تم الحديث في الحلقة الثالثة، مما خصص لمفاهيم اليمين والشِمال، عما تفرع عن المواضعات النفعية العملية، من مواضعات أخرى سيميو- ثقافية تربط مفهومَ اليمين بالمزايا الإيجابية على مستوى معايير الأخلاق والجمال، وتربط مفهوم الشِمال بعكس ذلك. ومعلوم أن المعايير الأخلاقية، حينما تُستعمل من طرف الدولة أو الحزب أو الحركة الاجتماعية كسلطة للضبط و/ أو التوجيه المؤسَّسين، تسمى أيديولوجية. وسنرى هنا أن مفهومي اليمين والشمال، القائمين أصلا على أساس فيزيولوجية أغلبيةِ الناس قبل إضفاء قيم معيارية عليهما، قد أدرجا، على غرار حدّي بقية الإحداثيات الثلاثة للمكان (أمام/خلف، أعلى/أسفل)، لكن بشكل أكثر بروزا، إدراجا متمكنا كبعدين من أبعاد التصنيف الرمزي الأيديولوجي، الذي أصبح يميز بين "أصحاب اليمين" و"أصحاب الشمال"، أو بين "اليساريين" و"اليمينيين"، وذلك في إطار أيّ تصور لقيمتي الخير والشر مهما كان مضمونهما ومرجعياتهما. فلنبدأ من دورة الرحى اليدوية. إن التركيبة الفيزيولوجية الخاصة بالشخص المشغِّل للرحى هي التي تحدد بالنسبة إليه اليد التي يمدها إلى شِظاظها ليديرها؛ وتلك اليد، بحكم موقعها من مركز ثقل الجسم أمام قطب الرحى، هي التي تحدد الاتجاه الذي يستسيغ الشخص إدارة فك الرحى نحوه بأقل مجهود ممكن. وإذ التهيئة الفيزيولوجية عند أغلب الناس على ما ذكر، وإذ الرحى، مثل البيدَر، مرفقٌ معاشي أساسي ارتبطت به على المستوى الانثروبولوجي كثيرٌ من الطقوسيات استدرارا لليُسر والبركة، فقد تم ترسيم اتجاه تدوير الأغلبية لفك الرحى كاتجاه "صحيح" ميمون ومبارك. ونفس الشيء قد اعتُبر وتم اعتماده في تصميم تدوير الدوابّ لرِحِيّ المعاصر، وحتى في تنظيم حلقات مسابقات العدو في المسافات المتوسطة، إلى غير ذلك. وقد تم بعد ذلك إضفاء قيَم غيبية مطلقة على هذا الاتجاه في الحركة المائلة. فإذ تُفضِّل الرمزيات الأخلاقية الحركة المستقيمة عموما على الاعوجاج والانحراف، وإذ تفضّلُ التقدمَ على التقهقر (أمام/خلف)، وتفضل الارتقاءَ إلى علّيينَ على الانحدار إلى السافلين (أعلى/أسفل)، فإن التحرك المائل، الذي ليس له موقعٌ إيجابي في منظومة الرمزيات المعيارية إلا في شكله الدائري، قد استمَدَّ اتجاهَه الميمونَ والمبارَك أخلاقيا من نفس القبيل من الأسس التي رسّمت اتجاهَ الدوران بالنسبة للرحى، وبيدَر الدِراس، ومطاف المِعصرة، ومسالك مسابقات العدائين والخيل والكلاب وغيرها، أي أن يتحرك المتحرِّك من جهة يمينه ميالا إلى جهة شماله (باعتبار "اليمين والشمال" عند الأغلبية دائما). ولقد تمت من جديد مؤخرا اجتهادات قبالية لإضفاء قيمة غيبية مطلقة على هذا الاتجاه في أيّ طواف. فقد ذهب بعض "النيو- مجتهدين" مثلا إلى "عقلنة" اتجاه منسك الطواف حول الكعبة، الذي هو من اليمين إلى اليسار منذ الجاهلية، فاعتبروه الاتجاهَ "الصحيح"، المبارك بالكشف الغيبي لحكمة مطلقة ذاتية فيه، بدلا من القول بأنه اتجاه قد أقِر لمجرد مطابقته للفطرة والاستعداد الفزيولوجي لأغلب البشر؛ وذلك بالرغم من أن هؤلاء "المعقلِنين" يدعمون تأصيلهم ذاك بالاستشهاد بدوران الرحى، وطوافات السباق، وغير ذلك مما يعتبرونه يعكس ناموسا معياريا كُلّيا. لكن أطرف ما استشهدوا به هو دوران أجرام المجموعة الشمسية في أفلاكها حول الشمس "من اليمين إلى اليسار" تماما كطواف الحجيج حول الكعبة في اتجاه