تم الحديث في الحلقات السابقة عما تفرع عن المواضعات النفعية العملية لتحديد اتجاهي "اليمين والشمال"، من مواضعات أخرى سيميو- ثقافية تربط مفهومَ اليمين بقيم معيارية إيجابية، وتربط مفهوم الشِمال بعكس ذلك، وتمت الإشارة إلى بعض أوجه رفع تلك المواضعات السيميو- ثقافية إلى مستوى الأيديولوجيا (أصحاب اليمين / أصحاب الشمال؛ أصحاب الميمنة / أصحاب المشأمة، الخ.)، وذلك من خلال نموذج الرهان الحالي حول إعادة ضبط التوقيت العالمي وإعادة توجيه عقارب الساعة لتدور في اتجاه طواف الحجيج واتجاه كتابة النصوص المقدسة بالحرفين الساميين، العبراني والعربي، أي من اليمين إلى اليسار؛ وهذا الوجه الأخير هو ما ستتناوله الحلقة الحالية. لقد تم بيان ما يفيد بأن الرهان الأيديولوجي على تغيير اتجاه عقارب الساعة إنما هو رهان مَن "نسي التاريخ أو أنسِيَ ذكره"، تاريخ الحضارات، بما فيها الحضارة الإسلامية في باب اختراع التقنيات وتطورها ليس حسب الإرادات الأيديولوجية، ولكن حسب مقتضيات المواصفات الجمعية في تفاعلها مع معطيات الطبيعة. إنه رهان أيديولوجية مهووسة بمفهوم وسواسي للهوية يجعل من هذه الأخيرة جوهرا قبليا مطلقا ومجردا، لا صيرورة بنائية تاريخية؛ ولذلك يحاول أصحاب ذلك المفهوم، في مفارقة طريفة، أن يطلوا على الغد الحضاري عن طريق ردّ عقارب الساعة الميكانيكية إلى الوراء لتساير اتجاه ما يعتبرونه ناموسا كليا مطلقا يتجلى في اتجاه دوران الأجرام في أفلاكها، ودوران الدم في الجسم، وطواف الحجيج حول الكعبة في الجاهلية والإسلام، وكذا في اتجاه كتابة التنزيل في الصحف الأولى بالعبرانية وفي المصحف الخاتم بالعربية "من اليمين إلى الشمال". في هذه النقطة بالذات يعود بنا السياق إلى ما ذكر في الحلقة الأولى مما كنا نتوقف عنده (شريكي في البحث وأنا شخصيا)، قصد " ضبط أمورنا حينما نتحدث خلال عملنا عن توالي "السابق واللاحق" من أصوات الكلام باعتبار تمثيلها كأحرف في الكتابة، نظرا لأن الخلفية الثقافية لزميلي هي الكتابة من الشمال إلى اليمين، بينما مرجعيتي هي الكتابة من اليمين إلى الشمال". إن الكتابة، بدورها، اختراع تقني خضع عبر تطور أوجهه ? كما خضعت لذلك مختلف أوجه الساعة الميكانيكية ? للاستعدادات الفيزيولوجية والإدراكية للإنسان في تفاعلها مع معطيات الطبيعة ومع مقتضيات المواصفات الجمعية. فإكراهات إنجاز الكتابة كنقش على جسم صلب عن طريق إمساك الإزميل باليد اليسرى، والضرب عليه بالمطرقة باليد اليمنى، جلوسا أو وقوفا، غيرُ إكراهات الكتابة بغرز أشكال مسمارية على صفحة لوح من معجون الطين، وهي غيرُ إكراهات الكتابة عن طريق رسم أشكال على ورق البردي أو الرقاع بواسطة شباة قلم قصبي مشبّعة بالحبر، الخ. فلذلك عرفت الحضارات الكتابية مختلف أنماط توجيه المادة المكتوبة، بما في ذلك نمطُ انعدام التوجيه كلية، كما في رسوم المعاني (idéogrammes). وبعد أن اقتضى توسعُ استعمالِ الكتابة مواصفاتٍ متواضعٍ عليها لضبط التواصل، عرفت الكتابةُ ? حسب نوعية الأدوات والتقنيات المستعملة ? عدة توجيهات (من أسفل إلى أعلى، أو من أعلى إلى أسفل، أو من اليمين إلى الشمال، أو من الشمال إلى اليمين)، بما في ذلك ما يسمى بالاتجاه "الثوري" (boustrophédon). لا يتعلق هنا الأمر ب"الفكر الثوري" الذي أصبح يرمز إليه ب"اليسار"، كما قد يتبادر