق ليس فقط بالنسبة لأطُر شرعية إقامة الدول أو تقويضها، وللجدارة الفردية والجماعية، والجدارة العلمية والفكرية، ولكن حتى على مستوى طوبونيميا الجغرافيا، وطبوغرافية المدن والأحياء. فبقطع النظر عن التدمير الشامل الذي تعرض له التراث الطوبونيمي المغربي (أسماء المدن والقرى والجهات) في إطار التماس تلك الشرعية، سبق لي قبل عشر سنوات أن خصصت مقالا لما لاحظته، على سبيل الجزئيات، في تسميات أزقة محيط مؤسسات السيادة في العاصمة المغربية. لقد لاحظت ذلك يوما بالصدفة لما سألت أحدهم، وهو يلتهم ساندويتشا على رصيف شارع مولاي يوسف، عن "زنقة بغداد"، فأجابني دون اكتراث بأنه لا يعرفها، مضيفا على التو: "هاد تّيرّا كُلّها ديال لخاليج". حينئذ اكتشفت بأن ماهية المجال الطوبوغرافي المحيط بمؤسسات السيادة (البرلمان) أمام حوزة القصر الملكي هي الآتي: (زنقة بغداد، زنقة دمشق، زنقة تهامة، زنقة صنعاء، زنقة اليمامة، زنقة الكوفة، الخ. زنقة زحلة ، زنقة القدس ، زنقة بيت لحم، زنقة الطائف ، زنقة عدن، زنقة حمص، زنقة بيروت، زنقة حلب، زنقة القاهرة، زنقة طانطا (مدينة مغمورة في مصر)، زنقة كربلاء، زنقة الينبوع (ينبوع النخل في الجزيرة العربية). وقد امتدت ثقافة التماس مشروعية الوجود حتى إلى أدق المميزات الثقافية؛ ومن أطرف ما أحتفظ بذكره في هذا الباب مقالٌ أسطوري بالفرنسية والإنجليزية في العدد 44/ 1990 من "مجلة الخطوط الملكية المغربية" يعرّف السائح الأجنبي ببعض أوجه الثقافة المغربية تحت عنوان (La petite histoire de la djellaba bziouia)، ويزعم، في خُيلاء الحاصل على بطاقة الهوية، بأن الجلابة البْزِيويّة، المشهورة بوادي أزيلال، أصلها من الشام والعراق، وأنها وصلت المغرب عن طريق ما علِق من خرق ببضاعة بعض التجار المشرقيين في القرن الثامن الميلادي (بالتوثيق التاريخي!). وبعد عشر سنوات من ذلك، أسمع في برنامج "وثائقي" بالتلفزة عن موسم الورد في قلعة مكونة، بأن أصول ذلك الورد العطر من دمشق الفيحاء، إذ علقت بذوره باللقالق المهاجرة التي نقلتها إلى ربوع بلاد دادس. لقد علقت حينئذ على أسطورة الجلابة البزيوية في كتيّبي (عن الذاكرة والهوية؛ شراع، عدد 64، 1999) بالقول "لقد ألف المغاربة مثل هذه الحكايات ... ولا مانع من أن يحكي بعضهم غدا كيف انحدر الكُسكُس من اليمَن، والحريرة من كنعان، والمشوي من الباسك ...". بعد أسس الشرعيات السياسية، وأسس الجغرافيا والطوبوغرافيا والأدب والفكر وحتى الصناعة التقليدية والفولكلور، لم يبق إلا العنصر البشري. وهنا أيضا تناسلت الأساطير منذ القدم، قياسا على ثقافة الحريكَ الهوياتي، وشجرات الانتساب. فبخلاف بقية الشعوب المصنفة أيديولوجيا كشعوب شرقية الثقافة، في شبه الجزيرة، وبلاد الرافدين، والشام، والنيل، وغيرها ممن تعرف تواريخها أو لا تعرف، وقع الاختيار على الشعوب المغاربية للتساؤل السرمدي عن "القِهرة" والأصقاع أو الكواكب التي قد يكونون قد نزحوا منها إلى حيث وجَدَهم شاهدُ التاريخ. وفي باب تداعيات هذا التساؤل، وعلى ذكر نكتة العلاقة المحتملة للكسكس ببلاد اليمن، أختم هذا النص بحدث ثقافي طريف بدوره. فإذ تم تفويت كل الأصل العقاري للشخصية المغاربية، أرضا وإنسانا، عبر العصور وإلى اليوم، في بورصة الأيديولوجيا، كان معهد الإركام يوم الجمعة 4 فبراير 2011 مسرحا لمحاضرة