دوران الرحى! والواقع أنه لو استمرت التقاليد الكارطوغرافية لأمثال الشريف الإدريسي، التي ترسم الخارطة بجعل شَمالها (أي ما هو لجهة النجمة القطبية) في أسفل الخارطة، مما يجعل الجنوب في أعلاها، والشرق على يسارها، والغرب على يمينها، كما يمكن ملاحظة ذلك في الخارطة المعلقة بباب مدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب-أكدال بالرباط، لانقلبت الصورة الكوسموغرافية لتمثيلِ أجرام المجموعة الشمسية على الورق بالقياس إلى النجمة القطبية، ولأصبحت تلك الأجرام تمثَّل على الورق وهي تدور حول الشمس "من اليسار إلى اليمين". لكن لم يقدر لكارطوغرافيا الإدريسي أن تستمر بعد ثورة كوبيرنيك وكاليلي التي أرست تواضعا جديدا لتمثيل الفضاء الكوني على الورق مثلما تم التواضع بعد ذلك على اعتبار الخط الرابط بين القطبين والذي يمر من قرية "كرينيتش" البريطانية كخط الطول رقم "صفر"، وهو التواضع الذي يرى نفسُ "المعقلنين" الجدد، من جهة أخرى، بأنه غير صحيح بعدما ثبت لديهم بنوع من حساب المسافات بأن مكة هي مركز السطح اليابس من الكرة الأرضية (دون بيان الحقبة التاكطونية المرجعية)،1 وأن خط الطول الذي يمر بها هو خط الصفر "موضوعيا"، وأنه يتعين بناء على ذلك أن يتم التواضع على اعتماده لإعادة ضبط التوقيت العالمي. وعلى ذكر التوقيت، تحضر الساعة ذات العقارب، واتجاه دوران عقاربها. ومعلوم بأن التواضع على اتجاه عقارب الساعات الميكانيكية التقليدية "من اليسار إلى اليمين" (عكس دوران الرحى وطواف الكعبة) إنما هو استمرار لما تم التعود عليه من ضبط التوقيت عن طريق ملاحظة تحرك خط ظل العمود المثبت في مركز لوحة الساعة الشمسية كلما تحركت الشمس ظاهريا من مشرقها إلى مغربها، وهي الساعات التي تعايشت لأجيال مع الساعات الميكانيكية ذات العقارب بعد ظهورها في القرن 14. ولولا أن حضارات الساعة الشمسية، بما فيها الحضارة الإسلامية، قد انبثقت في النصف الشمالي من معمور الكرة الأرضية، مما يجعل ظل عمودها يتحرك على اللوحة من الغرب في الصباح، متجها نحو الشَمال في الزوال، ثم نحو الشرق في المساء (أي من اليسار إلى اليمين بالنسبة للملاحظ من الجنوب)، لكان ظل ذلك المؤشر يدور في الاتجاه المعاكس (من اليمين إلى اليسار) بالنسبة للملاحظ، ولحذت عقارب الساعات الميكانيكية حذوه. وبالرغم من كل أسس الدوران هذه، التي ترتد في أصولها إلى مجرد نشدان الملاءمة مع فيزيولوجيا الإنسان وطرق إدراكه في تفاعلها مع موقعه من حركات الطبيعة، فإن أدلجة رمزيات اليمين واليسار قد دفعت إلى إكمال منطق الدعوة إلى إعادة ضبط التوقيت العالمي باعتماد "مركز الأرض" وخط الطول الأساسي "موضوعيا"، وذلك بإنشاء أكبر وأعلى ساعة ميكانيكية في العالم تزن عقاربها مآت الأطنان وتتميز تاريخيا بدورانها من اليمين إلى اليسار، على غرار دوران طواف الكعبة، وفي اتجاه كتابة الحرف العربي والعبراني. ------------------------ 1 قبل هذه القباليات الجديدة، انطلق قبّاليو اليهودية-المسيحية منذ قرون من الآية 12 من الإصحاح 32 لحيزقيال، ف"أثبتوا" بمختلف التأويلات والحسابات، بما فيها الحسابات الضوئية، اليوم، لواقعة انفجار ال"بيغ-بانغ"، بأن بيت المقدس (أولى القبلتين عند المسلمين)، هي مركز الأرض التي هي مركز الكون (http://www.vision.org/visionmedia/article.aspx?id=620). [email protected]