إلى الذهن لهذا الجيل. أنه يتعلق بمجرد محاكاة الكاتب، في كتابة تسلسل عناصر نص معين، لعملية الحرث بالثور (bous-trophédon كلمة إغريقية تعني "دوران الثور")، أي الشروع بالسير في الكتابة في اتجاه معين (وليكن من اليمين إلى الشمال، أو من الأعلى إلى الأسفل)، ثم العودة في الاتجاه المعاكس بعد انتهاء السطر، وهكذا دواليك كما يحصل أثناء الحرث. وقد عرفت هذه التقنية الحراثية عند الإغريق قديما، وبقيت مستعملة عند الطوارق بحرف تيفيناغ إلى بداية القرن العشرين كما عاينّا ذلك شخصيا في دراسة عدد من الرسائل الشخصية الورقية الطوارقية في حلقات المستمزغ الفرنسي، Lionel Galand، في القسم الرابع لمدرسة EPHE بجامعة السوربون في بداية التسعينيات من القرن العشرين. كل هذه الأمور معروفة في مؤلفات تاريخ الكتابة وحتى في مجرد الموسوعات الإليكترونية الشعبية.1 إلا أنه، وكما هي القاعدة في علاقة المعرفة بالأيديولوجيا، لم يكن ذلك لينال من صلابة استعمال التأويل الأيديولوجي لجهتي اليمين والشمال/اليسار في اتجاه الكتابة كرمزية شبه طوطمية للفرز بين الأنا والآخر الجمعيين. فلما قام في المغرب مثلا سنة 2003، بعد الخطاب الملكي بأجدير ثم إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ما كان قد سمي حينئذ في الصحافة ب"حرب الحرف" فيما يتعلق بكتابة اللغة الأمازيغية، وذلك ما بين أنصار ما يسمى لديهم ب"الحرف الكوني" (ويقصدون "الحرف اللاتيني") وشيعة ما اصطلحوا عليه ب"حرف الأجداد الأمازيغ" (ويقصدون "الحرف العربي")، انتهت "المعركة" الأيديولوجية بما يشبه صلح الحديبية مع وجود الفارق، وذلك عن طريق "تصويت" توافقي في النهاية بالمجلس الإداري لمعهد الإركام لصالح اعتماد حرف ثالث كان أنصاره قلة في ذلك المجلس، أي حرف تيفيناغ، الذي يتوفر مبدئيا كما سبقت الإشارة إلى ذلك على تقاليد متعدد في اتجاه الكتابة؛ إلا أن "الحرب" الأيديولوجية لم تضع أوزارها. فإذ كان قد هدد البعض ب"النزول إلى الشارع" إذا ما تم اعتماد شيء آخر مما عدا "حرف الأجداد الأمازيغ"، فإنه ما أن أقر ذلك المجلس ذلك الحرف الثالث وأخذ مركز التهيئة اللغوية في تكييف أشكال أحرف صيغة "تيفيناغ-إركام" بتعاون مع مركز المعلوميات بنفس المؤسسة حتى أعيد طرح مسألة التميز الأيديولوجي ولو على مستوى اتجاه الكتابة لنفس الحرف المنفتحة تقاليدُه مبدئيا على كل الاتجاهات، وذلك من خلال الإصرار الذي لم يقبل المناقشة على اختيار توجيه كتابة حرف تيفيناغ-إيركام توجيها رسميا "من الشمال إلى اليمين". في هذه الحالة لم يكن الأمر يتعلق لا بإكراهات تناول الإزميل بيد والضرب عليه بيد أخرى على صخرة من صخور الأطلس أو من هضاب التاسيلي، ولا بأي إكراه تقني آخر؛ إذ إن حرف تيفيناغ-إركام هو ربما الكتابة الأولى في التاريخ التي كُتبت أولى كلماتها مباشرة على الحاسوب، ومنه مرت إلى الاعتماد من طرف منظمة ISO للمواصفات، ولا يزال كثير ممن ساهموا في تهيئتها، ومنهم كاتب هذا الركن، لا يتقنون الكتابة بها يدويا بالقلم، ولا يحاولون ذلك نظرا لعدم وجود الداعي إليه. إنه ربط للحداثة بمسايرة اتجاه كتابة "الحرف الكوني"، على غرار محاولة الإطلال على حضارة الغد عن طريق رد عقارب الساعة إلى الوراء. ------------------ 1 انظر مثلا http://fr.wikipedia.org/wiki/Boustroph%C3%A9don