خاصة، تحولت معالمها إلى محاكمة شبيهة في جوهرها بمحاكمة "كَاليلي"، مع وجود الفارق طبعا. فبعد عاصفة الأنساب والأحساب التي أثيرت في الصحافة العامية حول المهمة العلمية الاستكشافية التي كان قد قام بها الأستاذ النوحي إلى اليمن، وهو باحث في تلك المؤسسة، قصد استجلاء أسس ما يقال منذ ابن خلدون (الذي سمى نفسه ب"الحضرمي" انتسابا إلى حضرموت باليمن تحريفا ل"الحضرومي" الذي هو النسبة إلى "حضرومة") مِن أصل البربر من المشرق، موزّع ما بين اليمن وكنعان، قدّم الباحث عرضا عن مهمته، عرضَ خلاله صورا عن العمارة، والحِرف، والحلي، والهندام، ونظم الري، وطقوس الاحتفال، ولم يفته أن يستعرض لائحة من الكلمات من معجم اللغة المهرية، إحدى لهجات اليمن مما يبدو له بأن له شبها بالأمازيغية. لكنه، قَبْل ذلك، واعتبارا للغاية من تنظيم العرض وتكثيف الدعوة إليه، وتحسبا للنقاش الحاد المرتقب، عمد، في إلحاح شديد، إلى تبرئة مؤسسة الإركام من توجيه مهمته اليمنية، التي تبناها شخصيا كمجرد باحث حر، كما قال، يستغل هامش الحرية الذي تسمح به المؤسسة في اختيار مواضيع المأموريات العلمية. وإذ كان المسؤولون الإداريون، وفي مقدمتهم العميد ومسؤولو برامج البحث العلمي المعنيون، حاضرين جميعا، فإن أيا منهم لم يستدرك أو يصحح فيقول مثلا بالواضح بأن المهمة كانت تندرج فعلا، على العكس مما يتوهمه الباحث، في صميم إطار التوجهات البحثية العامة التي سطرتها المؤسسة وتتبنى على أساسها المشاريع الفردية للباحثين، وأن ذلك يندرج في إطار إخضاع كل ما تروّج له ثقافة "زَعَموا" لتحقيق التحري العلمي. إن المناقشة التي تلت والتي كانت العاصفة الصحفية قد أماطت اللثام عن لونها وطعمها مسبقا هي التي تفسر ذلك الموقف الرسمي اللا-أدري لمسؤولي المؤسسة. فقد أصبحت تهمةُ "إحياء زعم الأصول اليمنية للأمازيغ" صكوكَ اتهام جماعية في محاكمة لا مبالغة في وصفها بإرهاب فكري جديد في ميدان البحث العلمي، مبني على أساطير جديدة لا تقل سخافة عن أساطير شجرات الانتساب إلى مشرق ميثولوجي وعن مكر التساؤل الوسواسي الخبيث عن البلد الأصلي للمغاربة. ذلك أن جيلا من الخلف قد تهشهشت معنوياته بفعل ثقافة "الحريكَ" الثقافي لأجيال متعاقبة من السلف، فأسس لنفسه أساطيره الشعبية بطرق عامية وبأدوات فكرية "أرتيزنالية"، تحتفل بكل كمشة عظام تُكتشف في مغارة للتدليل بها على شرعية الوجود على أرضٍ يتساءل الشعبويون من الشعوبيين عن الصقع و"القِهرة" التي نزح منها أسلافُه إليها لاستعمارها، كما لو أن الاستعمار هو الوجه الوحيد للوجود في الأرض. وقد بلغ ذلك إلى درجة أن مؤسسة معهد الإركام، ومسايرةً منها لذلك المد العامي لجيل منهك المعنويات، عمدت في الدورة الأخيرة لمعرض الكتاب بالبيضاء إلى إتحاف زوار رواقها بصور عن مثل تلك العظام (الإنسان الأمازيغي القديم والأقدم) كوسائل إثبات لمشرعية هويةٍ مستقلة عن سند انتساب ميثولوجي لجهة من الجهات. لقد نُسب إلى الحجاج بن يوسف قولٌ بليغ في حد ذاته؛ لو أنه ورد على لسان "مبارك و- لحوسيان أوباما"، الناطق اليوم باسم أرسخ أمة وأقواها وهي مع ذلك مزيج من الوافدين الجدد، لانطبق عليه أكثر مما ينطبق على ابن قبيلة ثقيف، ألا وهو قوله: كن ابنَ من شئتَ واكتسبْ أدبا يُغنيك محمودُه عن النسب إن الفتى مَن يقول هاأنذا ليس الفتى من يقول "كان أبي"